إنها ليلة الرعب في المدينة؛ ليلة الوقفة ! كل شيء ممتلئ بالضجيج والفوضى والقلق والانتظار، كل الاحتمالات مفتوحة على سقف الممكن والمتعجل، كل الأمنيات مرفوعة حتى النطق بحكم صباح العيد وخيوط شمسه الملونة. كل الناس خائفة من أن لا تستطيع أن تكمل عيدها كما يجب! فإذا انتهت تفاصيل الملابس والألعاب والملاءات والستائر السيدات يهتممنّ بها أكثر من تفاصيل البيت الأخرى، ولا أدري لماذا؟ بدأت مفاصلة الخروف كواجب اجتماعي أكثر من أن يكون دينياً! وقد يستدين كثير من أرباب الأسر لسد هذه الثغرة المقامية لإظهار المستوى الاقتصادي الميسور أمام (ناس الحلة)، وحتى لا يحسبنّ ممّن لا يملكون قوت سنة فتسقط عنهم الأضحية! وبذلك تصبح الأضحية بالاستدانة ليست أضحية شرعية، لكنها أردية أجتماعية يرتديها باب البيت يوم العيد قميصاً مملوءاً بدم كذب! كي يعيش بعده أهل البيت غير خاسرين علاقاتهم وجيرانهم وماء وجوههم.. لكن بالضرورة سيخسرون تضريباتهم الاقتصادية لبقية العام! وكل عام تضج برامج الفتاوى الدينية بما يسأل فيه الناس في العيد في ما يتعلق بالشربوت، حلاله من حرامه، وجلد الخروف كيف يمشي ولصالح من يكون.. و... ولا يجرؤ أحد على السؤال عن أحقيته ووجوبه على من، وبالطبع لن يجرؤ شيخ على أن يفتي بحكمة مشروعية الأضحية، وكيف أن المجتمع حوّلها إلى قيمة مظهرية، وكيف أن البيوت ربّت أبناءها على التفاخر بصوت الخروف أكثر من صمت الأرقام المعدودة لماله وعلى ميزانية اليوم بدلاً من كل العام! وهذا العام ورغم أن الدولة متمثلة في وزارة الاقتصاد وبالتتابع مع بقية الوزارات والهيئات، حاولوا إثبات حسن النية بدفع مستحقات الآلاف من المفصولين والمتضررين من قرار الصالح العام من قبل أكثر من عشر سنوات، وفي هذا التوقيت الحرج من السنة، ورغم دفعها راتب شهر نوفمبر مقدماً للمساعدة على تحقيق أكبر قدر من الاستقرار المالي للشعب إن كانوا على المستوى الوظيفي أوالمستوى العام، ووعدها بتسليم راتب شهر ديسمبر كذلك مقدماً للميزانية العامة ثم بالطبع توفير خراف الأضاحي إن كانت بالتقسيط أو بالدفع المقدم أو الهبات أو حتى صناديق العاملين، كل ذلك لنفخ روح العيد في الجسد السوداني المتعب من الأحزان والمرهق من الديون، ولتحقيق الشروط الأساسية للمضحي، إلا أن السيطرة التجارية والمفهوم الغريب لمصدري المواشي بأنه كموسم حار فيه فريضتان متتاليتان، الحج والأضحية؛ يحقق لهم على المستوى العام والخاص دخلاً يكفلهم على مدار العام، ثم الفلسفة الغريبة لمسألة تصدير الخراف إلى الدول العربية لذات الحوجة، ولما تتميز به كماشية على كثير من قطعان البلاد الأخرى، مما يسبب عجزاًَ في فائض الماشية المحلية. كل ذلك جعل من ملاطفة وزارة المالية للشعب وموازنتها للعيد تذهب مع الريح وتتحول إلى قروش، يادوب، تكفي لتغطية الستائر وبقية المذكور أعلاه ! إن أعلى نسبة ارتفاع للأسعار، وكما غطتها معظم محطات الإذاعات والفضائيات المحلية، تكون حين الأعياد والمناسبات الدينية المحترمة، وأكبر أزمة حركة وسير ومرور تكون فيها كذلك، وفي ذات الأماكن المعهودة كل عام، وعلى مدار الأعوام، وأكثر الأرقام الخرافية للخراف نسمعها هذه الأيام وكذلك الخضر! مما يخبرنا - دون حاجة إلى آلة حاسبة أو دماغ متميز - أن هذا العام هو الأسوأ على مستوى التضخم، منذ أزمة السكر السابقة التي تزامنت أيضاً مع الحوجة الماسة له أوان شهر رمضان الكريم، وحتى الأسعار المخيفة للخراف الآن والبلح العامل المساعد للأضحية السودانية إن وجدت! كلنا وبدون فرز نجدها أزمة مستقرة وثابتة تنتهي أوان أن تسيطر الدولة بكامل هيئاتها ووزاراتها على قائمة الأسعار في الأسواق، وأن تنهي حالة الفوضى والسخرية من التجار عليها قبل أن تكون على جيوب المواطنين المستهلكين؛ وأن تنير (اللمبة) الحمراء في عيون وجيوب مستثمري الأعياد والمناسبات الدينية، ليعرفوا أنهم لن يحصلوا على ثروة من أفراح وأمنيات وشعائر الناس ما دامت هي كدولة مسؤولة عن تحقيق أبسط هذه الأمنيات والواجبات، وليعرفوا كذلك أنهم كتجار لا يعلون فوق مستوى الدولة مهما بلغت سيطرتهم القابضة على مدخلات الخزينة أو الصادر والوارد، ولن يستطيعوا إلغاء توجهاتها وقوانينها بأرقام تضاف إلى حساباتهم الخاصة إلا إذا كانت تستفيد منهم بشكل أو بآخر!! هو آخر يوم قبل العيد طبعاً، وهو اليوم المبارك لحجاج بيت الله بطلوع جبل عرفة، وهو اليوم الذي يصوم فيه معظم المسلمين تقرباً وزلفى لله وتمنياً لغفران الذنوب، وهو كذلك اليوم المرعب الذي يحسم فيه معظم أولياء الأسر قرارهم بأن ستكون هناك أضحية أو سيخبرون أهلهم بأنهم سيختارون النظرة الاجتماعية بأنهم الفقراء غير القادرين على تلوين باب بيتهم باللون الأحمر لدم الأضحية، على أن يتذوقوا الحماقة في طعم خروف الاستدانة الذي سيحولهم إلى ضحايا للديون طوال العام. لهذا سأصوم عن كل طلوع تقرباً لهذا العيد المبارك، وسأختار الفقر بأن تكون ضحيتي أمنية بيضاء قرناء محجلة بأن يكون هذا العام سعيداً وجديداً، وأن يكون عاماً فيه يغاث الناس ويأكلون، ويعصرون ويشربون وينامون ملء العين والضمير والحساب.. وكل سنة طيبين.