عندَما جَعلنَا الحَضَرِي (في عَدّاد المَجغُومِين)    حكومة أبو نوبة.. ولادة قاتلة ومسمار آخر في نعش "تأسيس"    نص خطاب رئيس مجلس الوزراء "كامل ادريس" للأمة السودانية    السفير عدوي يشيد بدراسة إنشاء منطقة لوجستية على الحدود السودانية    الاهلي المصري نمر من ورق    الجمعية العمومية الانتخابية لنادي الرابطة كوستي    السجن والغرامة على متعاون مع القوات المتمردة بالأبيض    ميسي يقود إنتر ميامي لقلب الطاولة على بورتو والفوز بهدفين لهدف    "حكومة الأمل المدنية" رئيس الوزراء يحدد ملامح حكومة الأمل المدنية المرتقبة    الفوز بهدفين.. ميسي يقود إنتر ميامي لقلب الطاولة على بورتو    "الأمة القومي": كامل ادريس امتداد لانقلاب 25 أكتوبر    لما سقطت طهران... صرخت بورسودان وأبواقها    6 دول في الجنوب الأفريقي تخرج من قائمة بؤر الجوع العالمية    فقدان عشرات المهاجرين السودانيين في عرض البحر الأبيض المتوسط    عودة الخبراء الأتراك إلى بورتسودان لتشغيل طائرات "أنقرة" المسيّرة    30أم 45 دقيقة.. ما المدة المثالية للمشي يومياً؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من ضبط منزل لتزييف العملات ومخازن لتخزين منهوبات المواطنين    هل سمعت عن مباراة كرة قدم انتهت نتيجتها ب 149 هدفاً مقابل لا شيء؟    بين 9 دول نووية.. من يملك السلاح الأقوى في العالم؟    لماذا ارتفعت أسعار النفط بعد المواجهة بين إيران وإسرائيل؟    وزارة الصحة تتسلّم (3) ملايين جرعة من لقاح الكوليرا    "أنت ما تتناوله"، ما الأشياء التي يجب تناولها أو تجنبها لصحة الأمعاء؟    ماذا قالت الصحف العالمية عن تعادل الهلال مع ريال مدريد؟    تقرير رسمي حديث للسودان بشأن الحرب    يوفنتوس يفوز على العين بخماسية في كأس العالم للأندية    نظرية "بيتزا البنتاغون" تفضح الضربة الإسرائيلية لإيران    السودان والحرب    عملية اختطاف خطيرة في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية فائقة الجمال تبهر المتابعين وتخطف الأنظار بتفاعلها مع "عابرة" ملك الطمبور ود النصري    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل زفاف بالقاهرة.. العازف عوض أحمودي يدخل في وصلة رقص هستيرية مع الفنانة هدى عربي على أنغام (ضرب السلاح)    شاهد بالصورة والفيديو.. مطربة أثيوبية تشعل حفل غنائي في أديس أبابا بأغنية الفنانة السودانية منال البدري (راجل التهريب) والجمهور يتساءل: (ليه أغانينا لمن يغنوها الحبش بتطلع رائعة كدة؟)    هل هناك احتمال لحدوث تسرب إشعاع نووي في مصر حال قصف ديمونة؟    ماذا يفعل كبت الدموع بالرجال؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من الإيقاع بشبكة إجرامية تخصصت فى نهب مصانع العطور بمعاونة المليشيا المتمردة    9 دول نووية بالعالم.. من يملك السلاح الأقوى؟    الصحفية والشاعرة داليا الياس: (عندي حاجز نفسي مع صبغة الشعر عند الرجال!! ولو بقيت منقطها وأرهب من الرهابة ذاتا مابتخش راسي ده!!)    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التغيير السياسي في السودان..أي تغيير؟ ولماذا التغيير؟
نشر في حريات يوم 27 - 11 - 2010


* وحدة الحصان والسايس
مدخل
عندما دُعيت للكتابة عن آليات التغيير السياسي في السودان، تبادر إلى ذهني سؤالان: تغيير ماذا؟ والتغيير من أجل ماذا؟
فإن لم تكن هناك إجابة على ذينك السؤالين يصبح التحليل لظاهرة التغيير – أياً كان معناه – هبشاً للكلام، أي الأتيان به أخلاطاً بلا معنى، خاصة إن كان المراد بالتغيير تغيير وجوه الحاكمين دون اعتبار لغايات الحكم. فالتغيير السياسي هو التحول من حال مادي ومعنوي إلى حال. ومنذ مطلع الاستقلال ظل الحكم عَواراً بين المدنيين والعسكريين بحيث خلقت متلازمة التناوب المدني – العسكري للحكم إنطباعاَ بأن آليات الوصول إلى الحكم هي الاستفتاء الشعبي (الانتخابات)، الانقلاب العسكري ، ثم الانقضاض الجماهيري على الحكم العسكري عَبر ما درجنا على تسميته بالانتفاضة. عوضاً عن التعمق في هذه الظاهرة ثلاثية الأضلاع ذهب أغلب أهل السياسة، وكل العسكريين الذين اختطفوا الحكم، للتعلل بسؤال يقيمون عليه ولا يفارقونه أبداً. السؤال دوماً هو: “من الذي يتحمل المسئولية عن ضياع، أو إضاعة الديمقراطية؟”. هذا السؤال قلما يسبقه أو يصحبه تبيان لأهداف الديمقراطية وغاياتها. فالعسكريون، مثلاً، في ردهم على ذلك السؤال يضعون المسئولية كاملة على عاتق الأحزاب لعجزها، فيما يدّعون، عن إدارة دفة الحكم، أو الحفاظ على وحدة البلاد وإيقاف نزيف الدم. تلك هي الدعاوى التي ظل يبرزها كل إنقلاب عسكري على الحكم المدني في بيانه الأول. أما الأحزاب فلم تكن ترى سبباً واحداً لانهيار الحكم المدني غير شهوة العسكر للتسلط على الحكم عنوة و اقتداراً، وكأن الجيش السوداني إنكشارية عثمانية يوجهها قوادها إلى حيث يريدون لها أن تتجه وليسوا مواطنين في بلد لهم فيه أهل وصحب وقبيل. ولإثبات تلك الدعوى ما فتئ السياسيون يقولون إن الأحزاب حكمت السودان منذ الاستقلال فترة لا تتجاوز العشر سنوات في حين حكمها العسكريون أو الانظمة السياسية المعسكرة خلال ستة وثلاثين عاماً. من تلك المعادلة يستنتج القائلون بها أن العسكريين يتحملون المسئولية، ربما بصورة مطلقة، عن
(أ‌) الحيلولة دون النمو الطبيعي للديمقراطية
(ب) إعاقة التنمية الاقتصادية والاجتماعية
هذه معادلة قد تستقيم إن أخذناها على وجهها الشكلاني، ولكنها لا تستوي إن نفدْنا بها من الشكل إلى الجوهر. الجوهر هو حل مشاكل السودان الحيوية التي يتدافع السياسيون المدنيون للبقاء في الحكم من أجل تحقيقها، ويتساعى العسكريون بالحديد والنار للاستيلاء على الحكم بغية حلها، أو هكذا ما ينبغي أن يكون عليه الأمر. وعلنا نقول بيقين راسخ إن مشكلة السودان الرئيسة التي قادت إلى اضطراب الحكم، وتمزق الوطن، وإهدار فرص التنمية، وترسيب سوء الظن بالآخر، هي الحرب. تلك الحرب ظلت تستعر خلال الفترة من 1955م (فترة الحكم الذاتي) إلى عام 2002م (بروتوكول ماشاكوس). ما يبعث على الدهشة هو أن المرتين اللتين توصل فيهما الحكم في السودان لحل لمشكلة الحرب كانتا في ظل حكم عسكري (1972م في عهد نميري) أو حكم حزبي معسكر (2005م في عهد الإنقاذ). لماذا حدث هذا في بلد كانت له الريادة في الاستقلال، وحباه الله بثروة طبيعية حافلة، وبموارد بشرية ثَروا بها نظراءهم؟
السودان رائد الاستقلال في أفريقيا
السودان هو أول قطر ينال الاستقلال في أفريقيا جنوب الصحراء إذ كان أول بلد استقل في تلك الرقعة من القارة بعد ليبريا، الدولة التي اصطنعها اصطناعاً الرئيس الأمريكي جيمس مونرو في عام 1847م ولهذا نُسب إسمُ عاصمتها إليه (مونروفيا)، وأثيوبيا التي ظلت تنعم بالاستقلال على عهود نجاشييها المتعاقبين إلى أن احتلها الإيطاليون في الحرب العالمية الثانية ثم أجلوا عنها بعد اندحار الفاشية في إيطاليا عام 1944. كما كان السودان أيضاً هو ثالث قطر في الشمال الأفريقي ينال استقلاله بعد مصر وليبيا التي استقلت عام 1951م في أعقاب سقوط الفاشية. أما الدول الأخرى الثلاث فقد نالت اثنتان منهما (تونس والمغرب) استقلالهما في نفس العام الذي استقل فيه السودان (1956م) ولكن بعد استقلاله بشهور، كما أصبحت الجزائر دولة مستقلة في عام 1962م.
برحيله عام 1956م خلّف الاستعمار وراءه آثاراً لا ينكرها إلا مُكابر: خدمة مدنية قادرة، وقضاء رفيع، وجامعة ذات بال. ولعل هذا هو السبب الذي حمل كثيراً من إخوته في المشرق والمغرب للاعتضاد به بعد استقلاله إما بحثاً عن فرص التعليم، أولصياغة الدساتير عند الاستقلال، أو لإرساء قواعد القضاء والتشريع، أو تسيير الإدارة، أو فض النزاعات التي طرأت فيما بينهم. فكلية الخرطوم الجامعية، مثلاً، هي التي دَرُب فيها الرعيل الأول من حكام اليمن الجنوبي، ودستور اليمن الجنوبي تم صوغه على يد شيخنا الجليل الراحل محمد أحمد أبورنات، وأسس الحكم الشرعي في شمال نيجريا أرساها ثلاثة من أكبر القضاة الشرعيين الراحلين: النور التنقاري، بشير الريح، محمد صالح سوار الذهب، ودستور دولة الإمارات أسهم في وضعه الدكتور حسن الترابي، وأسس الإدارة الحديثة والأمن فيما كان يعرف بالإمارات المتصالحة (Trucial States) والتي أصبحت، بعد توحيدها واستقلالها، دولة الإمارات المتحدة، قام بوضعها نفر من القادرين من رجالات الإدارة والقانون من السودانيين. من جانب آخر لجأت المنظمات الإقليمية، أول ما لجأت، إلى السودانيين للاستفادة من دربتهم ودرايتهم في مناشط عدة مثل استعانة اللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة بمدير الخطوط الجوية السودانية، عبد الباقي محمد لوضع المشروع النموذج للخطوط الجوية للدول الأفريقية الناشئة، وانتداب منظمة الوحدة الأفريقية في بداية عهدها لكبير دبلوماسيي السودان في زمانه، محمد عثمان يس، لفض النزاع بين الجزائر والمغرب في مطلع الستينات، واستدعاء الأمم المتحدة له لوضع أسس تدريب الدبلوماسيين في الدول الأفريقية التي استقلت حديثاً.
لكل هذه الأسباب أطلق الأمين العام الثاني للأمم المتحدة، داق همرشولد، على النخبة السودانية اسماً يبعث على المسره: “بروسيو أفريقيا” (The Prussians of Africa). وقد عُرف البروسيون، ومنهم بسمارك، بشدة المراس، وقوة الشكيمة: وعندما وفد الى السودان قبيل رحلته المشئومة إلى الكنغو التي لقي فيها حتفه، أبلغ همرشولد وزير خارجية السودان محمد أحمد محجوب عن عزمه على اختيار أول أفريقي من السودان ليصبح نائباً للأمين العام للأمم المتحدة وسكرتيراً تنفيذياً للجنة الاقتصادية للأمم المتحدة بأديس أبابا. مرشحه للمنصب يومذاك كان هو الراحل مبارك زروق، زعيم المعارضة بالبرلمان السوداني، إلا أن تقديره للسودانيين ارتفع كثيراً عندما أبلغه المحجوب أن السودان لا يستطيع التخلي عن زعيم معارضة في قدرة زروق على تدبير الأمور وتسويتها. وهكذا اتفق السياسيان السودانيان، محجوب وزروق، على ترشيح الأستاذ مكي عباس للمنصب. هذا جزء من التاريخ نستذكره لا من باب النوستالجيا، فالنوستالجيا شوق مرضي لما فات، وإنما لاستكشاف الظروف التي جعلت بلداً كان في بداهة استقلاله محط أنظار العالم البعيد والقريب ينتهي به الأمر إلى بلد إخوة أعداء ينهش الواحد منهم لحم الآخر، ولايبالي بذلك إلا لماماً.
الاستعمار ليس بسامري
بيد أن الاستعمار لم يكن سامرياً فاعل خير، وإنما كان دولة غازية جاءت بها إلى السودان مصالح حيوية يسعى إلى تحقيقها بأقل التكاليف. من ذلك حصر التنمية في الشمال النيلي: الشمالية والسودان الوسيط ما بين النيلين. فتلك هي الرقعة التي تتسع فيها الأراضي الصالحة للزراعة، وتغمرها المياه، وتتوفر فيها العمالة ذات الدربة في الزراعة، إضافة إلى قربها من المرافئ البحرية لأن الاقتصاد السوداني كان، في جوهره، اقتصاد تصدير من المستعمرات إلى المتروبول. هذا النموذج المثال للتنمية (Development Paradigm) أغفل، بطبيعته، كل الغرب (كردفان ودارفور)، والشرق باستثناء بورتسودان، والنيل الأزرق، ثم الجنوب. ولعل الأخير سقط تماماً من حساب المستعمر لأسباب عدة منها عدم استقرار رأيه على أن كان الجنوب سيبقى جزءً من الشمال أم يلحق بمستعمرات شرق أفريقيا، كما منها التخلف المريع الذي كان عليه الجنوب والتكلفة الباهظة للإرتقاء به. المشروع التنموي الوحيد الذي أقامه البريطانيون في نهاية أربعينيات القرن الماضي كان هو مشروع أنزارا الإعاشي والذي أطلق عليه منشئوه الدكتور توتهل (مدير الزراعة، ومن بعد أول مدير لكلية الخرطوم الجامعية) وصفاً لا يخلو من التهوين من قدر المنتفعين بذلك المشروع “تجربة في النشوء الاجتماعي للسلالات الأصلية في المناطق النائية”. (Experiment in Social Emergence of Indigenous Races in Remote Areas). لهذا، فإن خلف الاستعمار عند خروجه مؤسسات تعليمية وإدارية ذات قدارة إلا أنه أيضاً ترك من وراء ظهره قنابل زمنية إن لم تقتلع في الوقت المناسب، سيقود انفجارها إلى خراب واسع وأذى عميم.
وحدة الحصان والسايس
من بين هذه القنابل، بل على رأسها، قنبلة الجنوب والتي لم يكن هناك من سبيل لاقتلاعها غير السعي لتوحيد السودان عند الاستقلال برضا من أهله جميعاً. فالوحدة التي لا تنجم عن تبارٍ في الرضا لن تستدام. ولربما كان الأذى الذي لحق بالجنوب والشمال معاً من جراء الحروب ليصبح أقل حدة لو كان ساسة الشمال أقل استمساكاً بوحدة البلاد على عينهم وحسب مزاجهم. الوحدة أمر مرغوب لأن فيها منعة للأمة إلا أن مثل تلك الوحدة لا تتحقق إلا عن رضى. وعبر التاريخ لم يعرف العالم أمة ولدت موحدة، فالدول جمعاء تكونت من أخلاط من الأقوام لقوا أنفسهم في رقعة من الأرض، أو ارتحلوا من مرابعهم القديمة إلى أرض جديدة أكثر اخضراراً، فتوشجت بينهم العلائق، وترابطت المصالح، وتفاعلت الثقافات.
الساسة الفاعلون يومذاك رغم كل قدراتهم المشهودة كانوا يعانون من أزمة في الرؤية السياسية. فنظرتهم لم تكن تخلو، في جانب منها، من الرومانسية التي يحركها الوجدان لا العقل. من ذلك قولهم: “سنبقى على السودان كما ورثناه عن أبائنا”. عدم العقل في هذا الزعم هو أن الذي وحد السودان هو خديوي مصر ولذلك يصح مثل ذلك الزعم إن كان من يقول به هو واحد من سلالة محمد علي الألباني. حقيقة الأمر أن وحدة السودان التي أسسها الحكم التركي وأدامتها من بعد الثورة المهدية كانت تعميداً بالنار (baptization by fire) مما يجعل من الوحدة المبتغاة إن قامت على “ما ورثناه من أجدادنا”وحدة بين أرض الشمال وأرض الجنوب، لا وحدة بين الشماليين والجنوبيين. والأخيرة هي وحدة تفاعل حضاري في فضاء جغرافي فرض علينا، وفضاء سياسي نخلقه بتوافق فيما بيننا، وفضاء ثقافي يسمح للثقافات المتنوعة والمتعددة أن تتلاقح ويثري بعضها بعضاً. بيد أن الرؤية الموروثة للوحدة، والأدوات التي توسل بها الدعاة الشماليون لتحقيقها أكدت من دون أي شك معقول أن تلك الوحدة المبتغاة هي وحدة كتلك التي بين الحصان وممتطيه.
قنبلة الاقتصاد
القنبلة الثانية هي المنوال التنموي الذي أورثه الاستعمار للحكم الوطني والذي حَرَم، بطبيعته، أطراف السودان في الشرق والغرب من التنمية، ومن أصاب منها شيئاً لم يصب إلا وشلاً. ذلك حال إن دام ولم يستدرك فلا محالة من أن يحفز ضحاياه في نهاية الأمر إلى الخيل والركاب. هذا أمر اثبته التاريخ إذ بين مؤتمر البجه في عام 1958م وحرب الشرق في نهاية تسعينيات القرن الماضي عُلقة. وبين حركة سوني في النصف الثاني من ذلك القرن وحرب دارفور اليوم وصلة. وبين تململ اتحاد جبال النوبة وما أعقبه من تمرد سياسي بقيادة الأب فيليب عباس غبوش في الستينات رابطة لا تخفى على لبيب قادت في نهاية المطاف إلى انتقال أبناء النوبة من وضعهم كمحاربين ضد الجنوب في الجيش السوداني، إلى محاربين ضد ذلك الجيش في صفوف الجيش الشعبي.
هذان الأمران لم يأتيا على أولي الأمر في السودان على غفلة منهم، بل نقطع أن إغفالها يكن تغابياً للأمر من النخبة السياسية الحاكمة والمعارضة. تلك النخبة، وأغلبها من ذوي الإرب (الذكاء والفطانة)، كانوا يلمون بتجارب الأمم في توحيد أقوامها المتنافرين، ودونهم كانت تجربة الهند التي كثيراً ما يحلو لنا الاستشهاد بها. فالتنوع الديني والعرقي والثقافي في الهند وتعدد مظاهره يتضاءل أمامه تنوع أهل السودان. كما أن الجيل الذي نتحدث عنه من أولي الأمر في السودان كان هو جيل مؤتمر الخريجين الذي أطلق على تجمعه السياسي اسم المؤتمر استيماناً، إن لم نقل تبركاً، بالمؤتمر الهندي. العجز عن استلهام هذه التجارب التي أشادت بذكرها تلك النخبة في فترة النضال الوطني، ثم الإصرار على تجافيها بعد الاستقلال، يعبر عن حالة مرضية ما كان ذوو الإرب هؤلاء ليسطيعونها إلا بعون من الله رب العالمين “ولو شاء الله لأعنتكم”، أي أوقعكم في مشقة.
إدمان الفشل
تحقيق الوحدة بين أهل السودان برضى أهله، لا وفق ما يشتهي أهل الحل والعقد في الشمال، وإزالة الظلامات التاريخية التي لحقت بأغلب أهل السودان وليس فقط بالجنوبيين منهم، هما الغاية التي كان ينبغي أن يتجه إليها الطامحون للحكم والطامعون فيه. ولانعرف للحكم غاية عداهما. فالتنمية، والتطور، وإحلال السودان الموقع الذي يؤهله له تاريخه وجغرافيته تحت الشمس، كلها أمور هامة ولكنها لا تتحقق إن لم ندرك جذر الأزمة، ثم نذهب إلى معالجتها علاجاً يجتث الداء من أصله. ونظلم أنفسنا، أكثر مما نظلم التاريخ إن قلنا إن آباء الاستقلال كانوا أغراراً غافلين عن أصل المشكل بعد إشادتنا بقدراتهم، كما نظلم العسكريين ونظلم أنفسنا إن ذهبنا للظن بأن استيلاء العسكريين على الحكم لم يكن إلا من أجل شهوتهم في الحكم. فالشعارات التي رفعها الطرفان، كما رفعتها الإنتفاضتان (1964م و 1985م) ثم الإنقلاب العسكري في 1989م (قبل أن يكشف للناس راياته الحزبية الأيدولوجية) كانت جميعاً هي إنهاء الحرب، وتوحيد الوطن، وتحقيق التنمية المتوازنة. والتعبير الأخير يشي بالاعتراف بأن المنوال التنموي الموروث من الاستعمار لم يؤدِ إلا إلى تنمية بَخُس بيعها وطففت مكاييلها بالنسبة للأغلبية الغالبة من أهل الأطراف، إن جاز التعبير. فالذي نسميه أطرافاً هي الرقاع من الوطن التي وسعت أغلبية أهل الريف الذين يمثلون ثمانين بالمائة من القوة العاملة في السودان. هؤلاء ظل خيرهم لغيرهم، ولهذا قيل عن واحدة من تلك الأقاليم الطرفية “الغرا أم خيراً بره”. ذلك الإقليم الطرفي يعد بحق السودان المصغر المستصغر. فكردفان هي الإقليم الوحيد الذي لا يحاد أي دولة خارجية يتفاعل معها: الشمال تحاده مصر، الشرق تحاده أريتيريا وأثيوبيا، دارفور تحادها تشاد، والنيل الأزرق تحاده إثيوبيا، والجنوب يحاد خمس دول يوغندا، كينيا، الكنغو، إثيوبيا، أفريقيا الوسطى. كردفان وحدها هي البوتقة التي تقع في قلب السودان مما قاد إلى انصهار كل أقوام السودان فيها.
لماذا إذن، ظلت الأنظمة المتعاقبة عاجزة عن إيقاف الحرب التي بددت الموارد، وأهدرت فرص التنمية، وأذهبت أهل السودان شعاعاً عاجزين عن الجزم فيما توافقوا عليه فرادى في حالة الأنظمة الديمقراطية وليدة الانتخابات (الفيدرالية عند الاستقلال، قرارات مؤتمر المائدة المستديرة (1965م)، إتفاق الميرغني – قرنق (1988م)، أو عن المضي إلى النهايات المنطقية لما استقر عليه عزمهم أمام العالمين كحالة نكوص نميري عن إتفاق أديس أبابا الذي تحقق عبره سلاماً دام عشر سنوات (1973م-1983م). إزاء العجز عن تحقيق ذلك الهدف أضحى الحديث عن التنمية المتوازنة حديثاً مخاتلاً فالتنمية التي لا تمييز بين درجات التخلف لا تحقق توازناً. والاستقرار السياسي في ظل الحروب يصبح وهماً لأن الذي يبني بيد ويهدم بأخرى لا يحقق استقراراً. بل إن الديمقراطية نفسها تصبح أضلولة لأن الديمقراطية التي لا تقوم على أساس دستوري لا شبهة في التراضي عليه بحيث يقبل الجميع الاحتكام إليه فيما شجر بينهم من خلاف في أمور الحياة تفتقد أهم مقومات الديمقراطية ألا وهو القبول عن طواعية.
وكما نعرف جميعاً، الخلاف بين ساسة السودان، بجنوبه وشماله، حول الدستور الذي تنبني عليه الديمقراطية قديم قدم تاريخ السودان المستقل (1 يناير 1956م)، والخلاف حول لامركزية الحكم قديم هو الآخر. وفي الحالتين ما كان للمشكل أن يستعصي على الحل لو أن أهل الحل والعقد أتوا البيوت من أبوابها، بدلاً من الاحتيال على فتحها بغير مغاليقها. فالتوافق بين الأطراف المتشاجرة حول قضايا الوحدة، والهوية الوطنية، والديمقراطية، والتنمية، واللامركزية لا يتم إلا بتلمس رأي الآخر واستيفاء إدراكه بعقل وعيب، وبروح سمحاء. ففي السماحة ووعابة العقل مندوحة من الخطل وسوء الظن.
الأسطورة القاتلة
نزعم أن مصدر الداء هو تعلل أهل الحل والعقد يومذاك بأسطورة قاتلة، هي أنهم أكثر وعياً ودراية بمصالح أبنائهم القاصرين، هذا إن أحسنّا الظن بأغلبهم من الصالحين، فمنهم الصالحون، ومنهم ما دون ذلك. الذين هم دون ذلك كانت تتحكم في أفئدتهم وعقولهم بل امعائهم وهوم عنصرية تمايز بين أبناء الوطن الواحد على أساس عروقهم. فمنهم من هو عريق النسب من ذوي العزة القعساء (أوهكذا كانوا يظنون)، ومنهم من تداركته أعراق سوء حطت من أقداره. هذا نمط من التفكير لا يزكو بأحد. وإلا فكيف تبرر رفض النظام الفيدرالي في بداية عهد الاستقلال لأن “مضاره أكثر من منافعه” في ظن فئة كانت تحسب أن قولها فصل، رغم ذلك عادت إليه بعد أربعين عاماً (مقررات أسمرا) هلك فيها الحرث والنسل. وكيف تفسر تلكؤ النظام الديمقراطي في متابعة الجهد المقدر الذي قام به المربي العظيم سر الختم الخليفة في مؤتمر المائدة المستديرة، وهو مؤتمر حرص الداعون له على إضفاء شرعية إقليمية عليه فأشركوا فيه حكومات مصر، الجزائر (حديثة العهد بالاستقلال)، يوغندا، غانا. بل كيف تفسر إفلاح نميري في عام 1972م في تطبيق مقررات لجنة الأثني عشر والتي كانت هي الإطار الدستوري لتفعيل قرارات المائدة المستديرة ثم إنقلابه عليها في 1983م بالرغم من أن تلك الإتفاقية وفرت للنظام الذي كان يقوده قبولاً واسعاً في الخارج، واستقراراً نسبياً في الداخل أتاحا له إنجاز ما أنجز في سنوات السلام العشر التي تلت الإتفاق. إن تلك الاتفاقية كحال قرارات مؤتمر المائدة المستديرة لم تتم فقط على مرأى من شهود إقليميين بل أودعت في منظمة الأمم المتحدة، وفي منظمة الوحدة الأفريقية، كما استصدرت الحكومة التي مهرتها بتوقيعها مع الطرف السوداني الآخر قرارات بشأنها من منظمة الوحدة الأفريقية (قمة الرباط) ومن الجمعية العامة للأمم المتحدة، من المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة. وأخيراً كيف تفسر عودة من ظل يصف الدستور الذي يدعو لأن لا يرتهن حق المواطن في تولي رئاسة الدولة بديانته، ثم يعود بعد ثلاثة عقود من الزمان لقبوله. وفي كل هذه السنوات الدامية ظل السودان هو السودان الذي يحد شمالاً بمصر وليبيا، وشرقاً بأثيوبيا وأريتريا، وغرباً بشاد وأفريقيا الوسطى، وجنوباً بكينيا ويوغندا والكونغو، وعاصمته الخرطوم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.