مضى شهر يناير ولم نحتفل باستقلال بلادنا كم يجب أن يكون حيث مازال الوطن حبيسا في تواجد تلك القوات الأممية في دارفور وأبيي وأخرى تتأهب للتدخل في جنوب كردفان والنيل الأزرق بإيعاز من معارضة خارجية لا تستوعب تلك المخاطر التي يمكن أن تؤدي إلى تجزئة جديدة للوطن الجريح وانقسامات ودويلات أخرى بعد أن انفصل جنوب السودان عن شماله فالمعروف أن السودان قد نال استقلاله التام عن الحكم البريطاني في يناير1956م بعد صراع سياسي طويل مع المستعمر استطاعت فيه القوى الوطنية أن تحقق انجازا فريدا في وقت كانت فيه معظم دول أفريقيا والعالم العربي وبعض الدول الآسيوية ترزح تحت السيطرة الاستعمارية الفرنسية والبريطانية والبلجيكية والايطالية. والغريب في الأمر أن الولاياتالمتحدةالامريكية لم تكن لها أطماع استعمارية في ذلك الوقت إلى أن ابتدعت الاستعمار الاقتصادي الحديث وأشكال التدخل لحماية حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية. نال السودان استقلاله بعيدا عن أي حلف أو تبعية لدولة أو تكتلات دولية عبر صراع حول المواقف فيما بين كل قواه السياسية فالأحزاب الاتحادية كانت تدعو للوحدة مع مصر بعد أن توحدت في الحزب الوطني الاتحادي عام 1953م بمنزل اللواء محمد نجيب قائد ثورة 23 يوليو1952م وكان حزب الأمة يدعو إلى دولة مستقلة تماما عن مصر ولكنه عبر مستشار السيد عبد الرحمن المهدي الأستاذ محمد أحمد عمر كان يسعى للتحالف مع بريطانيا والدخول في دول (الكومنولث) إلى أن فاجأ الرئيس إسماعيل الأزهري الجميع بإعلان استقلال السودان من داخل البرلمان ودون تبعية لمصر أو بريطانيا أو غيرهما. نال السودان استقلاله ليبدأ الصراع السياسي الداخلي ما بين الساسة والعسكر وليستمر حتى يومنا هذا فالرئيس الأزهري حكم السودان لعامين بعد الاستقلال ليأتي بعده انقلاب الفريق عبود في عام 1958م ليستمر لست سنوات ثم تأتي ثورة أكتوبر لتعود الديمقراطية مرة أخرى في عام1964م وسرعان ما يقفز جعفر نميري على السلطة بانقلاب عسكري شارك فيه الشيوعيون في مايو1969م حتى أطاحت به ثورة أبريل1985م لتعود الديمقراطية المرة الأخيرة حتى سقطت عبر جماعة الإنقاذ في 30 يونيو1989م والذين حكموا البلاد منفردين حتى اتفاقية السلام الشامل (بنيفاشا) في عام2005م واتفاق القاهرة مع التجمع الوطني الديمقراطي وسلام شرق السودان في العاصمة الأرترية (أسمرا) لتتكون حكومة الوحدة الوطنية. وفي قراءة لتجاربنا الديمقراطية المتقطعة السابقه نجد أنها كانت قصيرة جدا ولم تحقق أي إنجازات ملموسة غير الاستقلال حيث غابت التنمية تماما وفشلت في ايجاد معالجة سياسية لإشكالية جنوب السودان مما جعل عناصر من الجيش السوداني تتربص بها وسرعان ما تنقض على الحكم بكل سهولة ويسر ودون أدنى مقاومة شعبية. وهذا دليل قوى على ضعف المؤسسات الحزبية وغياب التربية الوطنية والديمقراطية الحقيقية في داخل الأجهزة الحزبية والفشل في تحقيق إنجازات ملموسة يمكن للشعب أن يضحي حفاظا عليها لتظل الحكومات العسكرية في السلطة لأكثر من نصف قرن من الزمان في حين لم تستطع الأحزاب الصمود في السلطة لأكثر من عشر سنوات منذ أن نال السودان استقلاله وحتى يومنا هذا. لقد تحقق استقلال بلادنا على يد الرعيل الأول من الأفذاذ واكتملت صورته النهائية بعد اتفاقية نيفاشا للسلام والتي أوقفت أطول حرب في القارة الأفريقية. وبرغم خيار أهل الجنوب للإنفصال عن الشمال إلا أن إمكانية استعادة الوحدة مرة أخرى ليست بالأمر المستحيل أذا أحسنا إدارة الأزمات في معالجة الملفات العالقة بالشكل الذي يؤسس لتكامل اقتصادي وتعاون في كافة المجالات باعتبار أن الذي يجمعنا مع أهلنا في جنوب السودان اكثر بكثير من الذي يفرقنا ويظل استقلال بلادنا منقوصا إلى أن نعالج كافة الأزمات والإشكالات القديمة والمستحدثة وعلى رأسها تكملة كافة مستحقات سلام دارفور الذي أشرف عليه الأشقاء في دولة قطر وشهد نهاياته المجتمع الدولي بكل منظماته وقياداته السياسية وأن نعمل بجدية في سبيل عودة الذين تخلفوا عن التوقيع من الفصائل الدارفورية التى لا زالت معارضة له. ويظل ذلك الاستقلال غير مكتمل إن لم نعالج الأزمة في جنوب كردفان والنيل الأزرق عبر مفاوضات مباشرة ودون وسيط وصولا إلى حلول سياسية ويا حبذا لو شاركت فيها حكومة جنوب السودان التى لها تأثير كبير وواضح على قيادات الشمال الذين كانوا جزءا من الجيش الشعبى في زمن مضى. وفوق كل ذلك فأن مسئولية معالجة تلك الاشكالات العالقة ليست من مهام المؤتمر الوطني وحده بل هى مسئولية شعبية لابد لكل القوى السياسية السودانية ومنظمات المجتمع المدني أن تساهم فيها عبر الأفكار والرؤى وفي طاولة المفاوضات حتى تكتمل صورة استقلال السودان الذي يكمن في حرية الفرد وديمقراطية الدولة واقامة العدل بين الناس والمساواة في الحقوق والواجبات. إن الاستقلال الحقيقى الذي يراه المواطن البسيط بعد تحقيق السلام الشامل في كل ربوع بلادنا يتلخص في التنمية المتوازنة والتوزيع العادل للسلطة والثروة والسرعة في تنمية المناطق الأقل نموا ورد الحقوق لأهلها في المناصير وغيرها. كما أن استقلال السودان كدولة حرة يعنى الالتزام بالدستور الديمقراطية وعدم التناقض مع كافة المواثيق الدولية التى صادقنا عليه خاصة تلك المتعلقة بالحريات وحقوق الإنسان في الأممالمتحدة والاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية. كما أن التحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة هو الطريق الوحيد نحو استدامة السلام واستقرار البلاد وفوق كل ذلك فإن الإستقلال يعنى تطابق رؤى كل القوى السياسية في القضايا الوطنية وثوابت أهل السودان المتعلقة بوحدة تراب الوطن الوقوف سدا منيعا أمام أي تدخلات خارجية تهدد أمن بلادنا، فأي سلطة في الكون زائلة ويبقى الوطن شامخا إلى أن يرث الله الأرض. محمد المعتصم حاكم