نظام الإنقاذ قائم على إستراتيجية للبقاء تلخصها كلمة (فرق تسد) و(البقاء للأقوى ماديا) ويعمل عبر آليات: (1) قانونية بتقييد عمل المعارضة وتجريمه، (2) وإعلامية بإشاعة الحرب النفسية وانعدام الثقة بين اللاعبين الديمقراطيين والتضليل ببث معلومات مغلوطة، (3) واقتصادية بتشريد المعارضين والتضييق على أعمالهم واحتكار سوق العمل والتجارة والاستثمار، (4) وأمنية بالملاحقة والتنكيل والتخويف والترغيب والقتل والاختراق والاغتصاب والتصفية أو الإبادة الجماعية ذاتها في حالة المعارضة المسلحة. هذه الآليات الأربع متكاملة ويتم التنسيق بينها بشكل تباديل وتوافيق. والنتيجة، 10 مليون مهاجر منذ 1989م، ضعف وإفقار المجتمع المدني والأحزاب وضعف قدرتها على الحركة، ومن المؤكد: استحالة العمل من أجل التغيير بدون إبطال أثر إستراتيجية النظام الفعالة. انتبه لنتيجة هذه الإستراتيجية من قبل أليكس دي وال الأمريكي الخبير في الشأن السوداني عامة والدارفوري خاصة فكتب مقالته (سياسة الإجهاد في السودان politics of exhaustion in Sudan ) ويقول فيها إن الشريحة التي كانت تقوم بالتغيير في السودان هاجرت والباقون مشغولون بتقديم طلبات التمويل من المنظمات والسفارات، وكلهم مجهدون، ومع أنه تحدث عن إجهاد المسئولين الحكوميين أيضا نظرا للوفود الأجنبية متكررة الزيارات منذ تفجرت حرب دارفور في 2003م إلا أننا نظن أن إجهاد المسئولين الحكوميين من قبل المجتمع الدولي وشغلهم بالزيارات اليومية والوفود لم يؤثر على أداء آلة الدولة الأمنية الملتزمة بإجهاد المعارضة وشغلها في هموم الانقسام الداخلي من جهة ولقمة العيش من جهة أخرى. الاختراق آلية فعالة أجادها النظام حتى عنّ للبعض في أي خلاف ينشأ داخل الكيانات المعارضة أن يقول: فتش عن المؤتمر الوطني! وقيل: إذا صافحت المؤتمر الوطني فعد أصابعك، وذلك أن الاقتراب من المؤتمر الوطني بأي شكل هو أكثر آلية فعالة ليجعل سمه الاختراقي يسعى في جسد المقترب، وهذا ما عايشه كثيرون. وقيل: إذا جالستهم فلا تآكلهم، فطعامهم مثل عصيدة أمنا الغولة مصنوع من عظام البشر المسحوقين تجعل آكلها (سايح) الركب غير قادر على السير أو العدو فتلتهمه في لقمتها القادمة كما حدث لرفيقة فاطمة السمحة (العويرة) بينما استطاعت فاطمة ورفيقاتها النبيهات التنبه للمفعول السيء لعصيدة الغولة فتجنبنها. وإذا أردنا التفكير في أهم آليات الاختراق التي يتخذها المؤتمر الوطني للكيانات المختلفة فسنجد التالي: 1) خلخلة الثقة في الكيانات القائمة كلها وفي قياداتها (الحرب النفسية): سياسة الإعلام الأمني تعمل على خلخلة الإيمان في كل الفاعلين في الساحة: منظمات مجتمع مدني- أحزاب- نقابات- حركات شبابية – شخصيات معارضة..الخ. مثلا ما تعرض له مركز الخاتم عدلان من تشهير في الإعلام- شخص مثل د.إبراهيم مضوي ترفع في وجهه قضايا للتشهير، الشباب المنضوون في ثورة 30 يناير يتم التبشيع بهم بشكل فظيع، القادة السياسيون والنقابيون يتعرضون لحملات قتل معنوي مستمرة. يكرر الإعلام (الأمني) الذي نتدرج فيه غالبية الصحف الساحقة وكل الفضائيات وإذاعات الإف إم رسائل التشويش وإشانة سمعة الفاعلين بشكل شبه يومي حتى إذا انقضت الدهشة من غرابتها أو بذائتها للمرة الأولى تعود عليها الناس وبنوا عليها كأنها حقائق. 2) الوصول لقيادات داخل المنظمات والكيانات عبر مقربين وتقديم عروض مالية خاصة لدى المعسرين أو دعم القيادات الطامحة (بدون مراعاة لآليات الصعود الديمقراطية) ماليا وتشجيعها على المخالفة والانقسام وهو عمل تقوده المكاتب الأمنية المتخصصة. وأنتج العديد من الانقسامات المصنوعة مدفوعة الثمن في الأحزاب الكبيرة منها والصغيرة. 3) زراعة العناصر الأمنية في كل الكيانات. نظريا فإن الأمن ينبغي أن ينظر لمصحلة الدولة ويقيها من مهددات خارجية أو اقتصادية أو اجتماعية، لكن الأمن الحالي أمن لحزب، بل لأشخاص معينين داخل ذلك الحزب. هناك مكاتب متخصصة في جهاز الأمن والمخابرات الوطني لكل حزب وكل منظمة ذات شأن ونقابة (مكاتب متخصصة لمنظمات المجتمع المدني- مكتب مكافحة الأنصار- مكتب مكافحة الشيوعيين!!) هذه المكاتب تعمل على: اختراق هذه التنظيمات وإضعافها. وتجعل داخل تلك التنظيمات بؤر تخدم أهداف الأمن، هذا الاختراق كبير ومنظم ولكن المجتمع المعارض يعمل كأنما غير واع به. وبعض قادة المؤتمر الوطني يعترفون بعملهم المنظم في اختراق المعارضة، مثلا ما قاله مسئول شبابي في ولاية الخرطوم من أنهم اخترقوا جماعة شرارة ولهم آلاف من مشتركيهم ال17 ألفا. وفي ثورة 30 يناير المعلنة لفقت أجهزة الأمن قصة الشهيد محمد عبد الرحمن وأحبطوا بها المتحمسين للثورة، كما اخترقوا صفحة الثورة بالمخذلين، وقال معلق فيها: صاحب هذه الصفحة إما (غواصة) أو غافل. وفي تجربة أجراس الحرية، يحدثك القائمون على إنشائها مثل أستاذ الحاج وراق عن آليات الأمن لاختراقها والتي أفلحت في دق إسفين بين المؤسسين أنفسهم. والأمثلة لا حصر لها. 4) هزيمة العمل المعارض بزرع عناصر مزايدة في شعارات معارضة بشكل يستثير الجماهير. فقد يقومون بزرع قائد يزايد في معارضة القوانين الإسلاموية الشائهة فيسب الإسلام أو الله، وهنا يتم تصوير المعارضة على أنها معادية للدين وهزيمتها شعبيا بالتالي. 5) تأجيج الخلافات بين قوى التغيير والعمل على الاستثمار فيها والترويج لها والتركيز على ما يفرق بينها واستحضار تاريخ الخلافات والصدام إعلاميا، فلم يكن محض صدفة مثلا أن يتم إحياء الخطابات المتبادلة بين المهدي وقرنق في 2000م إبان انتخابات 2010م لضرب أي تحالف محتمل بين حزب الأمة والحركة الشعبية. 6) استخدام المؤسسية ذريعة لدخول وانتخاب العناصر المضروبة مما يجعل المنظمات تلجا للهيمنة الفردية والأحزاب تخشى التغيير وتنحو نحو المحافظة على الأوضاع كما هي: مؤتمر الحزب الشيوعي الخامس كمثال. هذا يخنق منافذ التطور الطبيعي والمساءلة ويهزم المؤسسية داخل المنظمات والأحزاب، حيث تكون المؤسسية بابا لريح المؤتمر الوطني ينفذ عبرها. 7) الابتزاز: التجسس على القيادات والاطلاع على عوراتهم أو إيقاعهم في شراك مالية أو أخلاقية وابتزازهم بها مما يجعلهم عرضة للرضوخ وتمرير أجندة النظام. كيفية المواجهة - يجب وقف التعامل مع المؤتمر الوطني باستخفاف، صحيح هو فاشل في بناء البلاد، ولكنه ناجح جدا في إستراتيجيات التفرقة والاختراق ويتعامل بطريقة مخططة ومنهجية ومدروسة تتضافر فيها أجهزة عديدة. وينبغي الاستفادة من تجارب المنظمات والتنظيمات السياسية في التأمين ومواجهة الاختراق وتعرية العناصر المزروعة. - كذلك لا بد من الصوت الإعلامي المؤثر في فضائية أو إذاعة مقتدرة تفضح سياسات الاختراق وتعري مخططاتها. - الوصول إلى ميثاق شرف بين المنظمات والتنظيمات يمنع من المزايدة في شعارات الحرية والحقوق، مثلما فعلت كادر الأمن المزروع (علياء المهدي) والتي ادعت انتمائها لشباب 25 يناير المصريين فأنزلت صورتها عارية في الإنترنت بدعوى الحرية، ولكن أبطل مفعولها المدمر في تشويه أولئك الشباب أنهم أكدوا على أن لديهم ميثاقا يؤكد التزامهم بقيم المجتمع المصري. ومن أهم المطلوب لسد منافذ التفرقة التالي: - التأكيد على أن ما يجمعنا في حد ذاته: الاتفاق على الديمقراطية والتوازن والقضاء على التهميش وتحقيق العدالة وحقوق الإنسان كمرجعية وإتاحة الحريات بأشكالها كلها أشياء كبيرة، الحديث عن أيديولوجية محددة كالعلمانية أو رفض الشريعة الإسلامية أو السعي لفرضها من منافذ التفرقة. ينبغي التأكيد على دولة مدنية تنضبط بما نصت عليه مقررات اسمرا المصيرية فيما يخص العلاقة بين الدين والدولة مع تطويره لتحسين نقائصه حول حقوق المرأة وغيرها من النقائص التي تجاوزتها حركة الوعي المدني في السودان. - التأكيد على أن ضعف مؤسسات المجتمع المدني والسياسي المنادي بالتغيير بعضه ذاتي وغالبه مصنوع لكن لا مجال لتجريم أي قطاع فالمجرم الأساسي هو النظام الذي يسعى بيديه ورجليه لرسم الصورة الشائهة الحالية، وفي نفس الوقت الاستعداد لمواجهة المشاكل الذاتية بجدية وحزم. مضى علينا زمان كنا ننادي ليل نهار بعقد المؤتمرات والاجتماعات الشورية للأحزاب والمنظمات، ولكن عمليا اتضح أن على كياناتنا بحث هذه القضية بشكل فيه وعي بالمخاطر لتجاوزها مع التأكيد على ضرورة البناءات المؤسسية والديمقراطية الداخلية لكل كيان يريد أن يتطور. فكيف السبيل لذلك؟ وكيف الوصول لحلول إبداعية بدلا عن الحلول السهلة: تأجيل الاجتماعات المؤسسية، أو جعلها صورية، أو عقدها بدون تدبر أو حماية و(زي ما تجي..تجي)؟ وليبق ما بيننا.