خلصنا في الجزئين الأول والثاني من هذا المقال إلى أن التغيير السياسي الشامل والجذري للنظام الحاكم في السودان مطلوب بإلحاح لأسباب فصلناها، كما خلصنا إلى ان الوجهة الحاسمة لحركة التغيير يجب ان تكون نحو “النظام الديمقراطي” معرفا بألف ولام التعريف لأسباب فصلناها كذلك، وما نود تفصيله هنا هو العقبات التي حالت دون إنجاز التغيير في جانب المعارضة ممثلة في الأحزاب السياسية، صحيح لا شك في أن تغيير النظم الدكتاتورية بوجه عام أمر بالغ الصعوبة، لأنه يعني باختصار مواجهة الشعب الأعزل لسلطة مدججة بالقوة العسكرية والأمنية وبأجهزة الدولة وبأموال الدولة في فضاء (غير مسقوف أخلاقيا)، والأمر يزداد صعوبة عندما تكون هذه الدكتاتورية مرتكزة على مشروع آيدولوجي يهدف لفرض وصاية كاملة على المجتمع ليس في الخيارات السياسية فحسب، بل في الخيارات الفكرية والسلوك الشخصي وحتى في الخيارات الجمالية، مما يستوجب بالضرورة الانقضاض الشرس على كل مؤسسات الدولة وإعادة تشكيلها على أساس الولاء السياسي والآيدولوجي بما يكرس هذه الوصاية الرعناء!وهذا هو حال الدكتاتورية الإنقاذية ومشروعها الإسلاموي المسمى بالمشروع الحضاري، ذلك المشروع الذي لا تقتصر أزماته على الإشكاليات التقليدية المرتبطة بمشاريع الإسلام السياسي عموما من كثافة في الشعارات العاطفية وإسراف في الوعود الحالمة من جهة، وخواء في المضامين وفقر مدقع في البرامج العملية من جهة أخرى، بل إن لهذا (المشروع الحضاري) في السودان أزمة أكثر خطورة وهي أنه جسّد وبصورة مؤسسية ثقافة الاستعلاء العرقي والثقافي مستغلا الدين بصورة سافرة! فأصبح هذا المشروع معول هدم للوحدة الوطنية التي تعاني أصلا من الهشاشة، وأداة تمزيق للنسيج الاجتماعي في ظل ما تعانيه البلاد من استقطاب حاد، في ظل هذه الظروف فإن أخطر شيء على السودان هو مشروع عنصري كهذا، على رأسه (ميكافليون) لا يتورعون من التكسب السياسي عبر تأجيج الفتن العرقية والدينية وعبر زراعة الفرقة والشتات في كل مكونات المجتمع، إن مواجهة مشروع كهذا تتطلب من المعارضة مناهج ووسائل عمل مختلفة عن التي اعتادتها في مواجهة الدكتاتوريات السابقة، وتتطلب استعدادا أكبر لتقديم التضحيات، ومجهودات أكبر في التنظيم والتعبئة والتوعية والاتصال بالجماهير، وتتطلب أن يكون العمل المعارض مدركا لحقيقة أن النظم الدكتاتورية لا تتزحزح قيد أنملة عن مواقفها إلا مجبرة، ولا تقدم التنازلات وتقبل بالتغييرات الجوهرية إلا تحت وطأة الضغوط الثقيلة، أما في غياب هذه الضغوط فلا أمل في أي تغيير سوى تلك التغييرات الشكلية التي لا تنال من (الجوهر الشمولي) للنظام وهذا ما برعت فيه الإنقاذ مع أحزاب المعارضة الشمالية بسبب الخلل الكبير في طرائق تفكيرها وآليات عملها، حزب الأمة القومي مثلا، وقد كان من أكبر فصائل التجمع الوطني الديمقراطي، رأى أن في التجمع خللا وغادره منذ عام 1999م مفضلا العودة إلى الداخل في إطار اتفاق (نداء الوطن) لأن الإنقاذ اعترفت بالتعددية الحزبية (نظريا) ووفرت ما سمي بهامش الحرية في دستور 1998م، فماذا كانت محصلة تلك العودة؟ المحصلة هي أن الاختلاف حول تفسير اتفاق نداء الوطن (هل يعني المشاركة في الحكومة أم لا) أصبح محور صراع واختلاف عميق داخل الحزب استنزف طاقاته، وانتهى بانقسامه، وهذا هو بالضبط مطلوب الإنقاذ من الاتفاق لو كان قومي يعلمون! أرادت الإنقاذ بتوقيع اتفاق نداء الوطن أن تدق إسفينا بين حزب الأمة والتجمع الوطني الديمقراطي لإضعاف التجمع، ثم تستخدم بعد ذلك ذات الاتفاق في إضعاف حزب الأمة نفسه! وهو ذات السيناريو الذي اتبعته الانقاذ فيما سمي بمشروع السلام من الداخل الذي أسفر عن توقيع اتفاقية الخرطوم للسلام واتفاقية فشودة(رحمهما الله) مع العناصر الانفصالية المنشقة عن الحركة الشعبية، بقيت الاتفاقيات الموقعة حبرا على ورق شأن كل الاتفاقيات الإنقاذية ودبت الانقسامات في صفوف الموقعين عليها لأن الهدف الإنقاذي منها كان مجرد شق الصف الجنوبي! وللمفارقة ارتكبت حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي نفس الخطأ ووقعت مع حكومة المؤتمر الوطني اتفاقية أبوجا لسلام دارفور التي آلت لنفس مصير اتفاقية الخرطوم للسلام! ومناوي عاد أدراجه إلى ساحات المعارك وما زالت أزمة دارفور تراوح مكانها! لماذا لم يهزم حزب الأمة مخطط الإنقاذ في تقسيمه ؟ لماذا لم يجعل أولويته بعد عودته من الخارج التلاحم مع قاعدته وتنظيم صفوفه وتقويتها استعدادا لمعارك(الجهاد المدني) الحقيقي الذي يعني رفع مطالب التحول الديمقراطي بسواعد الجماهير المحتشدة في الشوارع متظاهرة أو معتصمة بدلا من التعويل على امكانية التزام المؤتمر الوطني باتفاق وقعه مع حزب (حل جيشه في الخارج) وليست له كروت ضغط في الداخل؟ ألم يكن حزب الأمة على علم بأن المؤتمر الوطني شأنه شأن أي حزب اغتصب السلطة بالقوة في الظلام(يخاف ولا يستحي)! ألم يكن يعلم أن تعددية الانقاذ المزعومة في دستور 1998م تعددية صورية مفصلة على مقاس الأحزاب المتوالية وأن التعددية الحقيقية تحتاج إلى (دواس) سياسي؟ وبعد أن طويت صفحة نداء الوطن هل وعى حزب الأمة الدرس؟ بكل أسف لا! ولو فعل لما كنا بحاجة لكتابة هذه السطور (الثقيلة على قلوبنا) في هذا الوقت العصيب، إذ ما زالت سلطة(الاستبداد والفساد) ممسكة برقبة الوطن، وممسكة بمعاول الهدم والتخريب في كل مؤسساته وعلى رأسها الأحزاب السياسية نفسها، ولكن لا بد مما ليس منه بد! فلا يمكن بعد مأساة نداء الوطن أن يوقع حزب الأمة (التراضي الوطني) وبعد أن يذهب التراضي أدراج الرياح(كما كان متوقعا) يدخل من جديد في حوار مع المؤتمر الوطني حول الأجندة الوطنية! ألم يدرك حزب الأمة أن المؤتمر الوطني كي يستجيب للأجندة الوطنية لا يحتاج إلى (حوار) بل يحتاج إلى (حصار) يجبره إجبارا على ابتلاع هذه الأجندة الوطنية، فهي أجندة تهدف في محصلتها النهائية إلى تفكيك دولة الحزب لصالح دولة الوطن، ولا يعقل أن يبتلع المؤتمر الوطني أجندة كهذه استجابة للمواعظ الأخلاقية! وذات الأجندة الوطنية التي يطالب بها حزب الأمة مضمنة في اتفاق القاهرة الذي وقعته فصائل التجمع الوطني الديمقراطي وبموجبه شارك التجمع في السلطة التشريعية في البرلمان الانتقالي حسب نسب قسمة السلطة في نيفاشا، وأيضا ظل (اتفاق القاهرة) حبرا على ورق شأنه شأن (نداء الوطن) و(التراضي الوطني) لأن الحزب الاتحادي الديمقراطي والحزب الشيوعي وبقية فصائل التجمع شأنها شأن حزب الأمة لا تملك كروت ضغط تجبر المؤتمر الوطني على مجرد الاستماع لما تقول! فرجع التجمع الوطني الديمقراطي من الغنيمة بتلك المقاعد البائسة في ذاك البرلمان البائس الذي أجاز أسوأ قوانين في تاريخ السودان المستقل! السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو إلى متى تظل أحزاب المعارضة (تفعل الأشياء بنفس الطريقة وتتوقع نتائج مختلفة)؟! ولماذا لا تقود متوالية الفشل في هذه الأحزاب إلى تغيير أطقمها القيادية ومن ثم تغيير طرائق تفكيرها وطرائق عملها؟ هل يعقل ان لا تفكر هذه الأحزاب مجتمعة في تأسيس صحف، وقناة فضائية ومحطة إذاعية تخاطب من خلالها هذا الشعب وتقدم له نفسها وتطرح أمامه بدائلها؟ هل يمكن أن تنجح هذه الأحزاب في قيادة التغيير وهي لا تمتلك المنابر الإعلامية التي تسوقها للجمهور؟ ولا أعني بالتسويق هنا (التطبيل والهتاف الأجوف) بل أعني به وضع التجربة الحزبية السودانية على طاولة النقاش الموضوعي واستعراض نجاحاتها وإخفاقاتها ونقدها في سياق متصالح مع الديمقراطية، سياق يحترم الجماهير التي تمثلها هذه الأحزاب، بعيدا عن تلك السياقات المفخخة في أبواق الدعاية الإنقاذية التي تهدف إلى إصدار أحكام مجانية بالإعدام على هذه الأحزاب لإضفاء المشروعية على سلطة(الاستبداد والفساد)، هذه الأبواق الدعائية تعكف على استبعاد المعايير الديمقراطية من تقييم التجارب السياسية، ونتيجة لذلك يتم حجب متعمد لإشراقات الحكم الديمقراطي في مجالات نزاهة الانتخابات، استقلال القضاء، وحرية التعبير، انحسار الفساد، الشفافية والمحاسبية، سيادة حكم القانون، صحيح الحكم الديمقراطي لم يخل من تجاوزات في بعض هذه الجوانب بحكم أن الديمقراطية في بلادنا في مرحلة النشوء والتطور، ولكن لا يوجد أساس للمقارنة بين أداء النظم الديمقراطية والنظم الشمولية في هذه الجوانب الجوهرية في استقامة الحياة السياسية، وسوف تستمر عمليات تسفيه الخيار الديمقراطي والتنفير منه ومغالطة حقيقة ساطعة سطوع الشمس وهي أن المسئولية الكبرى عن تخريب السودان تقع على عاتق الدكتاتورية التي حكمت السودان 44 عاما أي 80% من عمر الاستقلال، وستفعل أبواق الإعلام الشمولي فعلها السلبي في وعي الجماهير ما دامت الأحزاب والقوى الديمقراطية الحية في المجتمع من مفكرين ومثقفين ونشطاء غائبين عن الفضاء الإعلامي. لا شك أن الحكم العسكري المتطاول العهود في السودان (44 عاما من عمر الاستقلال) حرم الأحزاب السياسية من التطور الطبيعي، فالديمقراطيات الثلاث في السودان لم تكمل دورتها، والديمقراطية في السودان تحتاج إلى عملية توطين سياسي، ثقافي، واجتماعي، وهذا التوطين لن يتم دونما عسر مخاض وزمن وعبر تراكمات التجارب والممارسات، وعبر الأخطاء والإخفاقات كذلك ! وسنوات الحكم الشمولي بطبيعتها تلوث بل (تسمم) الهواء الذي تتنفسه الحياة السياسية فهي عبر وسائل الإفقار والتخريب والاختراق عائق كبير أمام تطور الأحزاب، هذه الحقائق لا بد من أخذها بعين الاعتبار عند التقييم الموضوعي للتجربة الحزبية في السودان، ولكن هذه الحقائق لا تبرر بشكل مطلق هذا الفشل الذريع للمعارضة السودانية ممثلة في الأحزاب، فهذا الفشل يستوجب وقفات للمراجعة والتقويم والتصحيح، ولن تثبت الأحزاب جدارتها وجدواها وتكسب ثقة الجماهير ما لم تنجح في تحقيق اختراقات نوعية في صراعها مع السلطة رغم كل العقبات والتحديات، فالكفاءة القيادية بطبيعة الحال تختبر في ظل التحديات والظروف غير الطبيعية.