في مثل هذه الأيام قبل سبعة وعشرين عاماً، تسترجع الذاكرة حدثاً مأساوياً اهتز له ضمير العالم الحر من أقصاه إلى أقصاه، واستنكره كل أحرار العالم في مختلف بقاع الأرض، ذلك حين أقتيد الأستاذ محمود محمد طه إلى المقصلة التي مضى إليها بثبات وابتسامة وضيئة تعلو وجهه ثابتاً على المبدأ ومضحياً بنفسه في سبيل تقديم أعظم الدروس عن كيف يكون الدفاع عن حرية الفكر والتفكير والتعبير والمبدأ، هذا ما كان من جهة الأستاذ، أما من جهة النظام الحاكم وقتها، فقد ارتكب أبشع عملية إغتيال سياسي في العصر الحديث زادت وجهه سوءاً على ما به من تشوهات، وكانت هذه العملية القذرة ضمن أخريات من الأسباب المباشرة التي أودت بالنظام وعجلت بنهايته فمضى غير مأسوف عليه، بينما بقيت ذكرى الشهيد ومواقفه الشجاعة في مواجهة الحيف والزيف والهوس… وإذ نسترجع اليوم ذكرى اغتيال الأستاذ محمود محمد طه عبر محاكمة غير أنها سياسية كانت أيضاً صورية و«مكلفتة» ومبيتة صدر فيها الحكم قبل أن تنعقد المحاكمة، لابد أن نستعيد فحوى البيان أو المنشور الذي أصدره الأستاذ تحت مسمى «هذا أو الطوفان» وكان السبب في التربص به مع أنه – أي المنشور – لو أنهم يعقلون كان طوق نجاتهم مما كانوا فيه سادرين ولكن كيف لمن عمت السلطة بصره وبصيرته أن يعقل ويتفكر ويراجع ويتراجع بلا مكابرة، لقد لخص ذاك المنشور الحالة المتهالكة التي كانت عليها أوضاع البلاد بسبب السياسات الشائهة والممارسات الخاطئة التي تهدد بضياعها، وطالب باستعدال الحال لينصلح المآل حتى لا تروح البلاد في طوفان آتٍ بلا ريب إن لم يستبن القوم النصح ويقبلوا المناصحة، وقد كان، فحين لم ينتصح القوم جاء الطوفان واكتسحهم ومضى بهم كالغرقى بلا حول سوى أن يستسلموا للمد الجماهيري الكاسح الذي أخذهم في طريقه كما تأخذ الأمواج الأوشاب، وتلك عبر التاريخ يبذلها لمن يعتبر، وما أشبه الليلة بالبارحة، فما تمر به البلاد الآن من أوضاع وأحوال ليست بأية حال أفضل من تلك التي خرج بشأنها منشور «هذا أو الطوفان» إن لم تكن أكثر سوءاً، وإذا كان الأستاذ محمود وهو السياسي والمفكر الحر وكان أول سوداني يدخل السجن بسبب نضالاته منذ أيام الاستعمار، قد استشعر الخطر الذي يساق إليه السودان ويضعه على حافة الهاوية فجرد قلمه وصاح فينا «هذا أو الطوفان»، فإن الحاجة الآن تظل أكثر إلحاحاً لصيحة أكبر قد تكون «هذا أو الحريق»، ولكن من أين لنا بمحمود جديد لا ينبطح ولا يهادن ولا يساوم ولا يخشى في الحق والحقوق لومة لائم، ولا جبروت حاكم؟…