مستشار رئيس جمهورية جنوب السودان للشؤون الأمنية توت قلواك: كباشي أطلع الرئيس سلفا كير ميارديت على استعداد الحكومة لتوقيع وثيقة إيصال المساعدات الإنسانية    مدير الإدارة العامة للمرور يوجه باستمرار تفويج البصات السفرية يومياً للحد من الحوادث المرورية    لحظة فارقة    «غوغل» توقف تطبيق بودكاستس 23 يونيو    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    حزب الأمة القومي: يجب الإسراع في تنفيذ ما اتفق عليه بين كباشي والحلو    تشاد : مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف خلال العملية الانتخابية"    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    دول عربية تؤيد قوة حفظ سلام دولية بغزة والضفة    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    جبريل ومناوي واردول في القاهرة    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الربيع العربي يعلن نهاية عصر الدولة
نشر في حريات يوم 25 - 01 - 2012

لو قيُّض للربيع العربي أن ينمو بشكل طبيعي، ونجا من الثورة المضادّة ومن رياح السموم الإقليمية والدولية، لينجز هدفه المباشر بإسقاط السلطة الدكتاتورية، وينصرف إلى تحقيق أهدافه الإستراتيجية، فما هي الفلسفة التي يمكن أن تأتي بها الثورة، لتؤسس عليها بناء اجتماعيّا واقتصاديا وسياسيا مبتكرا يأخذ طريقه إلى عولمة عصرية إنسانية بديلا عن العولمة المتوحشة؟ فالربيع العربي ثورة فريدة سبقت العالم إلى إعلان انتهاء عصر الدولة، فهو ليس مجرّد تمرّد على أنظمة حكم استبدادية فاسدة، بل ثورة على الدولة الفاشلة، وقفزة نحو المستقبل لإيجاد تنظيم أوسع من الدولة التي أصبحت في حدّ ذاتها مشكلة عالمية.
إن الربيع العربي لم ينتج من عمل النخب المؤمنة بالشكل القائم للدولة، بل هو نتاج حراك شعبي غير تقليدي يبدأ من الأسفل إلى الأعلى، يفسر التغيير على أنّه رفض للدولة، كونها بنظمها المختلفة أصبحت مصدر الأزمة، حيث نجد بوادر كثيرة تشير إلى أن الدولة قد أصبحت غير قادرة على تلبية حاجة الأفراد والجماعات في عالم اليوم، وقد بات ضروريا البحث عن بديل عنها قادر على إيجاد أسلوب جديد لتنظيم العلاقات في المجتمع وآلية جديدة لإنتاج الخيرات المادية وتوزيع الثروة بشكل أكثر عدالة، بعد عجز الدولة بشكلها الراهن عن مجاراة التطور الفائق لعملية الإنتاج، بفعل تطور العلم والتكنولوجيا، حيث أصبح الجهاز التنظيمي”الدولة” أبطأ من اللحاق بالمتغيرات الحيوية المتسارعة التي تحدث على صعيد الفعل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، مما يزيد من تشابك فعل المجتمع المحلي مع فعل المجتمع العالمي.
وهذه معضلة لا تدركها غالبية الحكومات الراهنة المحافظة على الشكل القديم للدولة المنغلقة. أما الأقلية من الحكومات التي أدركت أهمية التغيير، فإنها تفشل في إيجاد آليات تستجيب للمعطيات الجديدة، لأن الهياكل الإيديولوجية والسياسية والقانونية لدولها رغم حداثتها لم تعد ملائمة للمرحلة الراهنة.
وبذلك تصبح الدولة المعاصرة تقليدية بأنماطها فتعيق الحركة الدافقة للمجتمع، لتكون حاجزا أمام حاجته إلى الانفتاح على المجتمعات الأخرى. فرغم دخول المجتمعات البشرية المتخلفة والمتطورة مرحلة العولمة، فإنّ دولها غير قادرة على استيعاب النظام العولمي الجديد- العولمة بمفهومها الكلي – وهذا يفسّر سلسلة الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية التي تجتاح العالم، باعتبارها نتاج فشل الدولة في الاستجابة السريعة والمتوازية للتطور الاقتصادي والاجتماعي، أي أنّ عقل الدولة لم يعد قادرا على فهم القوانين والآليات الجديدة التي تحرك الفعل الاقتصادي والاجتماعي عالميا، لنشهد حالة الارتباك والفوضى التي تعصف بالمؤسسات المالية والاقتصادية، حيث خطر الإفلاس يهدد البنوك والشركات وكذلك يهدد الدول بحدّ ذاتها”اليونان”، نتيجة السياسات القائمة حاليًّا، والتي تقف عاجزة عن فهم أو تفسير الزلازل الارتدادية في عالم المال والاقتصاد والعقارات والطاقة والمعادن الثمينة وحرب العملات، حيث دول الشمال الغنية توشك على الانهيار لولا غرف الإنعاش في مشافي اليورو، أو الجرعات المسكنة من صيدلية صندوق النقد الدولي، ناهيك عن لجوء الحكومات إلى “الريجيم”، أزمات تهطل فوق رؤوس الدول، والخبراء عاجزون عن تفسير واقعي يكشف أسبابها الحقيقية، وبالتالي يفشلون في إيجاد حل ناجع لها، لأنّهم يحاولون تفسير أزمة عامة جديدة بأساليب المذاهب الاقتصادية القديمة، بينما المطلوب من خبراء المال والاقتصاد ورجال السياسة هو الاجتهاد بأفكار مبتكرة تراعي الحاجة إلى تغيير الممارسات الموجودة على الساحة السياسية وإلى تحقيق تطوير في الذهنية وبناء نظام جديد في العلاقات، سواء داخل الحركات أم في المجتمع، بحيث تكون هذه العلاقات بعيدة عن الهرمية وعن التحكم في إرادة الإنسان تسود فيها اللامركزية، ومن هنا فإنّ الربيع العربي لو استثمر بالشكل الأمثل فإنّه يحمل في طياته حلا خلاقا – ليس لازمات دول المنطقة فحسب بل لدول العالم كافة- فبعد التخلص من نظام حكم صلاحيته منتهية يمكن للثورة التخلص من دولة صلاحيتها منتهية أيضا، وطرح فلسفته البديلة وهي مشروع الكونفدرالية الديمقراطية الايكولوجية القائمة على الأخلاق، حيث تمارس السياسة خارج نطاق سيطرة الدولة والسلطة، ليعيد التوازن في العلاقة بين ظروف البقاء، التي اختلت بفعل الرؤية النيوتنية التي اعتبرت العالم “آلة”وما أتت به من تكنولوجيا خذلت الإنسان، لأنها تناست وظيفتها الأساسية؛ وهي أن التقنيات تكتيكات للعيش. وكذلك لأنها مدمِّرة للنظام الايكولوجي، فكانت المحصلة أن الدولة أصبحت أداة تجبر الإنسان أن يكون عبدا للآلة والمادة من جهة، وعبدا لمن يملك الآلة والمادة من جهة أخرى، والغريب أنه كلما زادت وتيرة التطور التقني زادت عبودية الإنسان للوثنية الجديدة، بعكس المتوقع؛ وهو أن التقنية يجب أن تحرر الإنسان، وهذا سرّ الأزمات التي تعصف بالعالم، بينما مبادئ الفلسفة الإيكولوجية التي تجد أنّ العالم “حَرَم” وأن الوَفْرة شرط مسبق للسعادة الداخلية، وأن الروحانية والعقلانية تتكاملان، من إجلال الحياة، وأنه حتى نشفي كوكبنا يجب أن نشفي أنفسنا..
هذه الفلسفة تناسب مجتمعات الشرق الأوسط التي فشلت دولها في محاكاة التجربة الغربية سواء في التنمية، لتبقى في مرحلة ما قبل الثورة البرجوازية والصناعية، ونتيجة اختلاف الظروف في مجتمعات المنطقة عنها في المجتمعات الصناعية، فإن المشاكل التي تواجه كلّا منها مختلفة أيضا، وبالتالي قد لا تكون وصفات المجتمعات الصناعية العلاج المناسب للكثير من مشاكلنا، خاصة أنّ دولة التقانة لم تعد تكتيكات للعيش، بل أصبحت عائقا أمام تطور أنظمة الحياة..
وقد يكون الحل البديل للمشاكل التي تواجه مجتمعاتنا هو بتغيير شكل الدولة ومضمونها ومهامها، حتى تكون قادرة على الاستجابة للتغيرات والتطورات التي يشهدها العالم. وطالما أن الربيع العربي ثورة جارية، وأنّه بصدد إعادة بناء المجتمع والدولة، فهذه فرصة طيبة للمفكرين المجددين أن يستلهموا من الفلسفة الايكولوجية أسلوبا ثالثا لإعادة عملية البناء، وما يشجع على ذلك هو إخفاقات نموذج الدولة الرأسماليةُ التي تراهن على العولمة كمخرج من منطقة الزلازل المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكذلك الفشل الذريع لنموذج الدولة الاشتراكية التي تقوم بأدلجة مفاصلها وتأميم المجتمع والاستيلاء على كل الصلاحيات والحريات العامة للنجاة من تلك الأزمات، حيث لم تكن الاستراتيجيات المتبَعة لدى النموذجين موفقة، ولو تفاوتت نسب الفشل والنجاح لديهما، فالرأسمالية أخذت تقصر في تقديم الخدمات إلى المجتمع والأفراد، مع تزايد أعداد العاطلين، بينما الاشتراكية لم تأت بالمساواة والعدالة للشعوب بل حجزت حرية الجميع، فرغم التباين الإيديولوجي بين الليبرالية والراديكالية، فكلاهما اعتمدا مفهوم سيادة “الدولة” التي تقسم المجتمع إلى طبقات غير متساوية، وتقسم العالم إلى دول غير متساوية، لتترك هامشا كبيرا للاستغلال، ما يعني خللا كبيرا في العلاقات ضمن المجتمع الواحد، وخللا أكبر في العلاقات الدولية..
ففي ظل هيمنة النظامين دخلت البشرية أزمات مستديمة، حيث لم تنفع لغة العصر”العدالة والحرية والمساواة” ولا المتغيرات المذهلة، في تنمية تنعكس على حياة الناس ومستوى معيشتهم إيجابا، بل إنها زادت من وحشية الدولة، ولأن الربيع العربي تمرّد على هذه الوحشية، يمكنه أن يكتشف في أكاديمية الفطرة طريقا مغايرا يسير عليه، ليكون إرهاصات ثورة عالمية على نماذج الدول القائمة، وبات تقليصُها واضمحلالُها من المهمات الأساسية التي يجب أن يعمل لها أصحاب الآراء الحرة، لأن العمل في الإطار الراهن للدولة لا يعني غير ولادة أنواع مستحدثة من الأنفلونزا الاقتصادية والمالية والاجتماعية، حيث بدأت الفئات الشبابية في دول المركز تقتدي بالأجيال العربية الناهضة، تعبيرا عن سخطها على فشل الدولة في القيام بواجباتها. فقد صرح المحتجون أمام وول ستريت أنهم يستلهمون حركتهم من الربيع العربي، للتعبير عن سخطهم ورفضهم للسياسات المالية المطبقة، وهذا ما يرعب الحكومات خوفا من تحوّل الثورات العربية إلى حراك عالمي يحدث انقلابا في بناء الدول. وخوفا من ذلك فإنّ صناع القرار الدولي يتبادلون لعب الأدوار في مساحة رمادية، بل إن بعضهم لا يجد حرجا في محاربة هذه الثورات، بتوفير غطاء سياسي دبلوماسي عسكري مالي للأنظمة العربية الاستبدادية التي تقمع الثورة في بلدانها، في سبيل تقنين الربيع العربي والتحكم في مسار ثوراته، أو إجهاضها وتفريغها من مضمونها التغيري، وحصرها في نطاقها المحلي، لضمان عدم وصول الشرر إلى دولها.
يمتلك الربيع العربي القابلية ليكون بديلا عن الدولة المركزية الرأسمالية منها والاشتراكية، والديمقراطية منها والدكتاتورية، فالرأسمالية المنجزة تفقد حيويتها المعهودة، إلا في ميدان التكنيك والتكنولوجيا، دون معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية المستجدة، حيث الغلو والتسارع في تطوير التقانة، بتشجيع من الشركات العملاقة المسيطرة على قطاع المال والأعمال في الأسواق المحلية والدولية، أدى إلى ظهور مفرزات غير مسبوقة لا يملك المجتمع البشري خبرة في معالجتها، بمعنى آخر ثمة صراع بين تقانة متطورة سريعة التغير وبين مجتمع لا يملك القدرة على الاستجابة المناسبة لمعطياتها، فيترجم الصراع إلى أزمات يعجز أطباء الاقتصاد عن معالجتها، لأنهم لا يريدون الاعتراف بان التقانة الفائقة قد وضعت البشرية في مرحلة انتقالية مستعصية، وليس من طريق واضح للانتقال إلى عصر جديد و مستقر، وهذا لن يحدث بدون فلسفة جديدة تغيّر العقلية والثقافة، وتفسّر المفاهيم القديمة بذهنية مغايرة، لتعطيها مضامين جديدة تلبي حاجة المجتمع إلى آليات تناسب التغيير الذي يحدث في حياتنا.
هذا يتطلب تغيير دماغ الدولة حتى تدرك أنّ حلّ التناقض بين التقانة والمجتمع يكون بالتفكير في مجتمع كنفديرالي، يتم تنظيمه وفق آليات مبتكرة، فتكون مهامه مختلفة عن مهام الدولة المركزية. قد يبدو هذا الطرح طوباويا، ولكن لو تجرّدنا من الأهواء الإيديولوجية، ونظرنا إلى معطيات الواقع، وإلى الحراك العربي، فسوف نتريّث في أحكامنا. فلو تم تهذيب الرأسمالية وجعلها أكثر إنسانية فسوف تنجح التقانة في تحقيق فائض في الإنتاج يلبّي حاجة كافة أفراد المجتمع، فيما لو تم توزيعها بشكل عادل. فلا تكون هناك حاجة للصراع عليها، وبانتهاء الصراع تنتهي الحاجة إلى الدولة كمؤسسة زجرية، وبالتالي يمكن للرأسمالية أن تتحول بالتدريج إلى كونفدرالية. فإذا تبنّى الربيع العربي هذه الأفكار وطرحها كمشروع بديل عن الأنظمة القائمة التي تحولت إلى احتكارات عائلية تلتهم الشعب والثروة الوطنية، أو إلى إمبراطورية تحاول ابتلاع العالم، فإنه سيجعل من الكونفدرالية الديموقراطية محورا يجمع قوى الشعب لإيصاله إلى إدارة نفسه بنفسه، لأنّها مختلفة عن الأنظمة الأخرى، من ناحية المبادئ أو من ناحية القوى التي تعتمد عليها.
وعليه يجب إصلاحَ الدولة وإضعاف السلطة المركزية حتى تكون الأولوية لمنفعة الشعب وليس لمصلحة الدولة، ولا يوجد ارتباط عضوي بين الكونفدرالية الديمقراطية وبين الدولة، فهي لا تتنكر للدولة، لكنها في الوقت نفسه لا تنضمّ إليها، بل تضع نصب عينها مصالحَ المجتمع والحياة المشتركة المختارة اختيارًا طوعيًّا في ترابط متكامل وموحَّد في البنية الاجتماعية، بما يعيد التوازن إلى العلاقات ما بين أنظمة الحياة ويضفي عليها طابعا إنسانيا افتقدناه في العلاقات التي أسستها الدولة المركزية.
هذا النمط من الكونفدرالية له ارتباط وثيق الديموقراطية لأن الديمقراطية هي الإدارة المباشرة للشعب وأسلوب حياة، ولأنها الروح التي تعمل الشعوب على حمايتها. فالعلاقات بين الكنفدرالية الديمقراطية علاقة إيكولوجية، فبدون الديمقراطية تنزلق الكنفدرالية إلى نظام مشابه للأنظمة المستبدة، سواء بفعل القوى الداخلية أم الخارجية، ورغم أن الربيع العربي لم يتبلور بعد في صيغة فلسفية، إلا انه بحكم ظروف مجتمعاته يلتقي بشكل طبيعي مع الكونفدرالية الديمقراطية في نقاط عديدة، فإذا كانت المركزية الدكتاتورية هي السمة البارزة للدولة التي يتمرد عليها الشعب الآن، فإنّ البديل الذي تقدمه الكنفدرالية الديمقراطية هو اللامركزية، حيث يتم انتخاب أعضاء مجالس ديموقراطية تعتمد على العلاقات المتبادلة بين القرى والنواحي ومحلات المدن، وتقوم المجالس الشعبية برسم السياسات، ويكون التنسيق والإدارة بيد هذه المجالس التي يمكن تغييرها بسرعة، تفاديا للبيروقراطية. والاحتراف في المجال الإداري يعتمد على الالتزام الديمقراطي، وتكون صلاحيات المجالس السفلى أوسع من العليا، ما يوفّر بنية مرنة تحررنا من أوامر الإداريين الفردية. وبذلك يتم تحديد الإنتاج والسياسة تحديدًا مشتركًا، فيسود التكاملُ والوحدة والتبعية المتبادلة بين المناطق، وإذا كانت سياسة الإكراه هي التي تدفع الأفراد والجماعات على الانخراط في الحياة العامة بموجب قوالب تصنعها السلطة المركزية، فإن انخراطهم في الكنفدرالية الديمقراطية يكون عفويا مباشرًا وديمقراطيا، فلا يكون الانضباط زجريا كما هو معتمد اليوم، بل يكون ذاتيًّا، يعتمد على الفرد الحرّ كمواطن فعّال له علاقة عضوية بالمؤسَّسات الديمقراطية – مواطنًا روَّض نفسَه أخلاقيًّا – وعلى علاقة واعية مع الطبيعة. فالقوة الذاتية التي سلبتها منّا نظام الدولة المركزية تُعتبَر من المبادئ الأساسية الكنفدرالية، ونحن نجد الحراك العربي في أحد جوانبه هو مسعى الإنسان لاسترداد قوته الذاتية، وإذا كانت دولنا المركزية تقضي على البنية الكنفدرالية الموجودة في مجتمعاتنا طبيعيا، وتسحق الأقاليم والمجتمعات المحلية لصالح العواصم والمدن الكبيرة، فإن النظام الكنفدرالي يطرح البديل في شكل مجالس محلِّية تسترد الصلاحيات من يد النخبة البيروقراطية.
وإذا كانت المركزية الاستبدادية تفرض تبعية أحادية الاتجاه، فإن الكنفدرالية تقول بالتبعية المتبادلة، كنظام يعتمد على الترابط بين الفرد والمجتمع، بين الريف والمدينة، وإذا كانت المركزية تتعمد عدم تحقيق الاكتفاء الذاتي، فإن الكنفدرالية الديمقراطية تعتبَر تحقيق الاكتفاء الذاتي مبدأ مهمًّا جدًّا. وإذا كانت دولنا المركزية لا تراعي أسس العلاقة السليمة بين الإنسان والسيرورات الايكولوجية، فإنّ الكنفدرالية في سياساتها الاقتصادية والبيئية تضع أسس علاقة صحيحة بين الإنسان وبين نظم الحياة. وإذا كنا اليوم نشهد كثافة في الإنتاج وسوءا في التوزيع فإن الكنفدرالية تقوم بالتوزيع حسب الحاجات، ومن ناحية أخرى فإنّ الدولة المركزية نتيجة الظلم تفقد مصادر قوتها، بينما الكنفدرالية الديمقراطية تكتسب القوة من التنظيمات الاجتماعية الديموقراطية التي ترسِّخ المبادئ الإنسانية في بنيتها، وتكون بعيدة عن النفعية وعن الهرمية، وتتخذ إرادة الفرد أساسًا، إذ تتكوّن من الأفراد المتطوعين والأحرار الذين يحققون عملية التغيير الأولى في أنفسهم. ومن البنية الاقتصادية، وذلك باستخدام المنابع الاقتصادية استخدامًا إيكولوجيًّا، والقضاء على البطالة بتطوير مشاريع تخطط لها المجالسُ المحلِّية، بغية إنقاذ الاقتصاد من براثن أصحاب الشركات التي باتت الآن تعيش مرحلة انكماشdeflation ، مما يضطرها إلى تخفيض أسعار السلع بسبب الهبوط الموجود في الشراء والعجز عن تطوير المشاريع وتفاقم مشكلة البطالة. ومن التنظيمات الثقافية والسياسية، المتجاوِزة لذهنية الدولة، التي تستمد من الفوارق الاجتماعية السائدة غنًى وتؤسِّس نفسها عليها. ومن الإعلام المتحرر، لأن حركة التنوير المطلوبة هي العمل على تغيير ما هو خارج عن وعي الإنسان، وذلك بتنوير الفرد والمجتمع، ليتم مقاومة تسليع وعي الجماهير، لأن مفتاح حلِّ المشكلات هو التفكير الألمعي والعلمي، وبالتالي تقديم المعلومة الصحيحة وإتاحة التواصل السليم بعيدًا عن التجارة، في مرحلة تجتاح وسائلُ الاتصال عقولَ الناس وتسمِّمها. ومن مناهضة العولمة الاقتصادية جراء تفشِّي الليبرالية الجديدة والشركات الرأسمالية التي تدعمها، ويتم ذلك بتوحيد الحركات البعيدة عن الهرمية فيما بينها وتنسيق استراتيجيات مشتركة على نطاق العالم.
بناءً على ما سبق نجد الحراك الشعبي العربي وقواه الاجتماعية الفاعلة تسير عفويا نحو النظام الكنفدرالي، الذي يعتمد على الشبيبة والنساء كقوى طليعية في تحقيق هذا النظام. لأنّ هؤلاء أكثر الناس كفاءة من حيث الذهنية والبنية الاجتماعية في تطبيق متطلبات هذا النظام. والربيع العربي تجسيد لإرادة الشباب والنساء، الذين مثلما نجحوا في تقويض النظام السياسي في الدولة المركزية، سوف يكون لهم دور في تقويض الذهنية الهرمية، على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، وتجاوز المفاهيم القديمة عن العائلة والمدرسة والمصنع، والروتين، وقدسية الملكية، وإنكار حق الفرد، ليتم تحرير الإنسان من ميراث الاستبداد والسلطة والطبقية. ومن جهة ثانية يتشابه الربيع العربي مع النظام الكنفدرالي في نبذ العنف. فالثورة السورية تعمل على زوال النظام القائم بالحراك السلمي، رغم أن السلطة تمارس أبشع أشكال القتل بغية جرّ الثورة إلى الحرب الأهلية، بينما تكتيك الثورة هو تفريغ مؤسسات دولة القمع من جوهرها، وإضعافها معنويا وماديا بالحراك السلمي. أما نقطة التشابه الثالثة فهي أن مجتمعاتنا تعيش حالة توتر دائم بين مكوناتها العرقية والدينية، والحل الكنفدرالي هو مجتمع ايكولوجي تحرري ديمقراطي خالٍ من أيِّ تمييز عِرْقي أو جنسي أو ديني ومذهبي.
إن الربيع العربي فرصة نادرة لتأسيس كونفدراليات ديمقراطية، تفتح الآفاق لتجاوُز الأزمات. يقول عالِم الاجتماع بوكين: الناس يحتاجون إلى المنطق لا الخرافة، والحرية بديلاً عن المصلحة الشخصية، والانفتاح بديلاً عن الانغلاق، والإبداع بديلاً عن المحاكاة، والاستقرار بديلاً عن الفوضوية، وإلى أفكار تعتمد على المجتمع الحرّ ومجالس الشعب الكنفدرالية بديلا عن الاعتماد على الدولة، فالنظام اللائق بالإنسان هو النظام الكنفدرالي، فقد تبيّن أن استبدال نظام متحكم آخر بالنظام المتحكم السائد لا يغير أي شيء بالنسبة للشعوب والأناس المضطهَدين، ونحن نشاهد الليبرالية الجديدة تطحن الإنسان في مطحنة الدولة تحت ستار العولمة والديمقراطية، فالليبرالية الجديدة ما هي إلا استعادةً للنظام الطبقي القديم في لبوس جديد، بينما الكنفدرالية الديمقراطية تمثل ثمرة جهود المضطهَدين ضد سائر أشكال اللامساواة والمركزية واحتكار الملكية.
نقلاً عن الأوان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.