نيجيريا تعلّق على الغارات الجوية    استقبال رسمي وشعبي لبعثة القوز بدنقلا    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    بالصورة.. "الإستكانة مهمة" ماذا قالت الفنانة إيمان الشريف عن خلافها مع مدير أعمالها وإنفصالها عنه    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية مغمورة تهدي مدير أعمالها هاتف "آيفون 16 برو ماكس" وساخرون: (لو اتشاكلت معاهو بتقلعه منو)    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية غير مسبوقة على مواقع التواصل.. رئيس الوزراء كامل إدريس يخطئ في اسم الرئيس "البرهان" خلال كلمة ألقاها في مؤتمر هام    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان شريف الفحيل يفاجئ الجميع ويصل القاهرة ويحيي فيها حفل زواج بعد ساعات من وصوله    النائب الأول لرئيس الإتحاد السوداني اسامه عطا المنان يزور إسناد الدامر    لاعب منتخب السودان يتخوّف من فشل منظومة ويتمسّك بالخيار الوحيد    الدب.. حميدتي لعبة الوداعة والمكر    منشآت المريخ..!    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    صلوحة: إذا استشهد معاوية فإن السودان سينجب كل يوم ألف معاوية    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    بولس : توافق سعودي أمريكي للعمل علي إنهاء الحرب في السودان    عقار: لا تفاوض ولا هدنة مع مغتصب والسلام العادل سيتحقق عبر رؤية شعب السودان وحكومته    البرهان وأردوغان يجريان مباحثات مشتركة    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الربيع العربي يعلن نهاية عصر الدولة
نشر في حريات يوم 25 - 01 - 2012

لو قيُّض للربيع العربي أن ينمو بشكل طبيعي، ونجا من الثورة المضادّة ومن رياح السموم الإقليمية والدولية، لينجز هدفه المباشر بإسقاط السلطة الدكتاتورية، وينصرف إلى تحقيق أهدافه الإستراتيجية، فما هي الفلسفة التي يمكن أن تأتي بها الثورة، لتؤسس عليها بناء اجتماعيّا واقتصاديا وسياسيا مبتكرا يأخذ طريقه إلى عولمة عصرية إنسانية بديلا عن العولمة المتوحشة؟ فالربيع العربي ثورة فريدة سبقت العالم إلى إعلان انتهاء عصر الدولة، فهو ليس مجرّد تمرّد على أنظمة حكم استبدادية فاسدة، بل ثورة على الدولة الفاشلة، وقفزة نحو المستقبل لإيجاد تنظيم أوسع من الدولة التي أصبحت في حدّ ذاتها مشكلة عالمية.
إن الربيع العربي لم ينتج من عمل النخب المؤمنة بالشكل القائم للدولة، بل هو نتاج حراك شعبي غير تقليدي يبدأ من الأسفل إلى الأعلى، يفسر التغيير على أنّه رفض للدولة، كونها بنظمها المختلفة أصبحت مصدر الأزمة، حيث نجد بوادر كثيرة تشير إلى أن الدولة قد أصبحت غير قادرة على تلبية حاجة الأفراد والجماعات في عالم اليوم، وقد بات ضروريا البحث عن بديل عنها قادر على إيجاد أسلوب جديد لتنظيم العلاقات في المجتمع وآلية جديدة لإنتاج الخيرات المادية وتوزيع الثروة بشكل أكثر عدالة، بعد عجز الدولة بشكلها الراهن عن مجاراة التطور الفائق لعملية الإنتاج، بفعل تطور العلم والتكنولوجيا، حيث أصبح الجهاز التنظيمي”الدولة” أبطأ من اللحاق بالمتغيرات الحيوية المتسارعة التي تحدث على صعيد الفعل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، مما يزيد من تشابك فعل المجتمع المحلي مع فعل المجتمع العالمي.
وهذه معضلة لا تدركها غالبية الحكومات الراهنة المحافظة على الشكل القديم للدولة المنغلقة. أما الأقلية من الحكومات التي أدركت أهمية التغيير، فإنها تفشل في إيجاد آليات تستجيب للمعطيات الجديدة، لأن الهياكل الإيديولوجية والسياسية والقانونية لدولها رغم حداثتها لم تعد ملائمة للمرحلة الراهنة.
وبذلك تصبح الدولة المعاصرة تقليدية بأنماطها فتعيق الحركة الدافقة للمجتمع، لتكون حاجزا أمام حاجته إلى الانفتاح على المجتمعات الأخرى. فرغم دخول المجتمعات البشرية المتخلفة والمتطورة مرحلة العولمة، فإنّ دولها غير قادرة على استيعاب النظام العولمي الجديد- العولمة بمفهومها الكلي – وهذا يفسّر سلسلة الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية التي تجتاح العالم، باعتبارها نتاج فشل الدولة في الاستجابة السريعة والمتوازية للتطور الاقتصادي والاجتماعي، أي أنّ عقل الدولة لم يعد قادرا على فهم القوانين والآليات الجديدة التي تحرك الفعل الاقتصادي والاجتماعي عالميا، لنشهد حالة الارتباك والفوضى التي تعصف بالمؤسسات المالية والاقتصادية، حيث خطر الإفلاس يهدد البنوك والشركات وكذلك يهدد الدول بحدّ ذاتها”اليونان”، نتيجة السياسات القائمة حاليًّا، والتي تقف عاجزة عن فهم أو تفسير الزلازل الارتدادية في عالم المال والاقتصاد والعقارات والطاقة والمعادن الثمينة وحرب العملات، حيث دول الشمال الغنية توشك على الانهيار لولا غرف الإنعاش في مشافي اليورو، أو الجرعات المسكنة من صيدلية صندوق النقد الدولي، ناهيك عن لجوء الحكومات إلى “الريجيم”، أزمات تهطل فوق رؤوس الدول، والخبراء عاجزون عن تفسير واقعي يكشف أسبابها الحقيقية، وبالتالي يفشلون في إيجاد حل ناجع لها، لأنّهم يحاولون تفسير أزمة عامة جديدة بأساليب المذاهب الاقتصادية القديمة، بينما المطلوب من خبراء المال والاقتصاد ورجال السياسة هو الاجتهاد بأفكار مبتكرة تراعي الحاجة إلى تغيير الممارسات الموجودة على الساحة السياسية وإلى تحقيق تطوير في الذهنية وبناء نظام جديد في العلاقات، سواء داخل الحركات أم في المجتمع، بحيث تكون هذه العلاقات بعيدة عن الهرمية وعن التحكم في إرادة الإنسان تسود فيها اللامركزية، ومن هنا فإنّ الربيع العربي لو استثمر بالشكل الأمثل فإنّه يحمل في طياته حلا خلاقا – ليس لازمات دول المنطقة فحسب بل لدول العالم كافة- فبعد التخلص من نظام حكم صلاحيته منتهية يمكن للثورة التخلص من دولة صلاحيتها منتهية أيضا، وطرح فلسفته البديلة وهي مشروع الكونفدرالية الديمقراطية الايكولوجية القائمة على الأخلاق، حيث تمارس السياسة خارج نطاق سيطرة الدولة والسلطة، ليعيد التوازن في العلاقة بين ظروف البقاء، التي اختلت بفعل الرؤية النيوتنية التي اعتبرت العالم “آلة”وما أتت به من تكنولوجيا خذلت الإنسان، لأنها تناست وظيفتها الأساسية؛ وهي أن التقنيات تكتيكات للعيش. وكذلك لأنها مدمِّرة للنظام الايكولوجي، فكانت المحصلة أن الدولة أصبحت أداة تجبر الإنسان أن يكون عبدا للآلة والمادة من جهة، وعبدا لمن يملك الآلة والمادة من جهة أخرى، والغريب أنه كلما زادت وتيرة التطور التقني زادت عبودية الإنسان للوثنية الجديدة، بعكس المتوقع؛ وهو أن التقنية يجب أن تحرر الإنسان، وهذا سرّ الأزمات التي تعصف بالعالم، بينما مبادئ الفلسفة الإيكولوجية التي تجد أنّ العالم “حَرَم” وأن الوَفْرة شرط مسبق للسعادة الداخلية، وأن الروحانية والعقلانية تتكاملان، من إجلال الحياة، وأنه حتى نشفي كوكبنا يجب أن نشفي أنفسنا..
هذه الفلسفة تناسب مجتمعات الشرق الأوسط التي فشلت دولها في محاكاة التجربة الغربية سواء في التنمية، لتبقى في مرحلة ما قبل الثورة البرجوازية والصناعية، ونتيجة اختلاف الظروف في مجتمعات المنطقة عنها في المجتمعات الصناعية، فإن المشاكل التي تواجه كلّا منها مختلفة أيضا، وبالتالي قد لا تكون وصفات المجتمعات الصناعية العلاج المناسب للكثير من مشاكلنا، خاصة أنّ دولة التقانة لم تعد تكتيكات للعيش، بل أصبحت عائقا أمام تطور أنظمة الحياة..
وقد يكون الحل البديل للمشاكل التي تواجه مجتمعاتنا هو بتغيير شكل الدولة ومضمونها ومهامها، حتى تكون قادرة على الاستجابة للتغيرات والتطورات التي يشهدها العالم. وطالما أن الربيع العربي ثورة جارية، وأنّه بصدد إعادة بناء المجتمع والدولة، فهذه فرصة طيبة للمفكرين المجددين أن يستلهموا من الفلسفة الايكولوجية أسلوبا ثالثا لإعادة عملية البناء، وما يشجع على ذلك هو إخفاقات نموذج الدولة الرأسماليةُ التي تراهن على العولمة كمخرج من منطقة الزلازل المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكذلك الفشل الذريع لنموذج الدولة الاشتراكية التي تقوم بأدلجة مفاصلها وتأميم المجتمع والاستيلاء على كل الصلاحيات والحريات العامة للنجاة من تلك الأزمات، حيث لم تكن الاستراتيجيات المتبَعة لدى النموذجين موفقة، ولو تفاوتت نسب الفشل والنجاح لديهما، فالرأسمالية أخذت تقصر في تقديم الخدمات إلى المجتمع والأفراد، مع تزايد أعداد العاطلين، بينما الاشتراكية لم تأت بالمساواة والعدالة للشعوب بل حجزت حرية الجميع، فرغم التباين الإيديولوجي بين الليبرالية والراديكالية، فكلاهما اعتمدا مفهوم سيادة “الدولة” التي تقسم المجتمع إلى طبقات غير متساوية، وتقسم العالم إلى دول غير متساوية، لتترك هامشا كبيرا للاستغلال، ما يعني خللا كبيرا في العلاقات ضمن المجتمع الواحد، وخللا أكبر في العلاقات الدولية..
ففي ظل هيمنة النظامين دخلت البشرية أزمات مستديمة، حيث لم تنفع لغة العصر”العدالة والحرية والمساواة” ولا المتغيرات المذهلة، في تنمية تنعكس على حياة الناس ومستوى معيشتهم إيجابا، بل إنها زادت من وحشية الدولة، ولأن الربيع العربي تمرّد على هذه الوحشية، يمكنه أن يكتشف في أكاديمية الفطرة طريقا مغايرا يسير عليه، ليكون إرهاصات ثورة عالمية على نماذج الدول القائمة، وبات تقليصُها واضمحلالُها من المهمات الأساسية التي يجب أن يعمل لها أصحاب الآراء الحرة، لأن العمل في الإطار الراهن للدولة لا يعني غير ولادة أنواع مستحدثة من الأنفلونزا الاقتصادية والمالية والاجتماعية، حيث بدأت الفئات الشبابية في دول المركز تقتدي بالأجيال العربية الناهضة، تعبيرا عن سخطها على فشل الدولة في القيام بواجباتها. فقد صرح المحتجون أمام وول ستريت أنهم يستلهمون حركتهم من الربيع العربي، للتعبير عن سخطهم ورفضهم للسياسات المالية المطبقة، وهذا ما يرعب الحكومات خوفا من تحوّل الثورات العربية إلى حراك عالمي يحدث انقلابا في بناء الدول. وخوفا من ذلك فإنّ صناع القرار الدولي يتبادلون لعب الأدوار في مساحة رمادية، بل إن بعضهم لا يجد حرجا في محاربة هذه الثورات، بتوفير غطاء سياسي دبلوماسي عسكري مالي للأنظمة العربية الاستبدادية التي تقمع الثورة في بلدانها، في سبيل تقنين الربيع العربي والتحكم في مسار ثوراته، أو إجهاضها وتفريغها من مضمونها التغيري، وحصرها في نطاقها المحلي، لضمان عدم وصول الشرر إلى دولها.
يمتلك الربيع العربي القابلية ليكون بديلا عن الدولة المركزية الرأسمالية منها والاشتراكية، والديمقراطية منها والدكتاتورية، فالرأسمالية المنجزة تفقد حيويتها المعهودة، إلا في ميدان التكنيك والتكنولوجيا، دون معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية المستجدة، حيث الغلو والتسارع في تطوير التقانة، بتشجيع من الشركات العملاقة المسيطرة على قطاع المال والأعمال في الأسواق المحلية والدولية، أدى إلى ظهور مفرزات غير مسبوقة لا يملك المجتمع البشري خبرة في معالجتها، بمعنى آخر ثمة صراع بين تقانة متطورة سريعة التغير وبين مجتمع لا يملك القدرة على الاستجابة المناسبة لمعطياتها، فيترجم الصراع إلى أزمات يعجز أطباء الاقتصاد عن معالجتها، لأنهم لا يريدون الاعتراف بان التقانة الفائقة قد وضعت البشرية في مرحلة انتقالية مستعصية، وليس من طريق واضح للانتقال إلى عصر جديد و مستقر، وهذا لن يحدث بدون فلسفة جديدة تغيّر العقلية والثقافة، وتفسّر المفاهيم القديمة بذهنية مغايرة، لتعطيها مضامين جديدة تلبي حاجة المجتمع إلى آليات تناسب التغيير الذي يحدث في حياتنا.
هذا يتطلب تغيير دماغ الدولة حتى تدرك أنّ حلّ التناقض بين التقانة والمجتمع يكون بالتفكير في مجتمع كنفديرالي، يتم تنظيمه وفق آليات مبتكرة، فتكون مهامه مختلفة عن مهام الدولة المركزية. قد يبدو هذا الطرح طوباويا، ولكن لو تجرّدنا من الأهواء الإيديولوجية، ونظرنا إلى معطيات الواقع، وإلى الحراك العربي، فسوف نتريّث في أحكامنا. فلو تم تهذيب الرأسمالية وجعلها أكثر إنسانية فسوف تنجح التقانة في تحقيق فائض في الإنتاج يلبّي حاجة كافة أفراد المجتمع، فيما لو تم توزيعها بشكل عادل. فلا تكون هناك حاجة للصراع عليها، وبانتهاء الصراع تنتهي الحاجة إلى الدولة كمؤسسة زجرية، وبالتالي يمكن للرأسمالية أن تتحول بالتدريج إلى كونفدرالية. فإذا تبنّى الربيع العربي هذه الأفكار وطرحها كمشروع بديل عن الأنظمة القائمة التي تحولت إلى احتكارات عائلية تلتهم الشعب والثروة الوطنية، أو إلى إمبراطورية تحاول ابتلاع العالم، فإنه سيجعل من الكونفدرالية الديموقراطية محورا يجمع قوى الشعب لإيصاله إلى إدارة نفسه بنفسه، لأنّها مختلفة عن الأنظمة الأخرى، من ناحية المبادئ أو من ناحية القوى التي تعتمد عليها.
وعليه يجب إصلاحَ الدولة وإضعاف السلطة المركزية حتى تكون الأولوية لمنفعة الشعب وليس لمصلحة الدولة، ولا يوجد ارتباط عضوي بين الكونفدرالية الديمقراطية وبين الدولة، فهي لا تتنكر للدولة، لكنها في الوقت نفسه لا تنضمّ إليها، بل تضع نصب عينها مصالحَ المجتمع والحياة المشتركة المختارة اختيارًا طوعيًّا في ترابط متكامل وموحَّد في البنية الاجتماعية، بما يعيد التوازن إلى العلاقات ما بين أنظمة الحياة ويضفي عليها طابعا إنسانيا افتقدناه في العلاقات التي أسستها الدولة المركزية.
هذا النمط من الكونفدرالية له ارتباط وثيق الديموقراطية لأن الديمقراطية هي الإدارة المباشرة للشعب وأسلوب حياة، ولأنها الروح التي تعمل الشعوب على حمايتها. فالعلاقات بين الكنفدرالية الديمقراطية علاقة إيكولوجية، فبدون الديمقراطية تنزلق الكنفدرالية إلى نظام مشابه للأنظمة المستبدة، سواء بفعل القوى الداخلية أم الخارجية، ورغم أن الربيع العربي لم يتبلور بعد في صيغة فلسفية، إلا انه بحكم ظروف مجتمعاته يلتقي بشكل طبيعي مع الكونفدرالية الديمقراطية في نقاط عديدة، فإذا كانت المركزية الدكتاتورية هي السمة البارزة للدولة التي يتمرد عليها الشعب الآن، فإنّ البديل الذي تقدمه الكنفدرالية الديمقراطية هو اللامركزية، حيث يتم انتخاب أعضاء مجالس ديموقراطية تعتمد على العلاقات المتبادلة بين القرى والنواحي ومحلات المدن، وتقوم المجالس الشعبية برسم السياسات، ويكون التنسيق والإدارة بيد هذه المجالس التي يمكن تغييرها بسرعة، تفاديا للبيروقراطية. والاحتراف في المجال الإداري يعتمد على الالتزام الديمقراطي، وتكون صلاحيات المجالس السفلى أوسع من العليا، ما يوفّر بنية مرنة تحررنا من أوامر الإداريين الفردية. وبذلك يتم تحديد الإنتاج والسياسة تحديدًا مشتركًا، فيسود التكاملُ والوحدة والتبعية المتبادلة بين المناطق، وإذا كانت سياسة الإكراه هي التي تدفع الأفراد والجماعات على الانخراط في الحياة العامة بموجب قوالب تصنعها السلطة المركزية، فإن انخراطهم في الكنفدرالية الديمقراطية يكون عفويا مباشرًا وديمقراطيا، فلا يكون الانضباط زجريا كما هو معتمد اليوم، بل يكون ذاتيًّا، يعتمد على الفرد الحرّ كمواطن فعّال له علاقة عضوية بالمؤسَّسات الديمقراطية – مواطنًا روَّض نفسَه أخلاقيًّا – وعلى علاقة واعية مع الطبيعة. فالقوة الذاتية التي سلبتها منّا نظام الدولة المركزية تُعتبَر من المبادئ الأساسية الكنفدرالية، ونحن نجد الحراك العربي في أحد جوانبه هو مسعى الإنسان لاسترداد قوته الذاتية، وإذا كانت دولنا المركزية تقضي على البنية الكنفدرالية الموجودة في مجتمعاتنا طبيعيا، وتسحق الأقاليم والمجتمعات المحلية لصالح العواصم والمدن الكبيرة، فإن النظام الكنفدرالي يطرح البديل في شكل مجالس محلِّية تسترد الصلاحيات من يد النخبة البيروقراطية.
وإذا كانت المركزية الاستبدادية تفرض تبعية أحادية الاتجاه، فإن الكنفدرالية تقول بالتبعية المتبادلة، كنظام يعتمد على الترابط بين الفرد والمجتمع، بين الريف والمدينة، وإذا كانت المركزية تتعمد عدم تحقيق الاكتفاء الذاتي، فإن الكنفدرالية الديمقراطية تعتبَر تحقيق الاكتفاء الذاتي مبدأ مهمًّا جدًّا. وإذا كانت دولنا المركزية لا تراعي أسس العلاقة السليمة بين الإنسان والسيرورات الايكولوجية، فإنّ الكنفدرالية في سياساتها الاقتصادية والبيئية تضع أسس علاقة صحيحة بين الإنسان وبين نظم الحياة. وإذا كنا اليوم نشهد كثافة في الإنتاج وسوءا في التوزيع فإن الكنفدرالية تقوم بالتوزيع حسب الحاجات، ومن ناحية أخرى فإنّ الدولة المركزية نتيجة الظلم تفقد مصادر قوتها، بينما الكنفدرالية الديمقراطية تكتسب القوة من التنظيمات الاجتماعية الديموقراطية التي ترسِّخ المبادئ الإنسانية في بنيتها، وتكون بعيدة عن النفعية وعن الهرمية، وتتخذ إرادة الفرد أساسًا، إذ تتكوّن من الأفراد المتطوعين والأحرار الذين يحققون عملية التغيير الأولى في أنفسهم. ومن البنية الاقتصادية، وذلك باستخدام المنابع الاقتصادية استخدامًا إيكولوجيًّا، والقضاء على البطالة بتطوير مشاريع تخطط لها المجالسُ المحلِّية، بغية إنقاذ الاقتصاد من براثن أصحاب الشركات التي باتت الآن تعيش مرحلة انكماشdeflation ، مما يضطرها إلى تخفيض أسعار السلع بسبب الهبوط الموجود في الشراء والعجز عن تطوير المشاريع وتفاقم مشكلة البطالة. ومن التنظيمات الثقافية والسياسية، المتجاوِزة لذهنية الدولة، التي تستمد من الفوارق الاجتماعية السائدة غنًى وتؤسِّس نفسها عليها. ومن الإعلام المتحرر، لأن حركة التنوير المطلوبة هي العمل على تغيير ما هو خارج عن وعي الإنسان، وذلك بتنوير الفرد والمجتمع، ليتم مقاومة تسليع وعي الجماهير، لأن مفتاح حلِّ المشكلات هو التفكير الألمعي والعلمي، وبالتالي تقديم المعلومة الصحيحة وإتاحة التواصل السليم بعيدًا عن التجارة، في مرحلة تجتاح وسائلُ الاتصال عقولَ الناس وتسمِّمها. ومن مناهضة العولمة الاقتصادية جراء تفشِّي الليبرالية الجديدة والشركات الرأسمالية التي تدعمها، ويتم ذلك بتوحيد الحركات البعيدة عن الهرمية فيما بينها وتنسيق استراتيجيات مشتركة على نطاق العالم.
بناءً على ما سبق نجد الحراك الشعبي العربي وقواه الاجتماعية الفاعلة تسير عفويا نحو النظام الكنفدرالي، الذي يعتمد على الشبيبة والنساء كقوى طليعية في تحقيق هذا النظام. لأنّ هؤلاء أكثر الناس كفاءة من حيث الذهنية والبنية الاجتماعية في تطبيق متطلبات هذا النظام. والربيع العربي تجسيد لإرادة الشباب والنساء، الذين مثلما نجحوا في تقويض النظام السياسي في الدولة المركزية، سوف يكون لهم دور في تقويض الذهنية الهرمية، على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، وتجاوز المفاهيم القديمة عن العائلة والمدرسة والمصنع، والروتين، وقدسية الملكية، وإنكار حق الفرد، ليتم تحرير الإنسان من ميراث الاستبداد والسلطة والطبقية. ومن جهة ثانية يتشابه الربيع العربي مع النظام الكنفدرالي في نبذ العنف. فالثورة السورية تعمل على زوال النظام القائم بالحراك السلمي، رغم أن السلطة تمارس أبشع أشكال القتل بغية جرّ الثورة إلى الحرب الأهلية، بينما تكتيك الثورة هو تفريغ مؤسسات دولة القمع من جوهرها، وإضعافها معنويا وماديا بالحراك السلمي. أما نقطة التشابه الثالثة فهي أن مجتمعاتنا تعيش حالة توتر دائم بين مكوناتها العرقية والدينية، والحل الكنفدرالي هو مجتمع ايكولوجي تحرري ديمقراطي خالٍ من أيِّ تمييز عِرْقي أو جنسي أو ديني ومذهبي.
إن الربيع العربي فرصة نادرة لتأسيس كونفدراليات ديمقراطية، تفتح الآفاق لتجاوُز الأزمات. يقول عالِم الاجتماع بوكين: الناس يحتاجون إلى المنطق لا الخرافة، والحرية بديلاً عن المصلحة الشخصية، والانفتاح بديلاً عن الانغلاق، والإبداع بديلاً عن المحاكاة، والاستقرار بديلاً عن الفوضوية، وإلى أفكار تعتمد على المجتمع الحرّ ومجالس الشعب الكنفدرالية بديلا عن الاعتماد على الدولة، فالنظام اللائق بالإنسان هو النظام الكنفدرالي، فقد تبيّن أن استبدال نظام متحكم آخر بالنظام المتحكم السائد لا يغير أي شيء بالنسبة للشعوب والأناس المضطهَدين، ونحن نشاهد الليبرالية الجديدة تطحن الإنسان في مطحنة الدولة تحت ستار العولمة والديمقراطية، فالليبرالية الجديدة ما هي إلا استعادةً للنظام الطبقي القديم في لبوس جديد، بينما الكنفدرالية الديمقراطية تمثل ثمرة جهود المضطهَدين ضد سائر أشكال اللامساواة والمركزية واحتكار الملكية.
نقلاً عن الأوان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.