يبدو ان عسكرة الوظائف الدستورية باتت هي السمة الغالبة بحكومات الولايات التي تم تشكيلها أخيرا ،وبالدستوريين العسكر الثلاثة الذين ضمتهم حكومة النيل الابيض ارتفع عدد القادمين من المؤسسات العسكرية والامنية الي أكثر من 25 وزيرا. فالانقاذ التي بدأت في بواكير ايامها وهي تتدثر بثوب العسكرية والثورية عملت تدريجيا بعد تثبيت اركان نظامها علي ابدال القادمين من المؤسسة العسكرية بمن وصفوا في عشرية الثورة الاولي «بالجبهجية» الذين تنسموا الوظائف الدستورية بالمركز والولايات وتواري العسكر عن الانظار ولم يبق منهم سوي رئيس الجمهورية المشير البشير و الفريقين عبد الرحيم محمد حسين وبكري حسن صالح ، وقد جاء حل مجلس قيادة الثورة تمهيدا للانتقال من شرعية الثورة الي شرعية الدولة بلباسها المدني حسبما اعلن وقتها، لينخفض علي اثر ذلك عدد القادمين من المؤسسات العسكرية الذين يتولون مناصب دستورية بالولايات الي ادني مستوياته ، بيد ان التطورات والمتغيرات التي اعقبت اتفاقية نيفاشا دفعت الدولة للاستعانة بالعسكر في عدد من المواقع الدستورية خاصة في المركز ، وبعيد الانتخابات الماضية وعقب الانفصال بات وجود العسكر في حكومات الولايات بارزا حيث اسندت لعدد كبير منهم حقائب وزارية وابرزهم الناطق الرسمي الاسبق للقوات المسلحة ونائب الوالي الحالي بشمال كردفان الفريق محمد بشير سليمان ،ويبدو تواجد العسكر في حكومة القضارف هو الاعلي حيث ضمت تشكيلة كرم الله الاخيرة خمسة منهم، لتبدو الانقاذ بذلك وكأنها تعود الي فترتها الاولي . وتباينت الاراء حول الامر ما بين مؤيد ورافض لعسكرة الوظائف الدستورية، فهناك من يؤكد ان العسكر أكثر نجاحا في الوظائف الدستورية من المدنيين خاصة المتعلقة بقضايا المواطنين ،ويشير اصحاب هذا الرأي الي ان العسكر أكثر انضباطا ويتصفون بالنزاهة والامانة والبعد عن القبلية والجهوية ،ويرون ان ولاء الدستوريين العسكر يكون ل«البلد» اكثر من المؤتمر الوطني علي عكس الدستوريين المنتمين للحزب الحاكم الذين ينحصر جل همهم في تمكين الحزب حسب قولهم ،ويعتبرون ان نجاح معتمد كوستي ووزير التخطيط بالنيل الابيض دليل علي كفاءة العسكر،ولكن علي الضفة الاخري هناك من يرفض عسكرة الوظائف الدستورية ويري هؤلاء ان دفع الانقاذ باصحاب الخلفيات الامنية والعسكرية لتولي المناصب الدستورية يعود الي اهتمامها بتثبيت اركان نظامها خوفا من تأثير رياح ربيع الثورات العربية وليس حبا في الشعب وبحثا عن مصلحته كما يؤكدون ،ويقول ل«الصحافة» الناشط السياسي بولاية القضارف رمزي يحيى ان الحكومة تهدف من وراء عسكرة الوظائف الدستورية بالولايات الي تعزيز احكام قبضتها علي الشارع وكتم انفاس القوي السياسية المعارضة ،بيد ان الفريق شرطة عثمان فقراي احد ابرز معارضي الانقاذ يري ان المتغيرات التي طرأت علي السودان عقب الانفصال حتمت الدفع بالعسكر ،مشيرا في حديثه ل«الصحافة» الي ان المرحلة القادمة من عمر البلاد تحتاج لمن يتصفون بالوطنية والانضباط ويملكون حسا أمنيا خاصة في الولايات الحدودية ، وابدي تعجبه من غياب العسكر عن تشكيلة حكومة ولاية البحر الاحمر لجهة انها من اكثر الولايات التي تواجه مهددات أمنية مختلفة ،ولكن فقراي الذي أكد علي اهمية وجود العسكر في حكومات الولايات عاد ليشير الي انهم لن يحولوا دون قيام ربيع عربي في السودان ،وقال ان البلد في هذا الظرف الحرج الذي تمر به تبدو في امس الحاجة لقرارات حكيمة ينفذها من يتصفون بالوطنية، مؤكدا علي اهمية الانفتاح علي مختلف قوي الاجماع الوطني. ويعود الناشط السياسي رمزي يحيى متسائلا عن وضعية العسكر بعد توليهم مناصب دستورية وقال: لا نعرف الاعتبارات التي دخلوا بها الحكومة، فالعسكر ينتمون لمؤسسات قومية والحكومة الحالية حكومة تنفذ برنامج الحزب الحاكم وليست حكومة قومية يمكن ان يشارك فيها العسكر، ويطرح السؤال هل قدم الذين تولوا مناصب دستورية استقالاتهم من مؤسساتهم العسكرية القومية، وسؤال اخر نطرحه يذهب ناحية الي اي حزب ينتمي العسكر المعروف عنهم حسب القواعد عدم الانتماء لحزب، وهل ينفذون سياسة الحزب الحاكم ام حزب اخر، ويري رمزي ان تولي العسكر لمناصب دستورية دون تقديم استقالاتهم من مؤسساتهم القومية يتنافي مع القسم الذي قاموا بادائه، وردا علي اسئلة الناشط رمزي يعود الفريق عثمان فقراي ويشير الي ان اختيار الانقاذ للدستوريين لايخرج من ثلاث مجموعات وهي الاسلاميين والعسكر والقبليين، معتبرا ذلك أحد أسباب أزمات البلاد. ولكن هناك من له رأي مخالف حول تزايد اعداد العسكر في حكومات الولايات ويرون ان الحكومة تخشي المؤسسات العسكرية والامنية لذلك تعمل علي اشراكها بصورة مباشرة في الحكم وذلك لضمان ولائها وعدم قيامها بانقلاب يطيح بها مثلما فعل العسكر لحكومة الصادق المهدي ،ويري اصحاب هذا الرأي ايضا ان المؤتمر الوطني وبعد ان شوه الفساد صورته عمد علي ابعاد المدنيين والدفع بالعسكر، ولكن هذه الجزئية ينفيها في اتصال هاتفي مع «الصحافة» القيادي بالحزب الحاكم د.ربيع عبد العاطي ويؤكد عدم وجود اتجاه في المؤتمر الوطني يقضي بابعاد المدنيين والاستعانة بالعسكر والكوادر الامنية ،ويشير الي ان المؤسسات العسكرية المختلفة تمتلك كفاءات في مختلف التخصصات ،ويقول ان من تسند لهم مناصب دستورية يمتلكون الكفاءة بالاضافة الي ميزة الانضباط ،ولايعتبر ان الاستعانة بهم امرا مخالفا ،مطالبا بعدم تحميل هكذا موضوعات اكثر مما تحتمل وعدم اخراجها من سياقها. فيما يقرأ المحلل السياسي الدكتور صديق تاور عسكرة الوظائف الدستورية من زاوية مختلفة ، ويري ان الانقاذ سقطت عنها كل الاقنعة والشعارات التي كانت «تخدر» وتخدع بها الشعب السوداني ،وانها لم تعد تمتلك قناعا جديدا ترتديه لتضليل الرأي العام بعد فشلها في كافة الميادين وظهور مقدمات انهيارها ،ويضيف تاور في حديثه ل» الصحافة»: لذلك رأى المؤتمر الوطني ان الملاذ الآمن الذي يحتمي به هو الآلة العسكرية والامنية ،واستخدام مؤسسات القانون والامن لحمايته من غضبة الشعب المتوقعة والتي يخشاها الحزب الحاكم ويتحسب لها بمختلف الاسلحة ، ويشير الي ان المؤتمر الوطني ليس امامه غير الاحتماء والاعتماد علي الوسائل الامنية لحماية نفسه من غضبة وقبضة الشعب ،ويرجع تاور الامر الي ان المؤتمر الوطني ليس حزبا مبنيا علي برامج وحريات واسس وانما يقوم علي عقلية القمع.