أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    لجنة تسييرية وكارثة جداوية؟!!    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    المريخ يتدرب بالصالة    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من التدين الى الايمان..عصر ما بعد النبوات.بقلم : عمار السواد
نشر في حريات يوم 01 - 03 - 2012


عمار السواد..
“الخاتمية” اساس يستند اليه الفكر الديني باعتبارها من اكثر المقولات اهمية في الرؤية الدينية السائدة، وهي مقولة مركزية في بناء وبلورة النتيجة الدينية الحتمية القائلة بان الدين هو التفسير الصحيح للحياة والكون والتشريع والايمان…. وعليه اصبحت الرؤية الدينية دائما قائمة على اساس التعاطي مع ما لا ينبع منها على انه ضلال او فسق او كفر او انحراف… ف”الخاتمية” كانت وما زالت بالنسبة لاصحاب الاديان الركيزة الاهم للتعاطي مع الذات والاخر، باعتبار ان كل ما هو متصل بالذات هو الحقيقة المطلقة غير القابلة للنقاش او الجدل والرفض، وان كل ما لا يرتبط بالذات، آخر يقف على الضد من الحقيقة او يبتعد عنها.
والذات هنا تتسع وتضيق بحسب المسبقات الفكرية والايدلوجية والعقائدية التي تحدد الدائرة الدينية، وتشمل الاشخاص والمفاهيم.. والاخر يتسع ويضيق بحسب حدود دائرة الذات. لهذا لا توجد حدود واحدة للأنا الدينية وبطبيعة الحال للاخر، انما تتحدد الحدود بحسب الفهم السائد للدين، وهذا الفهم مختلف من بيئة دينية واجتماعية الى اخرى، ومن شخص الى اخر… غير ان كل اشكال الفهم الداخلي(1) للاديان اعتمدت بوضوح تام على ان هذا الدين او ذاك هو خاتم الاديان، اي انه الدين الاكمل والاتم… الاسلام والمسيحية بل واليهودية… هي نهاية التشريعات واخر الديانات وكمال الارشادات لدى المسلمين والمسيحيين ولدى بعض التوراتيين… وبذلك تدفع هذه المقولة دائما باتجاهين احدهما نابع من الاخر ومكمل له. فهناك حماية الدين من ثغرات التقادم التي يفرضها تغير الزمان والمكان وملحقاتهما، وهناك ايضا اعتبار كل ما لا ينتمي الى الدين كفرا وانحرافا او ضلالا… فالاديان تنظر لسواها على انها انحرافات وضلالات وفسق وكفر، فكل ما يعالج الموضوعات التي تعالجها الاديان ويتقاطع معها في الافكار والحلول والرؤى والتصورات يعتبر من وجهة نظر دينية خروجا عن الحقيقة، باعتبار ان الكاشف عن الحقائق هو الوحي، وهو الوحي اليهودي بالنسبة للموسويين والمسيحي بالنسبة لاتباع النبي عيسى والاسلامي بالنسبي لاتباع النبي محمد وهكذا بقية التيارات الدينية والبشرية الشمولية… وكي تبقى الحقيقة نابعة من الانا الدينية لابد من معالجة الثغرات التي تحصل بفعل التغيير الاجتماعي والعقلي للانسان، واحدى هذه الحلول اللجوء لما يسميه البعض بالتشريعات المؤقتة.
فعندما يؤمن المرء بان هذا الدين او ذاك نهاية المطاف عقائديا او تشريعيا او حضاريا… يجد نفسه ملزما بالبحث عن آليات يتمكن من خلالها سد أي ثغرة او خلل او تآكل او قدم، تفرضه التغييرات المستمرة الحاصلة بفعل مرونة الزمان والمكان. مثلا، اقر الاسلام النظام العبودي السائد انذاك في المنطقة والعالم، مع بعض التعديلات لصالح العبيد.. لكن، وبعد قرون عدة، اصبح احتواء الاديان على ما يشرعن لهذا النظام واقراره من قبلها مأزقا بعد ان نبذت البشرية عبودية الانسان واستملاكه، فكيف يمكن لدين باق ببقاء البشر ان يقر ويوافق على بقاء عبودية منبوذة او اصبحت منبوذة؟ هنا اندفع دعاة الدين بحثا عن حلول لتلافي هذا المأزق في سبيل منع اي مشكلات تواجه احتفاظ الدين باشراقه وبصورته الكاملة وتنسجم مع الدعوة القائلة بانه يمثل اكتمال التشريع وتمام الأخلاق رغما عما يفرضه التطور البشري وفوق استحقاقات الزمان والمكان، وقد اثمر هذا البحث عن التفسير السائد حول شرعنة العبودية، وهو ان انهاء الرق لا يمكن ان يتم بمنعه بشكل حدي وحازم في تلك المراحل من الزمن وان الاديان كانت على وعي بهذا الامر، فلهذا ابقت عليه ووضعت الى جانب الابقاء عليه ضوابط صارمة تحدد من استغلاله لظلم العبيد كخطوة اولى في طريق الغاء هذا النظام. ويرى مفلسفوا الاحكام الشرعية الدينية بان هذا لا يعني ان الاديان التي اقرت بنظام العبودية قاصرة او انها محصورة بل انها اقرت بالنظام كخطوة مؤقتة ورسمت الى جانب هذا حدودا ستساعد في الغاء هذا النظام. وبمعزل عن مناقشة هذا النموذج الذي يطرح باستمرار، فان من اللافت ان نجد ان هذه المحاولة لوحدها تعبير مهم عما يصنعه التقادم بالمفاهيم والقوانين والتفسيرات والمعرفة، ان الرق لم يكن في اطاره الزمني خارجا عن الذوق والنسق العام للمجتمع بل كان جزء من نسق بشري ينسجم مع روح القيم السائدة، فلهذا لم يكن اقراره او تشريعه فعلا سيئا اذا ما نظرنا اليه في حدوده الزمنية، ولكن تغيير البيئة الانسانية التي افرزت شكلا جديدا من الذوق والنسق والفكر حولت الرق من مسألة اعتيادية الى قضية مرفوضة ومستهجنة، وان اقرار المدافعين عن كمال الدين بانها حكم انتهى دليل مهم على ان الاحكام ليست خالدة او انها غير خاضعة لشروط الزمان والمكان. ومن الخطأ القول بان الغاء نظام الرق جاء وفق خطة اسلامية، هذا خلل وهذه عملية ليّ للحقائق لدوافع ايدلوجية مسبقة مجردة من الموضوعية، لان الذي منع هذا النظام نهائيا لم يكن مسلما ولم يكن انتمائه المسيحي الا كانتماء أي سياسي غربي لدينه، هو رجل دولة علماني يسمى ابراهام لنكولن ولا اجد اي صلة لقراره بسياقات دينية محددة، انما القرار مرتبط بضغوط البيئة الاجتماعية الضاغطة عندما اصبحت البشرية في تلك اللحظة لا تستسيغ استمرار هذا النظام رغم ان الولايات المتحدة في تلك الحقبة كانت بحاجة ماسة اليه.
وطرحت هذا النموذج دون سواه لانه يعبر بامتياز عن حالة التطور، التي احرجت مفلسفي التشريعات الدينيين وجعلتهم يبحثون عن تفسير مناسب يوافق بين ضغوط البيئة الجديدة الرافضة للرق وبين الاصرار على بقاء الاسلام وتعاليه على شروط الزمان والمكان. الا ان من المناسب القول بأن الاسلاميين وسواهم من المدافعين عن الاديان ما كانوا مكرهين على القيام بهذه العملية التفسيرية غير المتماهية في الدلالة مع ما هو موجود فعلا لو تمعنوا قليلا بأن القوانين والمفاهيم والنظم الاخلاقية وسواها من الامور المتصلة بصناعتي الفكر والسلوك مهما كان مصدرها تبقى حبيسة اطرها التاريخية، وما كان امامهم الا ان يعودوا الى منهجية مهمة آمن بها سلفهم وهي قضية اسباب النزول للتروي قليلا في اطلاق الحكم المسبق والمطلق والشامل بأن الاسلام ومفاهيمه عابر للزمان والمكان. ولكنهم اصروا على استخدام هذا الحكم الشامل انطلاقا من مقولة خاتمية الدين التي تعني الخاتمية في كل ماله علاقة بالتشريع والايدلوجيا والعقيدة والاخلاق… وتحديدا في الكليات والتفصيلات التي نص عليها الدين او التي يقول مفسروه بانه نص عليها. ومن هذه المقولة نبعت فكرة الفرقة الناجية والحقيقة المطلقة. وعلى هذا الاساس تعامل اتباع الديانات السماوية الكبرى مع بعضهم ومع غيرهم. كل دين يعتبر نفسه نهاية المطاف التشريعي والثقافي بل والحضاري للانسان، وكل معالجات لاحقة لفهم قضية الاله والحياة والكون والقوانين والانظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية… تبقى منقوصة ما دامت لا تستند الى الدين الخاتم في احكامها او ما دامت تتقاطع ولو في التفصيلات مع الدين. وهذا خلل منهجي بدأت ملامحه تتضح عندما وجدت المسيحية نفسها مقابل العلم والكثير من دلالاته الحاسمة وذلك بدء من القرن الخامس عشر، فعندما تمكن كوبيرنيكوس وغاليله من التوصل الى ان الارض دائرية وانها ليست مركز الكون وانها تدور في فلك الشمس… وجد حراس الانجيل انفسهم امام تحد خطير كون نتائج ذلك الاكتشاف “الحديث” تتقاطع مع المعتقدات التي يدافعون عنها والتي تقول بأن الارض هي المركز وانها ليست دائرية او انها تقف على رأس ثور… والاخطر من هذا ان هذه النتائج اثبتت بأن الدين ليس هو نهاية الطريق، فهناك امكانية مستمرة كي تضيف البشرية مزيدا من الاكتشافات والاسهامات في كل المجالات بل ومن الممكن ان تتمكن من نسخ مقولات مسبقة وفق مناهج اكثر اقناعا.. هذا ما احرج المسيحية، لكنه لم يحرجها كدين، فالمسيحية لم تقل ابدا انها نهاية المطاف، بل ان من وضعها في هذا الموضع واحرجها وعرضها للمواجهة مع عقل الانسان هو من جردها من تاريخيتها واستحقاقات زمانها ومكانها.. وهذا التجريد دفع المدافعين عن المنجز البشري الى تكذيب الاديان واعتبارها عقبة امام العقل الانساني وفهموها على انها جزء من الخرافة.
النقطة الاساسية التي اخطأ الاسلاميون والمسيحيون وسواهم من منظري الديانات السماوية هي انهم حولوا الخاتمية من خاتمية الشخص الى خاتمية الفكرة، وهذه ثغرة كبرى ليس بالضرورة ان يكون الدين ككتاب سماوي هو الذي تسبب بها بل من قرأ الدين وفسره وسعى الى استكشاف معناه هو الذي تسبب بذلك.. ان الاسلام لم يقل في اي مكان من نصه الاول انه هو الدين الخاتم، انما قال بأن محمدا هو خاتم النبيين، وهناك فرق كبير بين كون النبي محمد الشخص هو خاتم من لهم صلة مباشرة بالسماء وبين كون ما اتى به وما شرع له هو خاتم الاديان والتشريعات والتفسيرات والارشادات والتوجيهات… وسأوضح الفرق ولكن قبل ذلك لابد من توضيح مقدمة اساسية.
يبدو ان مسار البشرية بناء على الرواية الدينية القائلة بعصور نوح وابراهيم وموسى والمسيح والنبي محمد، او بناء على الرواية الحديثة التي ترتب الازمنة وفق مراحل الآلهة وتعدد الالهة ومن ثم تجسيمها ومن بعد ذلك الانتقال الى توحد الالهة بالاله الواحد في عصر الديانات السماوية الكبرى، يبدو من الروايتين ان الحراك البشري كان في تطور مطرد وانه لم يتوقف، وان كل عصر له سماته الخاصة التي تتغير وفق ضغوط المراحل المتعددة.. فلم يحصل ان توقفت البشرية عند شكل وآليات واحدة بل كان هناك تحولات دائمة. فقد انتقلت حركة المجتمع من الشتات الى التوحد بشكل واضح، وان الديانات السماوية الثلاث الاخيرة تمثل نقطة تحول تدخلت في تحديد مسارات حضارة وادي النيل والشرق الادنى وما بين النهرين.. وثم حضارات فارس والرومانية المسيحية والخلافة الاسلامية. وان اعتناق الدولة الرومانية للمسيحية جعل الروم اكثر تطورا وتوحدا، وان الدولة الناتجة عن فتوحات المسلمين وحدت شتات العرب ومن ثم فسحت مجالا كبيرا للتواصل بينهم وبين شعوب اخرى كالفارسيين والهنود واسهمت في بلورة ثقافة مهمة مكونة من مجموعة عناصر تم المزج بينها بشكل واخر. ومن يدقق في الربط الديني بين الكفر والظلم سيتلمس وجود معان تسعى للربط بين الكفر والظلم، وهو ما يساهم في بلورة تفسير ان هناك محاولة لمكافحة الظلم من خلال مكافحة اسبابه التي يربط الدين بينها وبين الظلم.. وفعلا كان هناك فعل بشري خطير حول الانسان الى عبد للانسان باسم الالهة المتعددين. فالديانات السماوية سعت، على ما يبدو من خلال بعض النصوص الدينية، الى منع استغلال الالهة في استعباد الانسان بالطريقة التي كانت سائدة في حضارتي وادي النيل وما بين النهرين، او في الحضارات الرومانية واليونانية والفارسية القديمة، او لدى العرب قبل الاسلام.. ويمكن ايضا الاستناد في هذا الفهم الى اتباع الانبياء وخصومهم في بدايات الدعوة والنشوء الدينيين، حيث يلاحظ في الغالب ان الطبقات المسحوقة والمظلومين والفقراء والمهمشين هم من يصدق النبوات ويتبع الرسل وعلى الضد فان الغالب على الخصوم هو طابع الظالمين والطبقات المستبدة وحواشيها المتملقة. وقد كان للتوحيد دور انتقالي ووقتي في انهاء حالة الظلم التي سادت انذاك على اعتبار الاله الواحد الذي لا تراه الابصار وهو يراها والموجود في كل مكان قربه متساو مع كل الناس.. ولكن التوحيد في مراحل متأخرة قد استخدم من قبل الحراس الدينيين اللاحقين لعصر النبوات في سبيل صناعة عبودية جديدة، وتدريجيا اخذت الامور تتجه لشكل من اشكال الاضطهاد والظلم، واستخدم التوحيد لشرعنة مواقع الحكام ومكانة المفتين ورجال الدين. وهذا ما يسجل ان المشكلات تبقى مستجدة وان العلاجات لابد ان تبقى مستمرة ومتطورة ومرنة. والمشكلة الحقيقية التي تعاني منها سياقات الوحي انها مصنوعة بطريقة ممتنعة عن التغيير وصلبة وحازمة وغير خاضعة للمرونة استنادا على الارتباط بالله، اي انها سياقات مقدسة اكثر من أي سياق بشري. مرحلة الوحي في اطارها التاريخي سعت بشكل واخر الى التحكم بمسارات الحضارة وتمكنت من التطور باتجاه تجاوز مكامن الخلل التي صنعت المزيد من الظلم.. ففي مثال الاسلام يمكن اعتبار انه قد حقق ثلاثة اسس عامة تحكم فيها بالمنجز الحضاري للانسان، وهي تأسيس امة جديدة، واعادة رسم خريطة القوة في العالم، والاطار المعرفي الذي تحرك فيه للتحكم بعمليتي التأسيس والانتشار.. باختصار ان الاسس هي الدولة والدعوة بالارشاد او بالسيف والايدلوجيا، فالدولة هي نقطة ارتكاز والدعوة هي الآلية والايدلوجيا هي الاطار والشرعية. لذلك فإن اعتبار ان الاسلام هو الدين الخاتم سيؤدي بالضرورة الى اعتبار ان الاسس الثلاثة المتقدمة بمثابة اسس نهائية، لا يطرأ عليها التغيير، فالدعوة والايدلوجيا والدولة ثوابت لابد لكل حامل ديني أن يتمسك بها. فأي جهد انساني يجب ان يكون متماشيا مع الايدلوجيا الاسلامية، والا فإنه سيكون خاضعا للدعوة، والدعوة تهدف الى تطبيق الشريعة (الايدلوجيا) واهم مسند لتطبيق الشريعة هو تأسيس الدولة. ولكن بعض التيارات الاسلامية، وهي في الغالب تيارات توفيقية او اصلاحية، سعت الى ابراز وجهة نظر مختلفة عن الثوابت.. فبعضها وجد ان الدعوة الاسلامية يجب ان تقتصر على الدعوة السلمية دون اللجوء الى القوة في نشر الاسلام، والبعض الاخر رأى ان لا وجود لنصوص دينية تؤسس لدولة دينية، وبعضها الاخر ذهب الى ان الايدلوجيا الاسلامية تنطوي على منطقة فراغ واسعة وكبيرة تسهل من عملية التحرك… وهكذا من النظريات التي سعت على ما يبدو منها الى الهروب بالدين بعيدا عن الاحراجات الناجمة عن تطور مفاهيمي عميق تعيشه البشرية باطراد مستمر، او سعت الى توسيع دائرة الدين لملاحقة المستجدات الكثيرة. وعلى العكس لا يؤدي ختم النبوة الى ختم الاسس التي جاءت بها او استخدمتها.. فاذا ما قلنا بأن الخاتمية متصلة بالنبوة او النبي فإن الكلام سيصبح مختلفا عما اذا كانت متصلة بالفكرة والاطار الايدلوجي والوسائل المستخدمة لحماية وتعزيز ونشر الفكرة وذلك الاطار، ختم النبوة يعني توقف الوحي اي توقف التدخل الالهي في تحديد سياقات الانسان السلوكية والفكرية، وهذا لا يعني بالضرورة ان تلك السياقات تحددت وانتهت وانها غير خاضعة للتطور والتغيير.
فلماذا يجب ان نفترض ان تحديد الصحيح من الخطأ متوقف فقط على التدخل الالهي وان القوانين والانظمة والتفسيرات والمعتقدات والاخلاق تصدر من خلال الوحي فقط حتى نقول بأن ختم الوحي هو ختم للمعرفة والشريعة الصحيحة؟ محمد هو خاتم النبيين، خاتم من اوحى اليهم الله، نهاية الوحي، وماذا بعد؟ لم يتحدث الاسلام عن أي شيء لاحق لمرحلة النبي سوى القول بأنه لا نبي قادم، فهل هناك تطور فكري ومعرفي وايدلوجي سيطرأ على الانسان يتجاوز مرحلة الاسلام؟ وهل للاسلام القدرة على البقاء الى نهاية التاريخ؟ لم يتحدث الاسلام عن أي شيء.. كل ما قاله الاسلام هو ان محمد هو نبي الله ورسوله وانه ايضا خاتم النبيين.. فلا توجد دلالات واضحة من داخل النص المؤسس على ان الاسلام عابر للزمان ومقاوم للمتغيرات.
وهنا يكمن الفرق الجوهري بين الخاتميتين، خاتمية النبوة المنصوص عليها في القرآن وخاتمية الدين التي استقاها المسلمون من ختم النبوة.. الخاتمية الاولى تعني نهاية مرحلة الوحي، والخاتمية الثانية تعني نهاية بناء التشريع والعقيدة والاخلاق، الخاتمية الاولى لا تعني التوقف بقدر ما تعني انقطاع الاتصال التشريعي والتربوي بين السماء والارض والخاتمية الثانية تعني ان كل ما يزاحم معالجات وتشريعات وتفسيرات السماء باطل وضلال وكفر وانحراف.
النصوص التي تدل على الخاتمية هي {ما كان محمد ابا احد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما}(2) وهي تستخدم بشكل مباشر الخاتمية ويوصف بها النبي محمد. وايضا هناك آيتي {ان الدين عند الله الاسلام}(3) و{ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين} (4) وايضا اية حجة الوداع {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا}(5). وكل من هذه الايات له دلالة مهمة على طبيعة العلاقة مع الاسلام.. ولكن هل يمكن القول بأن دلالاتها معنية بالمستقبل ام ان لها سياقات محدودة؟ بالنسبة للآية الاولى فانها تدل بصراحة على ختم النبوة وليس فيها اي دلالة على ختم الدين.. اما الايات الثلاث المتبقية فهي التي ساهمت الى جانب ختم النبوة في اشاعة فكرة ختم الدين، ولكن هذه المساهمة تبدو طوباوية ما دمنا لا نعرف ما اذا كان المخاطب بالايات القرآنية مرحلة وسياق تاريخي محدد ام ان الخطاب عابر للزمان والمكان.
المشكلة التي يتحاشاها المفسرون ولم يسعوا الى قراءتها بشكل جيد بعيدا عن المصادرات والمسلمات هي ضمير (كم) المستخدم بشكل كبير في اغلب الايات التشريعية القرآنية، فهل هو موجه لمعاصري النص، ام انه موجه لمرحلة(6) محددة يعبر عنها بكم الجامعة، ام انه موجه لكل من يصل اليه القرآن حتى وان لم يعش في زمانه او في مرحلته؟.. سؤال اساسي يفرض نفسه ويستدعي التعاطي معه بجدية، لأنه يوضح الكيفية التي ينظر من خلالها الاسلام لنفسه.
فهل ان اية حجة الوداع موجهة للحاضرين زمانا اثناء نزولها فقط ام ان دائرتها اوسع من ذلك؟
ان أية دلالة للضمير (سواء ضمير الغائب او المتكلم او المخاطب) تتحدد وفق آليتين، الاولى الدلالة اللغوية المباشرة، والثانية الظروف المحيطة بإطلاق الخطاب. واذا ما اردنا ان نتعامل مع اية اتمام الدين فإنا امام نص شفاهي دوّنه المسلمون فيما بعد، وهذا النص تلي على المسلمين في حجة الوداع، فالخطاب موجه اليهم عندما يرد ضمير المخاطب (عليكم، لكم، دينكم) لهذا فالدلالة اللغوية في الخطاب الشفاهي لا تتسع لتشمل من نقل اليه النص ولو بعد اجيال، لأن أي كلام يطلق ويتضمن ضمير المخاطب فإن الدلالة اللغوية لا تستطيع لوحدها ان توسع او تضيق من دائرة المخاطبين.. لكن هل الخطاب عندما صدر وعندما امر النبي بتدوينه كان يقصد الانسان مهما حصل من تقادم ورغما عن تغيير البيئة وتغيرها والمرحلة، ام ان له مديات معينة يتعاطى معها؟ عندما نقرأ الاية {بلى ان تصبروا او تتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة الاف من الملائكة مسومين} (7) لا نستطيع الا ان نقول ان المخاطب المباشر هم السامعون او المعاصرون الذين كانوا في ساحة القتال يقاتلون كفار مكة، فالقرآن كان يوجه الخطاب الى المشركين والمؤمنين واصحاب الكتب السماوية الذين يمثلون اطراف الصراع انذاك، وكما كان اولئك هم اطراف الصراع فأن الخطاب القرآني ايضا قد تعامل معهم على انهم اطراف الصراع، وهذا يبين انطباع الواقع في الخطاب. الا ان تدوين النص القرآني وتحوله من نص مسموع عن لسان الناقل او الرسول او المبلغ الى نص مقروء ادى الى تأرجحه بين كونه خطابا شفويا له اسبابه وظروفه التي تدخلت في بلورته وصدوره وبين كونه نصا مكتوبا ينطوي على قابليات النص المكتوب، وهذا جعلنا امام خطاب بدأ قولا وتحول فيما بعد الى نص.
هذا التحول اعطى اللغة امكانية اوسع للدلالة وتحديدا سمح لدلالة ضمير المخاطب كي تنطوي على احتمال شمول القراء. وهنا اؤكد على مفردة احتمال لان الامكانية لا تعني وجود دلالة واضحة، بل الامكانية تعني اننا لا نستطيع اللجوء الى اللغة لتضييق دائرة المخاطبين، وفي المقابل لا نستطيع ان نلجأ اليها لتأكيد هذا التوسع، هي امكانية مجردة. وجود مخاطب مباشر لا يعني عدم عبور الخطاب بشكل غير مباشر الى غير المعاصرين، لأن هذا يؤدي الى تناسي اسباب واهداف الخطاب، الذي يسميه بعض فقهاء الشريعة والتفسير بالمقاصد او الذي يطلق عليه بعض منهم بروح الدين، والذي يمكن ان نسميه بالبيئة التي تسببت بوجود الخطاب. الانتقال من المخاطب المباشر الى ما بعده والذي لا تفي به اللغة لوحدها رغم انها تسمح به بحاجة الى شروط واسباب.. وتلك الشروط تكمن فيما يعرف باسباب نزوله وفي الظروف المحيطه باطلاق الخطاب وفي السياقات الداخلية للنص المدون وغيرها من القرائن والدلالات التي تعطي الضمائر دلالتها النهائية. وحتى ان افترضنا بأن كتابة النص هي اطار اساسي وهدف مهم لصاحب الكلام (الله) فإنا لسنا قادرين على التعاطي معه بمعزل عن ظروفه والهوامش المحيطة به التي تساعدنا على معرفة دائرة المخاطبين، مادمنا نتحدث عن نص له اسباب نزول وهناك العديد من اجزائه تتضح فيها المعالجات التفصيلية لمعطيات على الارض، فهو منطبع بالكثير من تلك المعطيات الموجودة في لحظته ويحمل اسباب نزوله معه.. النص الذي نقرأه نشم رائحة الحدث في كل اطرافه واجزائه وزواياه ونجد المعالجات المباشرة لواقع النزول واضحة المعالم فيه.
سياقات الايات والتاريخ الذي تتحدث عنه والادوات التي تستخدمها تظهر بشكل كبير ان الزمن والمكان مجالان مهمان تتحرك فيهما اللغة القرآنية سواء تعاطينا معها على انها خطاب شفوي او كنص مدون. واكبر دليل على هذا الفرق الكبير بين السور المكية ونظيراتها المدنية، فالمكية كانت تدعو الى تحمل الظلم ومكافحته بالسبل والدعوة السلمية، الا ان السور المدنية كانت تدعو الى مقاتلة الظالمين والمشركين وتطبيق الشريعة وتحقيق مفهوم الامة… ما يعني ان القرآن منطبع بالظروف وكثير من آياته استجابة لتحديات الزمان والمكان. وهناك العديد من الايات تحدثت عن القرآن وفق سياقاته التاريخية والمكانية واللغوية {انا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} (8) وقوله تعالى {انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}(9) و{وكذلك اوحينا اليك قرآنا عربيا لتنذر ام القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه}(10).
فالقرآن ليس قديما كما يحلو للبعض ان يعتبره، هو مخلوق من مخلوقات الله كونه مكتوبا بلغة الخليقة ومقدما في صور ومفاهيم يدركونها وينطوي على ظروف آنية ويتحدث عن الماضي باعتباره تاريخا وعن المستقبل باعتباره غيبا، وتتضح آنيته من الايات التي تعالج المعطيات الحاصلة انذاك، النص الموجود ينطوي في الكثير من الحالات على اسباب صدوره داخل النص نفسه، والاطلاقات الموجودة في الكثير من الآيات يستشف منها بسهولة الحدث والواقع. وهذا يعيدنا الى نقاش قديم دار بين رواد الكلام الاسلامي في قرونه الاولى والذي دار حول كون القرآن خالقا او مخلوقا. وعليه لا يمكن ان تكون دلالة النص فقط للمخاطبين المباشرين لمجرد كونه خطاباً بدا شفويا، وايضا لا يمكن ايضا ان نسلخه عن بيئته ونوسع من دائرة المخاطبين لتشمل من ينتمون الى بيئات اجتماعية وثقافية وحضارية منفصلة او متطورة او مختلفة او مراحل اخرى غير تلك الموجودة حين نزول القرآن.
وهذا ما ينتهي الى الاجابة عن السؤال السالف حول دائرة المخاطبين، فاستنادا الى المعطى اللغوي والسياق الداخلي للخطاب والعلاقة بين النص وعصره القائمة على اساس تلميحات مستمرة للنص بأن ذلك العصر هو موضوعه الذي يسعى لمعالجته، فالايات التي تحدثت عن القرآن العربي توضح بشكل كبير الى ان الهم المباشر للخطاب هو اصلاح واقع العرب، ومن بعد ذلك التوسع في عملية الاصلاح. اي انه يجب التعامل مع ضمير المخاطب على انه موجه الى المعاصرين بشكل مباشر وينتقل من خلالهم الى من يشتركون معهم في المرحلة نفسها، اي الذين يعيشون روح العصر نفسه الذي عاشه معاصرو نزول الخطاب.
ولا يمكن القول بأن طبيعة المرحلة، ظروفها، العوامل التي تتحكم بها، وعيها، مناهجها وثقافتها… ثابتة لا تتغير، التغيير يطرأ على كل جغرافيا وتجمع بشري، ولكنه تغيير تدريجي محكوم بقوانين الطبيعة البشرية التي تقول باستحالة حصول انقلابات مفاجئة في كل تلك التفصيلات في لحظة واحدة ويوم واحد، الا ان لليوم الواحد واللحظة الواحدة قيمتها بالتراكم والاستمرار واذا ما اجتمعت وارتبطت بأيام ولحظات اخرى تصبح مؤثرة وتسهم بشكل ملموس في ايضاح التغيير، لأن مرور الوقت يجعل الاشياء تتغير بهدوء بعيدا عن الضوضاء، وهذا ما يفقد العلاجات والافكار والثقافات والقوانين والتعاليم السابقة قيمتها بشكل تدريجي وبصورة تبدو في بعض الاحيان غير محسوسة. لتصل الامور في نهاية الطريق الى مفصل زماني نجد فيها اننا في حقبة تالية ومرحلة لاحقة وعصر جديد مختلف عن ذلك الذي كنا فيه. هنا نجد بأن المخاطبين الذين كانوا يخاطبون في السابق ليسوا هم انفسهم اليوم، لأنهم ابناء بيئة مختلفة عن تلك السابقة، لا تشترك معها الا بما ينبع من الطبيعة الانسانية غير الخاضعة لشروط الزمان والمكان. واذا ما تغير العصر واصبحت البيئة مختلفة عن تلك التي هبط فيها القرآن والتي خاطب فيها النبي مودعيه في حجته الاخير بضمير (كم) فإن المخاطبين يكونون قد انتهوا مع تلك المرحلة، ومن يختار ان يعيش الماضي رغم طيّه فعليه ان يقوم بالعمل والجهد الذي يقوم به الزمان، ولا يبدو ان الانسان قادر، على الاقل حتى الان، على ان يكون اقوى من الوقت واستحقاقاته. وعليه تكون الاستعانة بآية حجة الوداع في اثبات الخاتمية متقاطعة مع مجموع العوامل التي تفسر دلالة الاية.
ماذا اذن عن الآيتين {ان الدين عند الله الاسلام} و{من يبتغ غير الاسلام دينا} الا يتضمنان دلالة لغوية اكثر وضوحا على كون الاسلام الدين الوحيد الصحيح اذا ما قورن ببقية الافكار والايدلوجيات والنظم التشريعية البشرية الاخرى والدين المقبول عند الله مقابل بقية الديانات السماوية؟ فلا يوجد ضمير للمخاطبين ولا دلالة لغوية وقتية في هاتين الايتين، هما يدلان على الاطلاق والشمول، ولا ذكر للزمان والمكان، ولا يوجد فيهما ما يدل على عصر او بيئة محددة. الا ان هذا الاطلاق في اللغة يصطدم بمشكلة اساسية وكبيرة تحول دون الحصول على اطلاق يتجاوز الزمان والمكان، هذه المشكلة هي ان الواقع الذي يتحدث عنه الاسلام نفسه يتعارض مع الاصرار على شمولية الدلالة.. هذا الواقع هو ان هناك ديانات سماوية سابقة ليست اسلاما وكانت تمثل حدا مقبولا عند الله، وآمن بها الانبياء وبشروا بها بأمر من الله، كما يحدثنا القرآن، هل اولئك الانبياء واتباعهم كانوا على غير دين الله او انهم آمنوا بديانات لا يرضى بها الله؟.. مؤكد ان الاسلام يصر على عكس ذلك، تلك الديانات كانت الهية ومصدرها هو الله، الا ان فاعليتها ومرحلتها، بحسب الرؤية الاسلامية، قد انتهت.
ان الاديان التي سبقت الاسلام لم تكن اسلاما رغم اصرار بعض المفسرين والفقهاء الاسلاميين على اعتبار الانبياء السابقين مسلمين استنادا الى ايات قرآنية تتحدث عن كون الانبياء السابقين مسلمين. وهذا الاصرار يعبر عن خلط بين مفردة الاسلام بمعنى الدين ذي التشريعات والعقائد والتفسيرات المعينة ومفردة الاسلام التي تعني التسليم وهو المعنى الذي يوضحه الخطاب الموجه الى ابراهيم {اذ قال له ربه اسلم قال اسلمت لرب العالمين} (11) وايضا الاية التي تتحدث عن الحواريين {واذ اوحيت الى الحواريين ان امنوا بي وبرسولي قالوا امنا واشهد باننا مسلمون}(12)، وايضا الاية التي تتحدث عن قوم لوط يوم جاءهم الملائكة لانزال العذاب عليهم {فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} (13) وهذا التسليم هو الذي تقره اية الحوار مع المسيحيين اليهود عندما تقول {ولا تجادلوا اهل الكتاب الا بالتي هي احسن الا الذين ظلموا منهم وقولوا امنا بالذي انزل الينا وانزل اليكم والهنا والهكم واحد ونحن له مسلمون}(14). من هنا، وحتى لا يصبح الانبياء مخالفين لدين الله وان عقائدهم وتشريعاتهم غير مقبولة لديه، لابد من القول بأن الايتين لا يدلان على الماضي السابق للاسلام او نقول بأن الاسلام الذي هو دين الله ليس هو الدين بمعنى التشريع والنظام العقائدي والرؤية الشاملة للكون والانسان بل هو التسليم لله، وبما ان الانبياء مسلمون لله فإنهم يدخلون ضمن دين الله الذي يعني التسليم.. فاما ان نفهم الدين في الايتين بشكل مختلف عن الشمولية التي تحيط به ونعتبره مجرد حالة ايمانية تعني التسليم او تتقيد الدلالة المطلقة على الزمان والمكان في الايتين، بمعنى انهما لا ينطويان على الاطلاق والدلالة على الماضي، وهذا يعني ان الاطلاق الذي يمكن ان تفيده الدلالة اللغوية ليس اطلاقا اذا ما تعاملنا مع النص على انه جزء من منظومة دينية متكاملة تنظر الى الديانات السماوية السابقة لها على انها ديانات الهية وان انبياءها على حق، بل وان المسلم لا يكون مسلما الا بالايمان بصحة ما انزل على النبيين السابقين واديانهم.. وايضا ان هذا الاطلاق يذوب في سياق الايتين. فالقارئ للسياق القرآني الذي جاءت ضمنه الايتان يجد طبيعة الحالة التي تدوران فيها.. هما جاءتا في اطار الجدل الدائر مع اتباع الديانات السماوية ومحاولة حثهم للتخلي عن اديانهم التي انتهى مفعولها والتمسك بالاسلام.. {ان الدين عند الله الاسلام وما اختلف الذين اوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فان الله سريع الحساب} (15) و{قل امنا بالله وما انزل علينا وما انزل على ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وما اوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين احد منهم ونحن له مسلمون}(16) {ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخر من الخاسرين}(17) ان هذين السياقين يحددان طبيعة الصراع الذي فرض حسم الموقف لصالح الدين الذي يمثل مرحلة جديدة من المراحل البشرية. هذا بالتحديد ما سيعيدنا الى نقطة ذكرت سابقا وهي اساسية لفهم موقع الاسلام زمانيا.. تلك النقطة هي ان البشرية تعيش مراحل وبيئات متعددة وتشهد تحولات، والاديان كان لها دور كبير في صناعة هذه التحولات، وهي بالتأكيد كانت العامل الاهم في اطار صناعة البيئات ما بعد الفرعونية في مصر وبلاد الشام وما بعد المرحلة البابلية الاولى في حضارة ما بين النهرين وما بعد الوثنية في الحضارات العربية والفارسية والهندية، ومن ثم تدخلت في صناعة الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في اطار الدولة الرومانية… ولكل منظومة قيم سماوية او بشرية تسعى للتغيير والتحول ستواجه بقايا الماضي التي تجر رغما عن استحقاقات الزمان والمكان نحو ذلك الحاضر، وكي تنجح هذه المنظومة في الحد من تأثيرات الماضي وتأثيرات ما فقد فاعليته فأنها بحاجة الى خطاب مشابه لتلك الايتين ينطوي على اطلاق يحول دون اجترار ما انتهى دوره وبيئته. ليس بالضرورة ان تقصد الايتان وامثالهما المستقبل، مقصدهما الاساس الحاضر، انهما يسعيان الى وضع حد لاستمرار ما يرى الاسلام في استمراره انحرافا وضلالا، رغم انه يؤمن بأنه كان في الماضي استقامة.. فبقاء المسيحية واليهودية هما كفر بحسب رأي الاسلام، ولكنه ايضا ينظر اليها على انها دين حق في بيئتي عيسى وموسى.
هذا يعيدينا الى بداية الكلام، خاتمية الدين وبقاؤه وكماله، هذه المفردات لا يوجد ما يؤكدها داخل النص الاسلامي المؤسس، لأنه لا وجود لها اصلا، الاسلام لم يقل بأنه قد اكمل الطريق وان ما قاله وتحدث عنه غير خاضع للتغير والتبدل، كل ما قاله ان العلاقة التنظيمية من خلال الوحي قد انتهت بين السماء والارض، وان الاسلام قد ختم طريق جبرائيل في الارض. الاسطورة مهدت الطريق لظهور الديانات السماوية، ولولا معرفة الانسان لتعدد الالهة لما اصبح مؤهلا لقبول الاله الواحد الذي بشرت به الديانات السماوية بطرق مختلفة، فاليهودية تختلف عن المسيحية في التفصيلات التي تحدثت عن الله وهما مختلفان عن الاسلام في تفسيرهما للذات المقدسة وهذا ينطبق بقية التصورات التي تقدمها الديانات فهي مختلفة ايضا في الكثير من التفصيلات.. فما المانع في ان تكون الاديان ايضا مهدت الطريق لمراحل بشرية اخرى؟
التغييرات التي طرأت على المجتمعات منذ مجيء الاسلام وحتى الان تعبر عن قفزات كبيرة في التفكير والمنهج والسلوك ونمط العلائق والاولويات، وادت الى قطيعة في الكثير من جوانب الحياة مع الماضي، لدرجة ان الانسان في قرنين عرف تغييرات سريعة وقفزات مهولة لا يوجد لها شبيه منذ اكتشاف النار. فشكل النظم الاقتصادية المعمول بها اليوم لا يمت بصلة الى ما كان سائدا قبل ستة او سبعة قرون، والعلم ما عاد يستند الى المقولات نفسها التي كان يستند اليها قبل الثورة العلمية، والفلسفة ما عادت تعمل بالمناهج الارسطية التي حكمت الفكر البشري، وطريقة الحكم والوصول اليه اختلف جذريا في اغلب من مناطق العالم، اليوم هناك شيء اسمه الدولة الحديثة التي لم يكن لها وجود في الماضي، القيم الاجتماعية نفسها بدأت بالتغير، وما عاد النظر الى الاسرة والزواج والطفل والمرأة والرجل والجنس وغيرها من القيم الاجتماعية بنفس الطريقة التي سادت الشرق الاوسط والشرق الاقصى وخصوصا في الغرب قبل خمسة قرون او اكثر. الحرب والسلام والقتل والجريمة والسلاح وسبل مكافحته تغيرت ايضا. النظام الدولي في تغيير مطرد، هناك اليوم منظمات دولية ومعاهدات واسعة النطاق، هناك وعي بشري يدافع عن حقوق الانسان يقابله حروب عالمية اكبر بكثير من تلك التي دارت بين الروم والفرس او بين المسلمين والفرس والروم او بين المسملين والصليبيين… كل شيء على وجه الارض بدأ بالتغير، العلم بدأ يستنسخ الكائنات الحية، والعلم يبحث اليوم عن سبل لبناء نظام الكتروني معلوماتي يوسع من دائرة ادراك الانسان، العلم اوصل الانسان الى الفضاء… وغير ذلك. الا يستحق كل هذا ان نعيد النظر بالقول بشمولية الاديان وخاتميتها؟ من الصعب الادعاء بأن اديان جاءت في ظروف بسيطة بل وموغلة بالبساطة قادرة على ان تعالج بيئات تعيش من التعقيد ما لا يمكن حله بسهولة الارشادات والتشريعات القليلة التي حكمت الانسان طيلة قرون. المشكلات باتت اكثر تعقيدا والحياة تسير نحو مزيد من التعقيدات.. وما عاد المجتمع لوحده هو الهدف، الانسان الفرد اليوم بات هدفا اساسيا بعدما كان بالامس القريب وسيلة لبناء المجتمع والدين. ولكن هناك امر واحد لا يبدو انه ينتهي او يزول ولكنه يتغير ويتطور، هذا الامر هو الايمان، الذي كان دائما حكرا على الاديان. في العالم الذي هيمنت عليه المادة بدأ الانسان بالبحث عن توازن روحي له، فابتكر طرقا خاصة به او اعطى لنفسه حرية التنقل بين الجانب الروحي في الاديان متنقلا بين البوذية والمسيحية والاسلام والكنفوشيوسية وهو يبحث عن مزيد من الاديان كي يعدد من خياراته، وهذا يكشف عن تغير في وظيفة الاديان من الجانب التنظيمي التشريعي الذي هيمن في فترات عديدة عليها الى الجانب الروحي. وهذا الامر ايضا في طريقه نحو التغير فالعلاقة بالله ايضا يمكن لها ان تنسلخ من الدين الى اختيار فردي بحت لا تحدده آليات وتصورات الاديان. واعتقد انه خطوة متقدمة بعدما تمكنت الديانات من تحرير الصورة الالهية عن التجسيم وقلصت من الوسطاء بين الله والانسان ايمانيا. وهي ايضا نقلة مهمة تحرر الايمان من ان يكون وسيلة لهيمنة انسان على اخر.
فالايمان بالله تعالى حالة غير مقصورة على الاديان، انما هي شعور باطني انساني ينبع داخليا ويمثل مهربا حقيقيا من مشكلات الحياة وتعقيداتها، وبلا شك ان هذا الشعور يجب ان يعطى اختيارا كاملا كي يؤدي دوره. الجبر وتحديد العلاقة مسبقا سيفرغها من محتواها ويحولها الى فعل روتيني قسري لا يساعد الانسان على تذوق العلاقة الايمانية بالله ذلك الموجود الخالق لكل الاشياء والاكبر من تفصيلات الحياة التي نعيشها.
فهل نحن بدأنا فعلا في الانتقال من مرحلة التدين الصانع للأيمان الى مرحلة الايمان غير المحكوم بالقسرية والدينية وغير الخاضع لشكل مسبق؟ هذا هو الضمان الذي يمزج بين مرحلة الفعل الانساني الصانع للعلم والمعرفة وضرورة الايمان.
1-
قابله الفهم الخارجي الذي يتعامل بشيء من النقدية.. اما الفهم الداخلي فانه مسلوب من أي روح نقدية بل هو فهم وادراك استسلامي.
2- ليس بالضرورة ان تكون المرحلة طويلة او قصيرة، العامل الذي يحدد المرحلة هو البيئة الاجتماعية وطبيعة الوعي القائم فهناك قفزات في النضج العقلي تتسبب بتطور وتغيير البيئة الامر الذي يعني تغير المراحل فاذا ما استمرت البيئة فإن المرحلة تبقى قائمة والا فإنها تتغير.
الهوامش
1- يقابله الفهم الخارجي الذي يتعامل بشيء من النقدية.. اما الفهم الداخلي فانه مسلوب من أي روح نقدية بل هو فهم وادراك استسلامي.
2- الاحزاب 40.
3- آل عمران 19.
4- آل عمران 85.
5- المائدة 3.
6- ليس بالضرورة ان تكون المرحلة طويلة او قصيرة، العامل الذي يحدد المرحلة هو البيئة الاجتماعية وطبيعة الوعي القائم فهناك قفزات في النضج العقلي تتسبب بتطور وتغيير البيئة الامر الذي يعني تغير المراحل فاذا ما استمرت البيئة فإن المرحلة تبقى قائمة والا فإنها تتغير.
7- آل عمران 125.
8- يوسف 2.
9- الزخرف 3.
10- الشورى 7.
11- البقرة 131.
12- المائدة 111.
13- الذاريات 36.
14- العنكبوت 46.
15- آل عمران 19.
16- البقرة 136.
17- آل عمران 85.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.