5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    بنك الخرطوم يعدد مزايا التحديث الاخير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    شاهد بالفيديو.. حسناء الإعلام السوداني إسراء سليمان تبهر المتابعين بإطلالة جديدة بعد عام من الغياب والجمهور يتغزل: (ملكة جمال الإعلام وقطعة سكر)    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية المتابعين.. الصحفي إبراهيم بقال يتجول رفقة بعض أفراد الدعم السريع داخل مكاتب الولاية وهو يحمل رتبة "فريق" وينصب نفسه والي لولاية الخرطوم    الكشف عن سلامةكافة بيانات ومعلومات صندوق الإسكان    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تظهر في لقطات رومانسية مع زوجها "الخواجة" وتصف زواجها منه بالصدفة الجميلة: (أجمل صدفة وأروع منها تاني ما أظن القى)    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تظهر في لقطات رومانسية مع زوجها "الخواجة" وتصف زواجها منه بالصدفة الجميلة: (أجمل صدفة وأروع منها تاني ما أظن القى)    المريخ يوقِع عقداً مع شركة (Sport makers)    مفاوضات الجنرالين كباشي – الحلو!    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    محمد وداعة يكتب:    عالم «حافة الهاوية»    مستشفي الشرطة بدنقلا تحتفل باليوم العالمي للتمريض ونظافة الأيدي    مليشيا الدعم السريع تجتاح قرية البابنوسة شرق مدني وتقتل وتصيب 8 أشخاص    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    تعرف علي أين رسم دافنشي «الموناليزا»    عقار يلتقي وفد مبادرة أبناء البجا بالخدمة المدنية    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    كوكو يوقع رسمياً للمريخ    برقو لماذا لايعود مديراً للمنتخبات؟؟    السودان..اعتقالات جديدة بأمر الخلية الأمنية    باريس يسقط بثلاثية في ليلة وداع مبابي وحفل التتويج    جماهير الريال تحتفل باللقب ال 36    شاهد بالصور.. (بشريات العودة) لاعبو المريخ يؤدون صلاة الجمعة بمسجد النادي بحي العرضة بأم درمان    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    نتنياهو مستمر فى رفح .. إلا إذا...!    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    السيسي: لدينا خطة كبيرة لتطوير مساجد آل البيت    ترامب شبه المهاجرين بثعبان    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدونة حضرانية..بحث في سوسيولوجيا بناء مشروع لفعل حضاري.بقلم: ا.د متعب مناف
نشر في حريات يوم 01 - 03 - 2012


ا.د متعب مناف..
الحضرانية: كتلة متشكلة حروفياً لفظياً يُوشّح بين مكوناتها انسان صانع (Homo Faber) دلالياً ورمزياً، حاضر يعيش/ يسلك/ يتفاعل/ يتناقض/ يرفض/ يقطع/ يدين/ يعلمن/ يترتن/ يجدد، هدفه ان يوظف متحصله الثقافي بقواعد ناظمة لعالمه ومجتمعه: شرقي/ غربي/ انساني بتحتانية اقتصادية واجتماعية متغيرة لتجاوز التبعية والتخلف، هدفه الانجاز والاضافة. وان سك (الحضرانية) بكتلتها الحروفية اللفظية انما تتشكل في وعيها بعيداً عن الخطابية والايديولوجية، وفق مساقط ثلاثة: الأول وجه شكلي حروفي/ لفظي هو (ح. ض. ر)(1).
الحاء حرف سابع في ترتيب حروف اللغة العربية غير منقوط يدلل على سامية أصولها، إذ ان الاعجام (التنقيط) يعني العض والشدة على الحرف يقابله بالاجنبية حرف قريب من مخرج صوته هو (H) فيقال في حريم، هريم والاثنان : الحاء في العربية و (H) في الاجنبية من حروف الراحة تطلق بعد عسر وانتقال.
اما الضاد فانه حرف ثقيل بنطقه متمكن بقدرته على التحمل كما في لغة الضاد حيث ينهض بكل الهم اللغوي. في حين يمثل حرف الراء الخفة والحركة وظيفته السرعة عندما يكون في مفتتح اللفظة والموازنة عندما يكون في آ خرها كما في حَضَرَموفقا بين نفثة الحاء وثقل الضاد(2)
فمصنوعة حَضَرَ لها خصوصيتها الحروفية التي تجمع بين الراحة والثقل والتعجيل “كل لغة لها ثلاثة اوجه: الوجه الاول هو مجموعة مفردات تدخل على البناء التكويني، والثاني الجانب البلاغي، أما الثالث فيعبر إلى ثقافة اللغة كتنظيم نحوي، وهو كناية عن طريقة متميزة لعرض المعلومات ولعرض الحجج أي طرائق الاستدلال والتفكير. الوجه الثالث هو نمط الانتساب الى قيم وآثار حضارية كالاخلاق والادب والفن والقانون والتاريخ وغيرها، قيم وآثار مشتركة تمكن الفرد من اختبار انتمائه الى الجماعة ومن التحقق منه ومن اثباته” جان بول شارنيه (j. p. Charnay)، بولس خوري، التراث والحداثة، ص ص 98- 99.(3)
وبذلك يتوافق التحليل الخاص بحروفية ولفظية (حضر) مع ما اسماه شارنيه بالوجه الاول للُّغة والذي يعني بالجانبين السلوكي والتقني، اذ ان حروف ولفظية حضر انما يبين سلوكية هذا الفعل الذي يعني التحول من المكان اللامحدود المفتوح (الصحراء) الى مكان محدود هو (الوسط الحضري) مع كل ما يرتبه هذا التحول من تبدل في السلوك وصولاً به الى المدينة والمدنية.(4)
اللغة وفضاءات الفعل:
مثل هذا السلوك المديني او التصرف في فضاء محدود يمكن ان يفهم بوجهين الاول ان مَدَن تعني السكن بالمدينة وذلك كتحصيل حاصل للتواجد في مثل هذا الوسط الحضري، اما الثاني فان السكن في المدينة انما يرتب التزامات مضافة وجديدة على القاطن فيها وذلك وفقاً لمسؤوليات الوسط الحضري التي يمكن ان تترجم كحقوق وواجبات.(5)
ويعني ذلك احداث تغيرات في السلوك يرتبها الوضع السكني الجديد الذي يجب ان يأخذ في حسابه صحة وانسيابية لتعامل حيث يتزايد السكان وتتصاعد العقلانية في استغلال المكان اقتصادياً مما يؤمن تدفقا للسلع والخدمات التي تتوزع بشكل يتناسب وحاجات وتطلعات ساكني المدينة دون حدوث تمزقات في النسيج الحضري قد تقوم في السكن والسلوك والثقافة.
فالحضر لابد ان يشكل وبمعقولية انقطاعا للحياة ما قبل الحضرية. وبالفعل تعني حضر حضوراً فاعلاً ومسؤولا في الوسط الحضري والمديني بالذات، فقد ورد اسلامياً موروث له اصالته يقول : اذا حضر الماء بطل التيمم.
والتيمم التوضأ بالتراب بسبب ندرة الماء لذا فان الوضوء وهو اللازمة الاساس كطهر لاداء الصلاة انما يبطل اذا حضر الماء الذي يعني فعلاً التحول في تشكيل ايكولوجيا المكان. وبذلك مثَّل هذا البطلان للتوضوء بالتراب فرقاً بين صلاة تؤدي في وسط مستقر يتوفر فيه الماء وما يمثله من مستوى عالي للنظافة وبين نفس الشعيرة تؤدى في وسط متنقل يصار فيه الى التيمم.
وقد تم التوسع في استعمال هذا الماثور لما يعكسه من تحول في وضع معين الى وضع افضل في التفريق بين الصحة واللاصحة وصولاً الى القاعدة والشواذ في الحكم على الشيء والفعل مما نقل حَضَرَ الى مستويات اعتبارية ومعنوية تجاوزت استعمالها في مجال التحول من وسط حياتي/ بيئي معين الى وسط تتوافر فيه وبشكل افضل اسباب الحركة والانجاز.(6)
هذا هو الوجه الاول اللغة كما اشار اليه (شارنيه) سلوكي / تقني حيث ادى ترتيب الحروف ووضعها اللفظي سلوكية معينة (الحضور) تم انتاجها وفق تكنولوجيا (تقنية) خاصة بحيث جاءت برسمه دالة (حضر).
الوجه الثاني للغة انما يتوضح بالشكل النحوي لها أي تخصيص تكوينتها البنائية وهذا يعبر إلى مدى أسلوبيتها أي فعليتها أو اسميتها وسمتها مؤثرة (ذات) ومتأثرة (موضوع) وما قد تتعرض له من خفض او نصب او رفع، وما يترتب على ذلك كله من مداليل تتصل بالتعبير اكثر من اتصالها بالتركيب.(7)
وحضر فعلية تعكس زمناً معيناً ينطلق منه الفعل يجمع بين القطع أو التباعد عن حالة قد مرت في الوقت الذي يحقق فيه استمراراً لحالة راهنة يشترط في تحصيلها ان يكون هناك حضور ما يرتب استحقاقات جديدة تبرز/ تشكل الانا المختلف الذي نفترض فيه ان يكون انا حضورياً أي حاملاً وباقتدار عبء الوضع المتحول يجعل منه واقعاً يشي ببناء انا حضرية.(8)
بقي الوجه اللغوي الثالث الذي يعني “الانتساب الى قيم واثار حضارية كالاخلاق والاداب والفن والقانون والتاريخ وما يدعم هذا كله من اثار مشتركة تمكن الفرد من اختيار انتمائه الى الجماعة ومن التحقق من هذا الانتماء ومن اثباته “.(9)
شارنيه وافاق اللغة والتوظيف:
وبذلك نقلنا شارنيه الى افق اوسع من البناء الحروفي اللفظي (الوجه الاول والنحوي الاستدلالي/ التعبيري (الوجه الثاني). الى (الوجه الثالث) الذي يمكن ان يوصف بانه ثقافي / اجتماعي، اذ ينطلق باللفظة وبعد ان تم صفها حروفيا والاستدلال بها نحويا الى توظيفها كمفردة ثقافية بالمعنى الانثربولوجي، أي وصفها في قرينة او قرائن اوسع وفهم الجوانب الاخلاقية والادبية والفنية والعلمية والقانونية والتاريخية الناجمة عن توظيفها.
لقد مثلت حضر واقعا نمطا مختلفا في الحياة والتعامل حيث تمركز العمل على ذات يكون اداؤها في وسط مفتوح يعني بناء ثوابت جديدة (انظومات قيمية) يمكن ان تضبط الفعل الجديد. الى حد الاختلاف، فقد ظهر المجتمع بالفعل وتزايد سكانه وتعددت مكوناته وترابطت بمشتركات انتجها وضع الحضور، فما هي صلة حضر : الحضور لكل من الاخلاق والادب والفن والقانون والتاريخ؟(10)
هذه الصلة يمكن ان ينظر اليها من زاوية جديدة وبالاخص بعد ان وُضعت الاخلاق في صدر قائمة التواصل فما الاخلاق ولماذا كل هذا التكيز عليها؟ وما هي واقعية مثل هذا التركيز؟ وهل ان الاخلاق والارتباط بها يمثل بالفعل المفتاح لتغير الضوابط السلوكية التي يكثر التبشير بها اصلاحا وتغييرا ضبطاً وضغطاً ؟(11)
ومن وجهة النظر الاكثر مخاطبة لوضع العصر فان هناك فوارق بين الاخلاقيات (Manners) وبين الاخلاق (Ethics). الاول مجموعة من التصرفات يتميز بها بشر عن غيرهم او حتى مجموعة عن سواها تؤثر حتى في حركة اجسامهم وما يستعملونه او يرفضونه من تعابير وتغييرات وما يتصفون به من رقة او خشونة ثم تقطيرها بالسلوك الفردي الى الحد الذي تم به توصيف الشخصية بالذات في كلامها وحركتها الجسمية بتصرفاتيتها (Mannerism)، اما (Ethics) الاخلاق فانها تعني علم الاخلاق او ما يمكن تسميته بالاخلاق المجردة ذات الطابع الفكراني (الفلسفي).
وبذلك فان الاخلاقيات (Manners) انما ترتبط بالسلوك كلازمة متدنية/ اولية من التصرف تعمل/ توظف كعقد او مفاصل سلوكية ممكن الحكم بها وعن طريقها على المقبول والمرفوض من السلوك. ونظراً لارتباطها بمثل هذا المستوى من السلوك فانها تؤمن قدرا من الرمزية التي تضيف بعدا مؤثرا للحركة الجسمانية والتي يمكن ان يلزم بها اذا تكاملت على نوع من التنميط التصرفي قد يحكم على مدى التقيد بالمقبول او المتعارف عليه سلوكيا، مما يساعد على انتشار نوع من التشاركية في التعامل، وبالاخص في مجتمعات تتزايد فيها الفردية في التعامل وما قد يترتب على هذه الفردية التي تصل الى حد الانانية من تفاوت قد يهدد الاعتيادية في جوانب التواصل اللغوي (الكلام) والطعام بل وحتى في المفردات ذات الصلة بالحياة والصحة والجنس والموت وما يترتب عليها من ممارسات التأدب والتاقلم والتطبيع والتقاطع(12).
الاخلاق بين التصرف والتجريد
الاخلاق كعلم ينزع نحو المجردات المرتبطة بالمفترضات والقضايا المركبة في الفكر والمعرفة والكون، فان استيعابها انما يكون مختلفا عن تلك التي تفهم وتستوعب التصرفات الخاصة بما يسمى (Manners) اذ ان النظر اليها إنما يجب ان يكون متصاعدا (هرميا) بمعنى ان الاخلاقيات لايمكن ان تفرض وبالاخص من الاعلى وفرضها على المستويات الادنى من السلوك وتحويلها الى ضوابط او كوابح على مثل هذه المستويات التي يتحرك فيها الفعل السلوكي رفعا او خفضا.
فالاخلاقيات بذلك انما تبني على اصعدة اولية يمكن ان تعمل وتختبر حيث يعيش الانسان وتحيا الجماعة مهتمة بمشاغلها كالجماعة التي تعيش في وسط فلاحي/ فقير تتدنى فيه الدخول مع حاجة ملحة للصحة والتعليم والاتصال والتواصل فإننا إذ نغطي مثل هذه الاوساط المكشوفة للحاجة والتي ما زالت في مرحلة تحول من نمط الجماعة الى التشكل الاجتماعي والظهور كمجتمع بمظلة اخلاق ثقيلة (Heavy blanket Ethics) يمكن ان تعمل بالضد من سلامة عملية التحول من الجماعة الى المجتمع.
وقد يؤدي بالضرورة الى ان يسلك الوسط الاجتماعي الفلاحي/ الفقير المحدود الدخل والتعليم متاثرا بما فرض عليه من اخلاق ثقيلة ضاغطة طريق الازدواجية أي انه يظل مخلصا لوسطه الاجتماعي ممثلا بالجماعة وما فيها من تلقائية وبساطة ولا انتقائية قد يضحي بها ولو مظهريا لإرضاء ما فرض عليه من مجردات اخلاقية والالتزام بها كاشكال تصرف.
ان هذا البعد عن التلقائية والبساطة والامعان في حساب الذات دون ان يتسامى لذلك بفعل رسوخ اقدامه في الطين السلوكي للوسط الذي نشا فيه قد يحول الحساب الى جلد للذات نفسها.
اذن فالاخلاق المجردة التي تم وصفها بالسمو والارتقاء والكمال والاكتمال لايمكن ان يعمل مثل هذا التجريد على فرضها. اذ لابد من تحقق تحولات في عيش وتعايش وتعليم الوسط الاجتماعي قبل ان يصار الى ضخ مثل هذه القوالب وبفوقية مفتعلة رغبة بالاصلاح والارتقاء بالانسان ووسطه الاجتماعي(13).
لقد تعمق الاختلاف بين الاخلاقيات (عادات تصرف وسلوك) وبين الاخلاق المجردة وذلك عند لقاء شرقنا بالاخر (الغرب) التي اشار إليها جاك بيرك تلميذ ماسينون. وفي نظري ليس من موضع آخر يقع فيه الضوء على مساجلة الغرب معنا ومع انفسهم بصورة افضل مما في تامل المواقف ازاء العالم، كما تتبدى عند اغريقي قديم وسَبّاق الى الكثير من افكارنا الحالية. وان تفسيراً تاريخياً وفلسفياً على السواء يقودنا الى ان نستعير طريق هيرا قليطس (Heraelitus) بدلا من طريق ابراهيم لتفهم العربي التقليدي بصورة اعمق.
فاذا قيل ان الوفاء للمتسامي، الذي هو اساسي في الرسالة السامية انما يجمعه العرب مع الكلية وكدت ان اقول مع حلولية السلوك لتبَيْنت وحدة الدلالة بين ما يسمونه فضيلتي الصبر او الرضى ومقابلهما الاغريقي هرمولوجيا (Hormologia) وهارمونيا (Harmonia).
فاللغة العربية كاللغة الاغريقية تلتصق بالطبيعة على الرغم مما يقوله علم الدين فيها، وهي تتابع مع الاسلام اتصالها بهذه الطبيعة في الوقت ذاته الذي تقر فيه بقدرة الله الكلية. وهذا الجمع بين عدة مجالات للاختيار بوسعها ان تبدو لنا مضادة سوف يثير دون شك التفكير عند فلاسفة الاسلام والقلق عند متصوفيه ولكنه سوف يؤدي عملياً هذا الدور حتى يومنا هذا. فلا الانحطاط ولا التبعية لم يجردا الاسلام من الحياة الكلية. ومثل هيراقليطس كان بامكانه ان يقول لو لم يكن في ذلك التشبه تجديف شنيع بالنسبة اليه : ان مزاج الانسان يتحد مع النصيب الالهي فيه. او ايضاً: اذا لم يكن الكائن الا دخاناً، لايبقى للانسان الا ان يكون النفس الذي يبتلع مثل هذا الدخان.
وفي تفكيك النص السابق فانه يركز على الوعي او ما سماه التأمل، هذا الوعي ينصب على محاولة لفهم العالم، فهل يتساوى في هذا الفهم شرقنا وغربهم الاخر رغم اننا متأملون في فهمنا في وقت يكونون فيه اكثر وعياً في تأملهم؟.
وللابتعاد عن الخلط بين التامل والوعي، فان النص انما يطرح الفرق بين الفلسفة والتاريخ لاكساب الجدل واقعية ومباشرة اعظم في التناول اذ ان الفلسفة انما تميل الى المطلق والمجرد في المعنى والدلالة في الوقت الذي يجنح فيه التاريخ نحو الوصف والتعميم أي انه يقارب الطبيعة وبذلك يقترب من الفعل الانساني.
لذا فقد عقد النص مقارنة جديرة بالاهتمام قد تشتق منها مؤشرات عدة للتعرف على الفروق بين بنية كل من الفكر الشرقي وفكر الاخرالغربي، هذه المقارنة وازنت بين الاثر الذي يمكن ان تتركه كل من الهيراقليطيسية التي اخذت في اهتمامها ربط الفكر بالطبيعة وابقته في حدود الفهم قابلا لالية تناول، وبين الابراهيمية ونزعتها الى التأمل والافتراض والتسليم.
لقد تدارى النص خلف الاغريقي (اليوناني القديم) كونه اكثر واقعية في تعامله مع العالم المحيط به، لذا فقد كان اقدر وادق في فهمه قياساً بالفكر الشرقي الذي اتجه نحو الابراهيمية مما ابعده عن الطبيعة التي فهمها عن طريق مدركات قبلية (Apraiora) أفقد عليَّه وسببية الفعل.
وقد برر النص الابتعاد الشرقي عن الطبيعة (الهيراقليطيسية) ما اتصف به هذا الفكر من ايمانية تسليمية قد تصل بالتأمل الى حد القلق كما في التصوف.
التفكير المجرد حسب وانما “ايضاً على مستوى السلوك” وهذا هو الجانب الاقرب الى الاخلاق الذي يمكن ان يوظف النص في توضيح تناوله، اذ في الوقت الذي ينزع فيه التفكير الشرقي نحو التأمل فانه يحاول ان يٌصَنّع منظومات اخلاقية ذات مواصفات تكاملية مثالية مطلقة لانها لابد من ان ترقى الى القبليات/ الايمانيات/ التسليمات التي تصدر عنها(15).
البيئة والاخلاق في فضائي الشرق والغرب
الشرق في انتاجه لانماطه الاخلاقية التي يريدها حاكمة لسلوكه يشترط فيها ان تكون ممثله لاسمى وارفع ما يمكن ان يصل اليه الفعل لانه صادر من جهة تفوق قدرة الطبيعة والانسان عن اللحاق بها والنسج على منوالها الى الحد الذي حاول فيه النص ان يوفق بين الاقتدار المطلق وبين القدرة الانسانية بالدخان (المطلق) وان تقتصر قدرة الانسان على ان يكون حاسة شم فهو يتنسم/ يتصرف ضمن الحدود القاصرة والقاهرة لفعله.
وهذا الوصف او التحليل للنص الذي يحاول ان يوفق بين المطلق في الادراك وبين قصور الانسان في الفهم قد ينقلب الى عقبة عندما يحول مثل هذا الادراك حدساً الى سلوك انساني معاش.
فالحق والعدل والفضيلة والعطاء والرحمة والصفح والامانة والكمال هي مطلقات امكن شحنها الى حد الامتلاء، لذا فانها بقيت تدور في فلك التسامي فكيف يمكن النزول بها الى العالم الطبيعي الذي سيماه النص بالهراقلطيسي كي تكون في متناول الانسان يستطيع سمتها الاطلاقية (16).
فهل ان مثل هذه المحاولة لتطويع المطلق من الاخلاق وشدها الى الواقع نزولاً هو الذي اشاع (القلق) في الفكر الشرقي. ودفع به الى ان يتجه ثانية صوب ما سماه النص نحو الابراهيمية وذلك انتظاراً للانسان او مجتمع انساني يستطيع بالفعل ان يعي ويتحمل ثقل هذه المطلقات من الاخلاق التي يمكن ان تتجاوز قدرة اوقابلية الانسان العادي على تحملها؟
وان مثل هذه الاشكالية التي وجد الفكر الشرقي نفسه في مواجه مباشرة بين ابراهيمية يتمسك بها الى حد الإخلاص، وهيراقليطيسية يعيشها الى حد المحاصرة هي التي قادته الى ان ينزع نحو بناء مدينة فاضلة (Virtuscity) او مدينة الله (city of god) بعد ان تحولت المدينة الهيراقليطيسية الى مدينة خطاة (City of sinners).
هذه بالفعل هي مشكلة السلوك العامَّة والأخلاق كمنظومات مؤشرة وموجهة مؤشرة وموجهة وضابطة للتصرف بخاصَّة بمنعى: هل يمكن أن ينظم/ يضبط السلوك الهيراقليطيسي/ الطبيعي إبراهيمياً؟(17).
الأمرية الشرقية تساجل التناغم الغربي
لقد حاول النص – تحت التفكيك – ان يفرق بين جذري الاخلاق – تصرف واخلاقيات – وبين العربي/ والشرقي المسلم والاخر الغرب الاغريقي الاصول، وان جنح الى شرقنا/ ثقافتنا الاسلامية في بناء اعتقاده الديني مفترضاً أن معرفته تؤهله لعرفانية عالية.
والتاجيل كفضيلتين تحكمان نظرتنا نحو أنفسنا وتجاه العالم، اما الاخر (الغرب) فانه يلتزم بالانسجام والتوافق كموجهات لسلوكه والتي تتموضع بالمقابل موظفه كل من الصبروالرضى، فهل يرجع هذا الى التاثير الكبير للثقافة الابراهيمة الدينية التي استطاعت ان تقدم اجوبة بل حلولاً جاهزة تفوقت على عقبات الوسط الصحراوي الذي لم يتحرك ابعد من البداوة محكومة بقبليتها ومضغوطة بعصبيتها انتقلت بالمشهد الانساني من الوبر (نمط حياة اولي) الى المدر (الحضور) ثم الاستقرار المؤذن بظهور المدينة ودولتها ؟
ورغم هذا الاختلاف في التاثر بالثقافة الابراهيمية او الاغريقية الهيراقليطيسية في افراز نمطين حضريين لنا وللاخر كمحدودات مصادر للسلوك، فان النص انما يحاول وفي حاشيته (ص34) ان يوسع في تلمس الفوارق بين حوامل ثقافتنا وثقافة الاخر، بان الاول انما جذرها (الأمر) اما الثانية فانها تتخذ من (Logos) جذراً لها.
ويعني الأمر الامتثال والاذعان والتسليم، اما يوجوس فانها تعني قاموسياً/ انسكلوبيديا وفق مصدرها الاغريقي الذي صاغه هيراقليطيس (Heraelitus) كمبدأ استدخله في الفكر الغربي للدلالة على الانتظامية (order) جذراً مشتركاً للاساسيات (المنطلقات) الحياتية والكون في الان نفسه.
وتعني يوجوس وفق التصور الاغريقي الذي انتجها فكراً ورسمها لغة. دلالة فلسفية تجمع بين هذا الاتجاه وتوجه التجريد وبين علم النفس التحليلي ومبدأية دلالتها فعلها انما يرهص بالتقدير (To eount) والاخبار (Tell) والقول (say) والتكلم (Speak) واستدلالياً بين ان شيئاً قد قيل وتم تصوره شكلاً لمادة او توصيلا لتسبيب (Reasoning) اما المعنى الثانوي فيدل ان الفعل اذا تكامل (Infinitive) فان المعني المترتب عليه يتسم بالذكائية والعقلانية.
وبتاثير من الابراهيمية فقد انتقل معنى اللوجوس (الفعل والطريق نحو المعقولية) للاقتران بالغيبية، وبالاخص في مجال استعمالها على صعيد الثقافة الشعبية.
وفي الوقت الذي حدد فيه التوجه الابراهيمي خط الامر الذي يعني النهي واخذ مداليله الفعل الاقرب الى لوجوس، فان خطه انما بقى مفتوحاً وبذلك تعددت الاختبارات وهذا مارسب في ثقافتنا الشك والقلق وبالاخص بعد ان اكد النص ان اللغة العربية هي الاخرى قريبة من الطبيعة رغم انها ستبقى محكمة بثقافتها الى حد اختزال الخيارات في محاولة للنظر الى الطبيعة كونياً أي انها كانت اكثر تمسكاً بالابراهيمية في ادراكها وتوظيفها للعقل (logos) والعقلانية قياساً باللغة الاغريقية وما تطور عن استعمالات لوجوس في اللغات الاوربية الحديثة.
وهذا ما دفع بالنص المتعامل معه – ان يختم مؤكداً “فرط التوقد في توافق الانسان مع الكون، ليس فقط على مستوى التعبير الفلسفي المكثف والحدس الصوفي، وانما ايضاً على مستوى السلوك الاجتماعي.
وبعيون معرفية اكثر منها كونية وذلك كي نستطيع اخراج سلوكنا بالكامل ما بين محصورتي الشك والقلق التين ما زالتا تضغطان على الحاضر السلوكي مما يحول دون تعدد اختيارات التعامل ويعمل في الوقت نفسه على المداخلة بين التصرفات (الاخلاق) التي تحكم تعاملنا الاني واليومي وبين ان تبقي النظر اليها داخلة ان لم تكن مختزلة في الاخلاقيات مما يزيدها شكاً وقلقاً يؤثر على سلاسة وسهولة وانسيابية سبل تعاملنا الاعتيادي بعيداً عن التجريد (المثالية) والتحميل (الشك) الذي قد ينقلب الى تشكيك بالنفس والاخر القريب منّا، مما يتطلب معه احداث هزة تقربنا من المعرفة (الابستمولوجيا) التي يمكن ان تنزل بفعلنا الى مستوى وضمن حدود الممارسة (18).
هذا التحول من اخلاق كونية الى معرفية تعيد ربطنا بالمجتمع والحاضر بالذات مما يحرك لغتنا اذ نعيد ربطها بالطبيعة ويفضي كخطوة تالية الى تحقيق لقاء ندّي مع العصر.
ان تحريك منظومة: لغة/ ثقافة/ عصر/ اخلاق، انما يعمل على تأهيلنا لدخول حلبة التنافس الحضاري دون الوقوع بالفراغات التي قد ترتبت على طلاقنا مع التراث في بواكير فتح نوافذنا لرياح الاخر قبل قرنين وفي زواج مصلحتنا مع الحداثة وما بعد الحداثة في القرن العشرين الماضي. ثم ما نمارسه راهناً من اقتران عرفي او سياحي او ما يسمى زواج التسيار – في المنطقة الخليجية المسكونة فهل تنجح لغتنا في قدرتها على الانتساب لذاتها وليس الانكفاء عليها والتقصير في اللقاء مع العصر، وهو الامتحان الاكبر لفاعلية هذه اللغة (العربية) في ان تبقى ثقافتها تستطيع بالفعل ان تكون قادرة على ان تصارع الحضارات الاخرى، لان الحوار الحضاري لا يمكن ان يكون نديّا الا بين اطراف متكافئة.(19)
الخلاصة :
لنفترض وبواقعية ثقافية انثروبولوجية الجذر ان حَضَرَ لها مدلولان الاول هيراقليطيسي/ طبيعي يعني الحضور الواقعي، والثاني ابراهيمي يحاول ان يتجاوز الطبيعة في محاولة للتسامي بالفعل الى حد الرمزية والقبلية؟
ان واقعية حضر الشرقية بلبوسها الشرقاني الذي يسمو بابراهيميته فوق حدود المكان انطلاقاً نحو مدينة فاضلة يمكن ان تتجاوز هفوات وعثرات المدينة الارضية وهي التي اسست للتعارض والتناقض بينهما وبين حَضرَ الهيراقليطيسية الطبيعية التي تلزم نفسها بالحضور (المادي)، لذا فان الاخلاق اقرب الى حضر في مدينة الاخر تنعكس في التصرفات الضابطة للسلوك او ما يمكن ان نسميه حضر المعاشة التي يمكن عقلنتها واخضاعها للسببية يجعل مشكلتها قابلة للحل.(20)
اما حَضَرَ الابراهيمية فانها وبفعل امتلائها بالافتراضية فانها بنت لها رمزيتها اخلاقاً حاولت عن طريقها ان تضبط الطبيعة مثل ان يتحول الى ضبط عن طريق توجيه سلوكهم (تصرفاتهم) (الابراهيمية) التي حاولت اعادة تشكيل الطبيعة رمزياً فلما وجدت ان ذلك قد يتعذر تحقيقه بعد ان دخل الانسان على خط اعادة تصور الطبيعة كوسط خاص به او ما سماه بالطبيعة الثانية (الاجتماعية) لذا فان حَضَرَ الابراهيمية نات بحضورها الى عوالم ارحب، علوية المنزلة، عرضها كعرض السماوات والارض.
لقد انطلقت حضر الاخر من الخاص في الحضور والسلوك الى العام (الاخلاق) لذا فهي لم تغترب عن طبيعة واقعها مما اسس لتناغم (هارمونيا) بين حضورها الطبيعي/ الارضي، وبين حضورها ما فوق الطبي (الامري)، اما حضر الشرقية فانها بدأت من العام ان لم يكن التام نزولاً الى واقعية الطبيعي/ الارضي، مما اضطرها الى ان تلجأ الى الامر جعلها تفهم العقل نهياً لانها تتعامل بادوات تمامية قد تصل الى الإطلاق يجعل تناغمها مسكوناً او حتى مقموعاً بامرها.
على عكس حضر الاخر التي فهمت العقل انسجاما مما زاد في تناغمها في الحضور واثر على الحاضرين في مدينتنا التي خلصتهم ولحدود بعيدة من (افعال الامر) التي قد تحد من حرية التصرف(21).
هذا التحليل للفوارق بين حضر الشرقية وحضر الغربية هي التي قد تعطل من حوار الحضارات اذ يصعب الحوار بين الامر والتناغم لذا لابد من ايجاد “مقاصة ثقافية” تتم فيها المقاربة بين حضورنا وحضورهم واخلاقنا واخلاقهم يتم ذلك وفق مشروع للمكاشفة.
ان مثل هذا المشروع الذي ينطلق من قناعتنا باهمية الحوار شرط التكافؤ والندية مع تجاوز اللحظتين الهينتغتونية التي جذرت الصراع بين حضورنا وجعلته بالضد من حضور الاخر الى حد تصوره تصادماً (Clash) بين من لهم حق الاستمرار وبين من ينزع منهم هذا الحق، أي انها صادرت قدرتنا على الفعل الحضاري وعملت على ازاحتنا من المشاركة في القرار الكوكبي بدعوى تعطيلنا لمثل هذا القرار.(22)
والفوكويامية التي شرعنت التوجه الهينتغتوني لانها انهت الزمن/ التاريخ وذلك بعملية ازاحة استئصالية اذ جعلت من الحاضر الغربي الاخر هو الاخير وهو “الخاتم” للفعل الحضوري/ الحضاري في محاولة لشطب الشرق بدعوى مروره او ما يمر به من فوات حضاري.
ان مشروع المقاربة بين امرنا وتناغمهم هو احد سبل الخروج من مأزق الموجود أو اللاموجود والذي وضعتنا فيه اللحظتان الهنتغتونية والفوكويامية، والا فان صناعتي الموت والارهاب تظلان فاعلتين تعملان بالتناوب، ويصبح تساؤل من يصمم ومن يمول ومن ينفذ؟ تساولاً تافهاً لان الصناعتين (الموت والارهاب) تبدأ بالدوران في فلك خاص بهما وهذا ما يحدث عندما تبدأ هاتان الصناعتان بالعمل لحسابهما مما يؤشر غداً يفوق هلعاً قصص الخيال العلمي التي تصور نهاية الارض كوكباً وحياة دون بقية من زمن تقارب فيه بين تناغم الهيراقليطيسية وأمرية الابراهيمية وامتدادهما الهنتغتونية والفوكايامية اذ تعذر الحديث.
استطرادات مرجعية
1. تطوير دراسة الابنية والعقلية الحاملة لدلالة الحاضر قد يؤشر الطريق نحو دراسات مقاربة لتواصل اللغات رغم تقطيع المكان والزمان والثقافة، فالفعل (ح. ض. ر) بالعربية يقارب (Hydra) التي تعني انحدر، والفعل هايدرا في لغة الاخر يوضف الماء (السوائل) وحركته بالذات التي تتبع خط الانحدار وتنتج عنها حَضَرَ وهو لازمة الحضور او الانتقال من البادية الى الحاضرة كما جاء في التنزيل (وجاء بكم من البدو) يوسف:100.
2. قد تكون هذه محاولة لايجاد وزن معنوي/ ثقافي لحروف اللغة قد يقرب من الوزن الذي للمعادن ما قد يؤشر كيمياوية تركيب المفردة والفعلية بالذات وحفزها لتكون حاملاً للابلاغ فيما يمكن تسميته بعلم اللغة الحضاري.
3. جان بول شارنيه، المثقف العربي بين السلطة والثقافة في اصدار بولس خوري (1983) معهد الانما العربي بيروت، ص ص 98- 99.
4. من الصراعات التي ما زالت حادة، صراع بداوة/ تحضر حضارة منذ ان اشر ذلك ابن خلدون قبل ستمائة سنة. وذلك لان الحضارات والاديان والتاريخ والثقافة انما تأصلت في الاوساط الحضرية: قرى، مدن، فالرسل والانبياء هم من اهل الحضر حيث يبلغ الفقر والفعل المنكر مداه نظراً لتكاثر السكان ومحدودية المكان كما جاء في التنزيل “وما ارسلنا من قبلك الا رجالاً نوحي اليهم من اهل القرى) يوسف:109. وفي العراق التاريخي قد يعظم شأن الحضور والحرية فيقال: مدائن للدلالة على الكم الحاضر.
5. ما زال الوضع السكاني/ الحضري في مجتمعاتنا الشرقية ينطلق من (مدن) مسؤولة والا تضاعفت العشوائيات على حساب المواطنة المدنية الملتزمة مما يجعل الحضور في المدينة حضوراً وهمياً او ناقصاً قد يفضي الى ما نسميه بالرفاهية الفارغة (False welfare).
6. التوسع في مأثور (حَضَرَ) والربط بين الماء والحضور وصحة الفعل والسلوك انما يدل على الدور الفاعل الذي اخذ التواجد يلعبه في طبع الحياة بنمط ثقافي جديد يتناسب ومتطلبات الوضع الحضري الذي وصلو اليه.
7. الوجه الثاني للغة واستعمالاتها والذي اشار اليه (شارنيه) يرتبط بنحو اللغة والذي وقعت فيه اللغة العربية هو فصل النحو عن اللغة، اذ ان النحو (Grammar) انما يذكر مفرداً الى الحد الذي استوعب فيه النحو اللغة باكملها، سهل دخول المنطق والفلسفة مجال النحو، فتحول الى قوالب وجوامد مفتعلة زخرت بها كتب النحو والمدرسية بالذات جعلها عبئاً على المعلم والمتعلم وحد من مرونة اللغة كاداة تعبير ثقافية مع سلاسة في تحريك التعامل الاجتماعي. لذا يتوجب اعادة الربط بين النحو واللغة والمجتمع.
8. الانا الحضورية/ الحضرية تختلف نوعا عن الانا البدوية، لانها وبحكم وجودها في الوسط الذي تحولت اليه فان تفردها وتشكلها كانا لا محدودين فالمكان مفتوح، لذا فقد نبتت في مثل هذا الوسط انا مختلفة تحاكي صفة المضغوط الحضري، فهي انا عاقلة تعي حدودها في الوقت الذي تسلم فيه بحدود الاخرين تقبل بالغير/ الآخر لانها تعايشه وتجاوره فهي اقرب الى (إني) منها الى (الأنا) كما يؤكد ذلك ميد (Mead) وهذا ما قد يصمها بالتذيت او التمحور حول الذات (الانوية).
9. التأكيد على اللغة ودورها في البناء الثقافي وبذلك تمثل اللغة ملغية/ منطوقة/ مرمزة/ مكتوبة وبين الثقافة (Culture) بمعناها الاناسي (الانثروبولوجي) وهو الافق الذي يتوجب تفعيل العربية فيه لانه يمثل التحدي الاكبر لها اذ لابد لها ان تكون فاعلة تنتسب الى قيم واثار حضارية كالاخلاق والفن والعلم والقانون والتاريخ مما يجعلها الوسيلة الفاعلة لكل هذه المشتركات وقدرتها في التعبير عنها حروفياً ونحوياً وبلاغياً مما يمكن الفرد (فردنا) من تعزيز انتمائه للجماعة والمجتمع والانسانية، ومن التحقق من هذا الانتماء واثباته. وبذلك تحترم اللغة اهلها ويتحرم الاهل لغتهم التي اغنت حياتهم. يساعد على اعادة اكتشاف اللغة اذ لم يكتب او يبحث الا القليل عن اللغة (العربية) والحداثة او وضع ثلاثية تضم اللغة والمجتمع والعولمة انطلاقاً من تعزيز انفتاح لغتنا على العصر ولغاته اعارة واستعارة.
10. لقد بني حَضَرَ/ الحضور وضعاً حياتياً جديداً مختلفاً وضاغطاً في الوقت نفسه بعيداً عن الغياب اوالتغيب الذي سبق الحضور والذي اعتمد على التواكل الذي حل محله (التواصل) القائم على تقسيم العمل وما يرتبط به من تخصص وتزايد لدور الفرد وتعظيم لاهمية الانجاز، أي ان الحضور انما احدث نقلة نوعية في التفكير والحياة واللغة والمجتمع والثقافة. والاشكال هو اننا حققنا حضوراً ولكننا قصرنا في بناء حضرية التي تعني بناء طريقة جديدة ومختلفة للحياة وبذلك ظل الوضع التكاملي للانا ما قبل الحضرية يعيش في عز حضريتنا مع تبرير وجوده، مما يحول دون انزياحه وخضوع الحياة الجديدة لتقسيم العمل والاختصاص والمرونة والانجاز مع تقبل الثمن الذي تدفعه شرط ان يكون ثمناً عادلاً (Must price).
11. المتعارف عليه في علم الاجتماع أن المجتمع هو الذي يفرز نمط ضبطه وهو الذي يقدر مدى تحول هذا الضبط الى ضغط. فالجماعة الزراعية حيث المفردات الثقافية محدودة فانها تميل الى الضغط اكثر من ميلها الى الضبط خوفاً أن تفقد ما تمارسه من اعراف تنفذ قبل ان تمارس أي يتم تجاوز فردية الرغبات او حتى التوجهات لتعزيز دور ما يمكن ان نسميه بالاستنساخ الاجتماعي اسرة وديناً وتعليماً وسوقاً وتعاملاً وثقافة. اما في المجتمع الذي تتشكل فيه المراتب والطبقيات ويتم فيه التاكيد على الانتاج والانجاز والبناء فان المعايير هي التي تسود، هذه المعيارية التي تحكم التعامل انما تميل الى الضبط دون الضغط لتحرير الفعل الفردي والحد من التكرار الجيلي.
12. لابد من ابقاء الفروق قائمة بين الاخلاق والتصرفات التي تتحكم في الاعتيادي من مفردات سلوكنا اليومي وبين الاخلاق كاشكال مجردة لانماط يطمح بالارتقاء اليها، تدخل في ما نسميه مجال النمذجة (Ideal type) التي قد يصعب الاخذ بها (تطبيقها او الانتفاع بها) نظراً للمثالية التي صيغت بها. وهذا يتطلب منا – ونحن نمر بفترات تحول حياتي/ اجتماعي/ مصيري – ان نفرق بين المطبوع والموضوع من الضوابط (الأخلاق) إذ من الصعب أن نترك سلوكياتنا اليومية بضوابط مصنوعة مما قد يصيبنا بالتوتر والشد قد يصل الى الاحباط، وقديماً سرى القول بان تبشروا ولكن لاتنفروا.
13. يبدو ذلك واضحاً في الفرق بين الاخلاق كما نعيشها وبين الاخلاق كما نترسمها اجتماعياً، وميلنا الى الثاني منها ان ننظر الى الاخر (المختلف) بعين ما نجلد به ذواتنا او نحمله (كبش فداء) تقصيرنا في التسامي الاخلاقي مما قد يدفعنا للتفكير بمؤامرة اخلاقية موجهة لنا دون وصفها تحت مساءلة لماذا نحن؟ وهذا ما دفع برواد نهضتنا في القرن التاسع عشر والذين كانوا اجرأ من احفادهم من تنويري الحاضران تسائلوا: انهم وجدوا في الغرب مسلمين ولم يجدوا اسلاماً، في الوقت الذي وجدوا في الشرق اسلاماً ولكنهم لم يجدوا مسلمين، بقي السؤال الاكثر اختراقاً لتقاطعات عصرهم وعصرنا والذي صاغوه بانفسهم: لماذا تاخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ فهل انهم تفردوا على حقائق حضارية بابعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية هي ان هناك فرقاً بين الاخلاق التصرفية وبين الاخلاقيات المجردة والتي تميل الى نمذجتها؟
14. جاك برك، (1959)، العرب من الامس الى الغد، ص ص 34 – 35.
15. القبليات والايمانيات التي تنطلق منها المنظومات الحاكمة للاخلاق الشرقية، انما تدلل على حقيقة هي عمق زمن الشرق المتمثل بحضاراته ودياناته ومعتقداته الى الحد الذي ابتعد فيه هذا الزمن عن الطبيعة التي تمثل احد اسس منطلقاته، فهل انفصل التاريخ عن الطبيعة وانفصم عنها وتحول – بفعل قدمه – الى قيد لها حارس لاخلاق ناسها فهل نسي الشرق الطبيعة لشدة التصاقه بالرمز واغراقه في الشخصنة الى الحد الذي لم يعد يفرق فيه او حتى يباعد بين الشخص والموضوع مما قد يجعله دون قضية؟
16. التجريد والاطلاقية الاخلاقية التي تنتقل من الحكم الى التحكم قد يؤثر على اللغة كلاماً وثقافة.
17. هذه محاولة لتوسيع دائرة الدلالة التي تستوعب الانسان متصلاً بالطبيعة ومنفصلاً عنها بدعوى بحثه عن الكمال والاخلاقي بالذات. فهل يمكن ترجمة هذه المحاولة الى وضع مفاهيمي يمكن التعامل به واقعياً عن طريق آليات تسهل تطبيقه كفعل؟
18. السؤال القابل للطرح وصولاً الى معرفة اقرب الى الواقع والتجريب، هو: هل نقلل من توجهنا الكوني ونزيد من توجهنا نحو الطبيعة، ثم التحول منها الى الناس حيث يتم الربط بين العلاقة الاجتماعية وبين الاخلاق الحاكمة لحدود تصرفها قبولاً او رفضاً؟
19. هذا الشرط لقيام حوار للحضارات ليس تعجيزيا وانما تقريري، والا لماذا تعثرت دعوات حوار الحضارات؟ الملوم هو الاخر والواقع هو الذي يحكم الفعل صراعا ام حوارا. اذ كيف يتم مثل هذا الحوار بين حضارات مختزِلة وحضارات مختزَلَة (Deculturation) وقد ادركت الدول/ المجتمعات المعولمة هذا الدرس الاقصائي فعملت على بناء عولمة موازية سميت بعولمة الفقراء التي اريد لها ان تتحدى عولمة الاغنياء الى حد تحويلها الى بديل.
20. قبول الاشكالية الاخلاقية لابد من ان ينطلق من اعتماد المحصلة لكل من هيراقليطيسة الحل الطبيعي. وابراهيمية الحل الديني. ويترك الامر في بناء مثل هذه المحصلة او تشكيلها الى المجتمع نفسه، وما يسود علاقاته وفق تقسيم العمل الذي يحركهما والبنية التي تحكم تراتبها، ومقدار ما تمارسه الثقافة من ضغط على الشخصية المنوالية فيها ومدى الزامها والتزامها بتراثها والتعامل المفتوح بين مجتمعها ودولتها، ومستوى تقليدية او حداثة فكرها وفاعلية نخبتها فوقيا او عضويا والاسرة وتنشئتها ومدى التفاوت بين الاجيال. وهل أن منظومة الفعل [....] أمر الفعل وتنفيذه مما يحول دون التفكير في اجراء الفعل على خلاف الافعال المضارعة التي تقبل بمثل هذه الفترة التي يجري التصرف فيها لتلبية الطلب مثال ذلك اكتب (الامر)، يكتب (المضارع) فالزمن الاول (الامري) ايعاز من خارج الذات ليس للمخاطب الا تنفيذه أي ان يقوم بفعل الكتابة، اما يكتب، فانه تنفيذ الفعل مرهون بالانسان نفسه، وبذلك فانه زمن مفتوح يقبل الانتظار. هذا الاختلاف بين لحظية التنفيذ لافعال الامر والانتظار في الاستجابة للافعال المضارعة التي تمنح فرصة اوسع للتنفيذ بني عليه افتراض هو ان افعال الامر وتزايد حضورها في الحياة والمجتمع انما تعمل بالضد من توسيع مساحة (الحرية) في التعامل المجتمعي مما دفع الى الايحاء بتقليل استعمالها وذلك لاطلاق الكم اللازم من احترام قناعة المخاطب او المخاطبين في الاستجابة سرعة واتجاهاً مما يسمح بممارسة قدر اكبر في الفكر والفعل.
21. هذه الازاحة والابعاد عن القرار الكوكبي لتكريس نوع من التمركز حول الذات وذات الاخر حصراً بدعوى ان حاضرنا الوارث للحضارات القديمة والديانات والمعتقدات لايفي بالشروط التفوقية لحضارة الاخر من الراهن، قد يعمل على تعطيل هذا القرار بجعل المشاركة من خارج الحضارة المحتكرة.
22. ان العالم يمر في حاضره من المرحلة الاليكترونية التي يشكل الانسان نوعا من الحضور ولو باهتاً فيها الى المرحلة الروبوتية التي يمكن ان تزيح الانسان بالكامل عن المشهد الحضاري عندها تدخل الانسانية مرحلة المحاق الحضاري حيث يكون الروبوت الاصلح للبقاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.