روسيا ترفض لتدخلات الأجنبية في السودان ومخططات تمزيقه    البرهان يودع سفيري السودان لمصر واثيوبيا "الفريق أول ركن مهندس عماد الدين عدوي والسفير الزين إبراهين حسين"    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الناشط صلاح سندالة يسخر من المطربة المصرية "جواهر" بعد ترديدها الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله) خلال حفل بالقاهرة    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    السودان..البرهان يصدر قراراً    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هوبزباوم وصناعة الغد هل للتاريخ لسان؟..بقلم: أ. د. متعب مناف
نشر في حريات يوم 19 - 02 - 2012

بحكم اختصاصي في الاجتماع فاني مهتم بالعلم الاجتماعي (Social Science) رغم شموله في احيان كثيرة. علوما انسانية (Humanities) والتي مازالت دون حظها من الفعل والفاعلية في عراقنا وجغرافيتنا العربية وازمنتنا الاسلامية والحضارية.
وتسبب مثل هذا القصور في الحضور المؤثر في قرارنا الثقافي، الحضاري للعلوم الاجتماعية – الانسانية ان خطأ في قراءة الزمن مازال طاغيا في فهمنا للتاريخ الذي ينظر اليه منحدرا (Descending) وليس صاعدا (Ascending) وبذلك يكون زمننا/ تاريخيا لا اتجاهيا خلاف غيرنا من المجتمعات/ الدول الناهضة التي تتمتع بتاريخ اتجاهي(Future – Oriented) وبعبارة أدل فإننا – أمم نامية ودول هشة إنما نقرأ التاريخ وتاريخ الحاضر – بالذات – بعيون ماضية أو في أفضل الأحوال بعيون ماضوية.
هذه القراءة الماضية/ الماضوية للتاريخ وتاريخنا بالخصوص تقف وراء عشقنا المرضي للتاريخ نوستولوجيا (Nostalgia) والتي تعني قاموسيا، (الوطان) الحنين الى الوطن أو ألتوق الى الماضي، توق غير سوى للعودة الى الماضي أو إلى استعادة وضع يتعذر استرداده(1) والعبارة القاموسية مثقلة بالدلالات إذا أنها تسمى ألتوق بالحنين “اللا عاقل” للزمن الغابر، التاريخ (History) والغابر (Archaeology) والقاموس نفسه يخلط بين الطراز/ النمط ألبدئي (Archetype) وبين (Prototype) النمط الأولى(2).
وبدلا من إن يكون هذا النمط الأولى بداية انطلاق تطويري للحياة والحركة والفهم والفن والحضور الفاعل لتعزيز ثقلنا الحضوري والحضاري في الراهن، يتحول هذا النمط (الأولي) إلى نمط بدائي يخترق وعينا الحاضر ليحيله ماضيا.
وللخروج من دائرة الغابر الزمني (التاريخ) والغابر الزمني (الآثار) والتداخل بين النمط البدائي والذي يصفه القاموس بأنه (ممات) (Archive) وما قد يجره هذا كله من وقوع في قطب النوستولجي وتلبسنا بماضي يطغى عليه توق غير سوي (مريض) للعودة إلى الماضي أو ” استعادة وضع يتعذر استرداده ” وبذلك نتحول إلى مخلوقات انثروبولوجية، فان اعتماد القراءة الاتجاهية وليست الارتدادية لأزماننا: العابرة والغابرة قد تكون احد المخارج الممكنه.
وانسجاما مع مثل هذه القراءة الاتجاهية لتأريخنا فان ضلعا ثالثا لا بد إن يضاف إلى كل من الاجتماع والعلم الاجتماعي – الإنساني هو (المجتمع المعاصر) وبذلك يمكن تخليص العلم الاجتماعي الإنساني من الكبت (الابواني) للماضي التاريخي والانتقال بالعلوم الاجتماعية – الإنسانية من التبرير والتفسير إلى الفهم والتغيير، عندها يكون حضور. ا.ج هوبزباوم كمؤرخ فذ وأستاذ تاريخ أكاديمي متمكن ومفكر/ منظر للتاريخ، حضورا فاعلا لأنه حاول ومن خلال كتابه: دراسات في التاريخ(3). ان يقرأ التاريخ، تاريخ الإنسان قراءة اتجاهية (حاضر ماضي) أو من المجتمع المعاصر إلى التاريخ لكسر دائرة استرداد مالا يمكن أو يتعذر نسخه، مما يطلق الحاضر من تسليط الماضي متجها إلى المستقبل، وهي البداية أو في الأقل الإقلاع (Take Off) نحو المستقبل أو ما يمكن إن نسميه (صناعة الغد). ولكن السؤال يظل معلقا هو: هل للتاريخ من مستقبل؟ وللإجابة على هذا السؤال الذي تبدو الصفة الافتراضية عليه، فان هوبزباوم إنما حاول ان يغطي الإجابة من خلال فصول الكتاب الستة و هي:
الفصل الأول: خارج وداخل التاريخ.
الفصل الثاني: معنى الماضي.
الفصل الثالث: ما الذي يمكن ان يقوله التاريخ لنا عن المجتمع المعاصر؟
الفصل الرابع: التطلع الى الأمام: التاريخ والمستقبل.
الفصل الخامس: هل تقدم التاريخ؟
الفصل السادس: من التاريخ الاجتماعي الى تاريخ المجتمع.
والكتاب رغم انه مجموعة من المحاضرات التي ألقاها العالم بالتاريخ والمؤرخ المتفوق أكاديميا: هوبزباوم في مناسبات علمية وندوات فكرية وعلى امتداد جامعات ومنتديات العلم والمعرفة كما نشر أو أعيد نشرها في مجلات علمية مرموقة منها (New York Review of Book) والتي نشرة محاضرته التي افتتح بها السنة الأكاديمية (1993 – 1994) ملقيا إياها أمام جمع من طلبة وطالبات أوربا الوسطى في بودابست والتي كانت بعنوان (خارج التاريخ وداخله) فمن هم الحاضرون في الدائرة التاريخية التي تمتلك القدرة وفرض مصالحها / قرارها على التاريخ ومن هم الذين يعيشون على حافة التاريخ، أي المهمشين تاريخيا؟
وقد اختارت مجلة النشر عنوانا خاصا بها للمحاضرة بعد ان تحولت الى بحث منشور هو : ” التهديد الجديد للتاريخ “. فهل ان تقسيم البشر الى من هم داخل دائرة الاهتمام التاريخي الذين يؤدون دورا فاعلا في المجتمع الحاضر ويتحكمون وفق حضورهم المركزي في الدائرة الفاعلة تاريخيا باقتصاديات ومصائر ومقدرات الملايين واقعا وعولمة، ومن هم خارج دائرة الضوء التاريخي باعدادهم ” الكمية ” الغفيرة التي يعيش دون خط الفقر تجتر أحلامها فيما تسمى بعولمة الفقراء (Globosity of the Poor) يمثل تهديدا جديدا للتاريخ والمجتمع المعاصر حصرا ؟ كما نشرت بعض فصول الكتاب في مجلة: (New left Review) ومجلة ديدالس (Daedalus) التي تصدرها أكاديمية الفنون والعلوم الأمريكية.
ان الفصل الذي أعدت قراءته كاجتماعي (Sociologist) وكمهتم في العلوم الاجتماعية/ الإنسانية واقرأ التاريخ اتجاهياً هو الرابع في ترتيبه لكتاب هوبزباوم المترجم وعنوانه: “التطلع الى الأمام: التاريخ والمستقبل”.
قرأته بعنوان بحثي هذا: هوبزباوم وصناعة الغد: هل للتاريخ مستقبل؟
ومركز الثقل الفكري في محاولتي للمشاركة في وضع تصور لصناعة الغد بعد ان استهلكتنا القراءات اللااتجاهية/ اللامستقبلية للتاريخ التي تعمل على تجاوز وتهميش حاضرنا المجتمعي في محاولات يائسة ان لم تكن قاتلة لاستعادة وضع يتعذر استرداده يدفعنا ذلك الى ان نقع ضحايا حنين “مرضي” أو نسلم بأنناضحايا مؤامرة تتعاون القدرية والتشاؤمية على احكام اقفال دائرة الفعل علينا وإبقائنا خارج التاريخ، وان نترسم الطريق الاتجاهي (الصاعد) للتاريخ.
لقد وقع ابن خلدون أحداهم منظري تاريخ الشرق وقبل ستمائة من السنين ضحية لإغلاق دائرة الفعل بل عمل عل زيادة إغلاقهما عندما قسم التاريخ منطلقا من تجربته التاريخية/ الاجتماعية الى دائرتين سمى الأولى: دائرة الطبع (cycle of Nature) والثانية: دائرة الأمر (cycle of artifact) تلتقي هاتان الدائرتان فيما يسميه بالعمران الذي يترجم بالدولة التي تستمد مشروعيتها من قوتها (في مرحلة مبكرة) ثم من غناها وثروتها وأبنيتها (عمرانها) في مرحلة تالية، إذ أنها تتحول الى ما يسميه ابن خلدون بالدولة كسوق للعالم، عندها تنتقل من المحلية الى المتروبوليتانية (Metropolitan) مما يمكنها من كسر رهاب الخوف من الأخر والانطواء على الذات مما يشيع فيها ضرب من التعددية ويشجعها على قبول الأخر.
ان مثل هذا التحول من المحلية المغلقة الى العالمية المفتوحة ورغم انه يمثل كسرا اوبالاقل خروجا على دائرة الطبع وفي الان نفسه الدخول في دائرة الأمر إذ تبرز الدولة وان ابتعدت عن المأسسة (Institutionalization) الاان ذلك يعيدها الى نقطة الصفر (قدرا أو تشاؤما) موصلا إياها في النهاية الى ان تتراجع نحو الدائرة الأولى، دائرة الطبع وكما في الرسمة التالية .
تدل هذه الرسمة على التصور الخلدوني لدائرتي المجتمع والتاريخ (الدولة) وتلازمها في مسيرة الاجتماع الإنساني، فالأولى إنما تمثل ما أطلق عليه ابن خلدون تسمية (التحضر الوحشي) أو ما أسميته بدائرة الطبع حيث تتسيد القبيلة وعصبتها (عصبيتها) الفعل فيها ضمن محيط جغرافي/ مكان مفتوح هو الصحراء (Desert) وإيقاع الحياة في دائرة الطبع والتي يسودها التحضر الوحشي إنما يعتمد على ” الغزوة والنُفْرة ” تربط بينهما “النُصْرة” التي هي الرابط الحقيقي الذي تقوم عليه العصبية. هذه الدائرة (دائرة الطبع) إنما تتداخل مع دائرة (مصنوعة) هي دائرة الأمر. والتي تمثل ما أطلق عليه ابن خلدون اسم (التحضر الإنسي).
هذا التداخل بين الدائرتين (الطبع والأمر) إنما يؤسس لعلاقة توازن بينهما أو نقطة ساكنة (Static) عندها تتوافق الدائرتان فليس هناك مد من احدهما على الأخرى أو جزر تتعرض له الأولى. ان ابن خلدون إنما قصد من خلال توزيع فاعلية التاريخ الذي عرفه بأنه ” خبر عن الاجتماع الإنساني ” على دائرتي: الطبع والأمر، تباين ارتباط الحدث التاريخي بوسطه الاجتماعي ” الذي هو عمران العالم ” وبذلك ساوى ابن خلدون بين العمران والمجتمع وتصور بان التاريخ هو القنطرة/ القوس/ الجسر (Arch) الذي يربط بينهما. ولكن هذا العمران (عمران العالم) الذي ماهاه مع الدولة (Dawla) انما يتعرض لأحوال (تحولات/ تَصَيرُات) مثل ” التوحش والتأنس والعصبيات واضافة التقلبات للبشر بعضهم على بعض ” وهذا مؤشر على مولد دائرتي الطبع والأمر وغلبة الوحشية والطبعية على الأولى لأنها اقرب الى الطبقية.
(الصحراء/ البداوة) إما الثانية (دائرة الأمر) فإنها تمثل التأنس والتحضر لان عمران العالم لا يمكن ان ينطلق من الدائرة الأولى (دائرة الطبع). فالحضارة. المدنية، كما يرى ابن خلدون (مسؤولية) لابد لمن ينوي حملها من ان يكون مؤهلا لذلك. وفي المقدمة من هذه الأهلية الحاضرية ان يكون قد كسر حدة طبعه وتجاوز وعورة وحشيته بل وقبل (التطبيع) (Socialization).
ولكن لماذا أضاف ابن خلدون العصبيات بعد ان وصل بالتوحش الى حدود التأنس بل دخلها وشرع في بناء القوة المطوعة للسلوك (الوحشي) وهي الدولة وما تعمل عليه من تطبيع سياسي تسمى في الحاضر بالمواطنة في ظل دولة القانون إذ يتم تقليم أظافر الوحشية في السلوك قضائيا؟
لقد غلبت تجربة ابن خلدون التي قوامها انه من الكفاءات المتعلمة والممارسة للسياسة والتي اصطدمت بارتباك الفعل السياسي المتأثر بالبداوة والعصبية القبلية مع عدد من الممالك وليس الدول مما قلل من ايمانه بالدولة التي يتوجب عليها – اذا أرادت ان تكون فعاله في مثل هذا الوسط الرافض للدولة – ان تجمع بين الملك والحكم، أو كما جاء في التنزيل الحكيم ” إني وجدت امرأة تملكهم(النمل أية23).
فالملك أساس الحكم ويصعب ان يكون بدونة اذا يتعذر بناء مثل هذا الحكم (الدولة) في الدائرة الوحشية (دائرة الطبع) دون ان يقوم مثل هذه الحكم على الملك. في وسط يصعب أو يستحيل فيه الخضوع دون الإخضاع.
لقد وظف ابن خلدن التقاطع بين الملك والحكم فحوله الى الية للتعامل بين دائرتي الطبع (الوحشية) والأمر (الانسية). اذ يستمر هذا الحراب ممثلا بأصناف التقلبات للبشر بعضهم على بعض (عصبية/ عمران، دولة/ انحطاط) والفيصل بينهما القوة والتي تبدأ بالتراجع عندما تتحول الى استقواء عندها تصطنع القوة كما هو الحال بالاستعانة بالمرتزقة الذين يدخلون دورة الفعل واللافعل وتبدأ عصبياتهم بالنزوع الى التسلط والسطان مما قد يؤذن بانهيار عمرانية الدولة التي نهضت على قوة العصبية في دورها التكويني.
اما بقية النص الخلدوني : ” وما ينشأ من ذلك من الملك والدول ومراتبها وما يفتعله البشر بإعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال”(4).
فليس أكثر من إعادة صياغة لفظية (Paraphrase) بعد ان ضمن ابن خلدون وضع أساسيات اجتماعه السياسي (Political Sociology) المتمثل بدائرتي الطبع والأمر.
لقد أورد عالم التاريخ الفذ هوبزباوم النص الخلدوني عن التاريخ والعمران والدولة، في صدر مقدمة كتابه (دراسات في التاريخ) انه يقر بالأستاذية في تعليمه ما هو التاريخ وكيف يمكن فهمه والتعامل معه علميا لماركس الذي يصفه مستعيرا التعبير الياباني بأنه سنساي (Sensei) والتي تعني ” المعلم الفكري له على المرء دين لا يمكن تسديده ” وان مفهومه للتاريخ “خير مرشد بفارق بعيد عن سواه”.
وبالرغم من تسليم هوبزباوم بمثل هذه الأستاذية التي ترتب على من يتعلم منها ان يكون مدينا بدين لا يمكن تسديده، فانه يتحول الى ابن خلدون واصفا إياه بأنه مفكر القرن الرابع عشر، جاعلا من تعريفه للتاريخ بأنه خبر عن الاجتماع الإنساني، دليلا فكريا والمرجعية الأساس التي تملك القدرة في ان تكون احد أهم نواهض فكره الموسوعي في التاريخ والاجتماع الإنساني والمجتمع. وبالفعل فان ابن خلدون من الرواد في تاريخ الإنسانية الذي تمكن من تحديد موضوع التاريخ وبذلك سهل بناء مادته ووضع القياس لقبول أو رفض احكامه مما عزز المصداقية الذاتية له من دون ان يصل به الى ان التاريخ علم ليس بذاته وانما لذاته.
ولكن هل تجاوز ابن خلدون بتنظيره لعلم التاريخ ان يسحبه الى المستقبل او ان يخلصه من إسار الماضي واستحواذه على الفعل التاريخي وتحويله الى حوليات وإحداث ميزتها أنها منفردة؟
والواقع فان ابن خلدون إنما اهتم وبعد ان ادرك باختراقه المذهل للسلوك الإنساني ان هناك فجوة بين ما كان يسمى في زمانه بالتاريخ وما زخر به من حكايات واحكام والخلط بين عمل الفقيه والمؤرخ ودخول الية الترغيب والترهيب على الكتابة التاريخية، وبين ما كان عليه الواقع المعاش سياسيا من صراع واحتراب أدى الى ان ينفصم التاريخ عن الواقع الحياتي فيتحول الى لعبة فكرية اختصت بها نخبة كاتبه تترجم وبشكل دعاوي فعل الحكم والحاكمين ولا تخرج عن دائرة الوعاظ لسلاطينهم والساترين لعوراتهم.
ولحسم كيف يمكن ان تكون الكتابه في التاريخ وللتاريخ استطاع ابن خلدون ان يفصل التاريخ عن الدولة ويربطه بالناس معرفا التاريخ: بأنه خبر عن الاجتماع الإنساني يمكن ان يتوزع على دائرتي الطبع وهو نمط أولي (Prototype) لا يقوى على النهوض بحمل الدولة واستحقاقاتها لأنه يستنفذ قوته في التجاذبات الوحشية. ودائرة الأمر التي تكون مؤهلة للنهوض بحمل الدولة. انصرف الناس – بعد تامين قيام دولة لهم تفرز فعل الدائرة الامرية – الى ما ينتحلونه بإعمالهم ومساعيهم من ” الكسب والمعاش والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال”.
فهل للفكر (العلمي) التاريخي لابن خلدون امتداد استشرافي نحو المستقبل، أو في الأقل يمثل إرهاصا بتأشير شكل من أشكال الكتابات المستقبلية (Futuristic)؟ والجواب المتوازن ان ابن خلدون اهتم الالية التي يمكن ان يعمل وفقها التاريخ وتنبؤه محصور في العلاقة بين قوة العصبية (Solidarity) وقدرتها في النهوض بالدولة، ولكن لماذا تدول أو تزول هذه الدولة؟ لان العصبية في تحولها إلى دولة إنما تبنى هذه الدولة أو قد تتخذ الدولة في بنائها نمطا عمرانيا يقضم من قوه عصبة الدولة في مرحلتها التكوينية معوضا إياها بعمران لاحق.
ولكن هل هناك توازن أو موازنة بين فاقد العصبية والعوض العمراني، أي ما يفقد من عصبية البناء يعوض بما يتحقق في العمران مما يحول دون دولان الدولة (انهيارها) ويستمر بالدولة حاضرة وفاعله؟ هذه هو التساؤل الصعب الذي يعكس الخلل في المعادلة الخلدونية للتاريخ ويحول دون نفوذها الى التنبؤ والمستقبل.
يجيب الدكتور عبد الله العروي المفكر والمؤرخ المغربي في كتابه القيم (مفهوم الدولة) وهو الأقرب والأقدر على فهم الفكر الخلدوني سياسيا واجتماعيا إن ابن خلدون إنما هو مسلم وفقيه ومغاربي قبل ان يكون مؤرخا وسياسيا ومفكرا،لذا فان ما يوجه فكره ويطبع منهجه في الكتابه هو ان يكون ” متبعا لا مبتدعا ” لان البدع إنما تكون مذمومة وبذلك تحسب ضدا على من يقوم بالابتداع لأنه بذلك يقطع سلسلة الاتباع التي يمكن ان تربط حاضر الأمة بماضيها(5).
ويدلل العروي على إتباع ابن خلدون نافيا ابتداعه تسليمه بان النقصان إنما هو ملازم للزيادة التي قد تتحقق في مرحلة العمران وما يرتبط بها من علو في البنيان وترف في العيش وطيب في الأكل ونعومة في الملبس وكنز للثروات وما قد يلازم هذا كله من خفوت للوازع الديني والأخلاقي ويؤذن بالخراب لان صلاح أخر الأمة لا يكون إلا بالرجوع الى ما كان عليه اوائلها. فابن خلدون إذن إنما كان يتحرك في مساحة ضيقة محصورة بين حدين :الأول خوفه بان يكرر سابقيه من المؤرخين التقليديين الذين يملئون كتبهم بالتصورات والاحدوثات (الأساطير) منتهين بزمانهم فالتاريخ مادته (شريفه) لأنها تعمل على جمع أخبار الرسل والملوك ولا دخل للعامة (Mass) الذين يتبعون دين ملوكهم. ورغم ان لكل فرعون موسى، فان الطغيانيه وأعمال الملوك هي التي طغت على المادة التاريخية والتي حاولت – المادة التاريخية – ان تخاطب الناس – العامة – على قدر عقولهم لذا فقد تكون الخطاب التاريخي بان يخاطب إفهام الناس الذين ظلوا خارج أو على هامش التاريخ حتى عصور متأخرة في الشرق والغرب لذا فقد ارتبط الشغب والعنف بهم يقال: شغبت العامة وعنفت بالبيت.
والثاني ما يمليه عليه إيمانه ويرتبه عليه من مسؤوليات دينية وفقهية تزيده من وخز ضميره (Super Ego) وهذا واضح في الفراغ الكبير بين مقدمة كتابه (الجزء الأول) منه وبين بقية المطول من كتابة. اذان ما طرحه من فهم وتصور والية لتاريخ جديد او تجديدي، لم يطبقه على ما أورد من احداث وحادثات لا يخرج فيها عن نطاق من سبقوه من كتاب التاريخ القصصي/ السردي.
فهل كان ابن خلدون مبتدعا في المقدمة (الجزء الأول من كتابه) ومتبعا في بقية اجزائه لذا وضع ابن خلدون تسميه لكتابه هي: العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن جاورهم من ذوي السلطان الأكبر.
والواقع ان ما أثار فضول رجال الفكر والمعرفة في الغرب والشرق وفي الطليعة منهم مونتسكيو (روح القوانين) واوكست كومت (دروس في الفلسفة الوضعية) و العديد من رجال الفكر الشرقي منهم جمال الدين الأفغاني، ليس الكتاب وإنما المقدمة (الجزء الأول) التي تراوح النظر بين أنها فتح في فلسفة التاريخ لأنها عبر وبين وضعها لما تم ابتكاره، علم الاجتماع (Sociology) باعتبارات العمران (Urbanization) هو احد أهم نواهض علم الاجتماع الحاضر.
ورغم هذا كله ووصف العديد من الكتاب والمفكرين من ذوي المكانه في علم الاجتماع والانثروبولوجيا ان ابن خلدون انما حصر نفسه في دائرة فكرية ضيقة – رغم إضافته – حتى في مثل هذه الدائرة. لكنه أضاع العديد من لمساته وإضافاته لعلم التاريخ ودخوله على خط بناء لهندسة بشرية (العمران). فانه كان قدريا متشائما مترددا في احكامه مقصرا في تحليلاته التي يشفعها بان تقديراته ومبهما بلغت من الدقة في العمق وما يسودها من تجديد وما تتبعه من آلية فإنها تخضع لما تقدره الأقدار.
فهل أسهم ابن خلدون في صناعة الحاضر أوفهم كيف يعمل هذا الحاضر أكثر من إسهامه في صناعة الغد والتنبؤ بالمستقبل وبذلك بقي في الحدود الشرعية والمشروعة والمشرعنة بين الابتداع والإتباع وبين الحفاظ على النص والعمل على تفكيكه (Destruction) بدلا من ان يجرد ويعمق كما يؤكد المفكر المغاربي محمد أركون أستاذ الانثروبولوجيات الدينية الإسلامية في نقده لكتاب الشرق ومفكريه؟ لقد حاول هوبزباوم ان يقارب بين النموذج الخلدوني الخاص بدائرتي الطبع والأمر وما طرحه في كتابه ترجم (1998) الأمم والنزعة القومية منذ عام (1780) وبعد ان استعرض مفهومي الأمة/ القومية كما عرفها ارنست رينان والماركسيون النمساويون بأنها ترابط في الوقت الذي عرفها رينان بأنها ارتباط أضاف هوبزباوم قائلا ” ان كلا التعريفين محاوله جلية للهروب من قيود الموضوعية القبلية (Apriori) في الحالتين، وان يكن بطريقة مختلفة بتكييف تعريف الأمة مع المناطق (الأقاليم) التي يتعايش فيها أناس ذوو لغات مختلفة أو قوانين موضوعية أخرى. كما حدث في فرنسا وإمبراطورية هابسبورغ. وكلاهما مفتوح على الاعتراض القائل بان تعريف الأمة من قبل افرادها الواعين لانتمائهم اليها وهو حشو ولا يقدم سوى دليل استدلالي (Aposteriori) على ما هي الأمة. علاوة على ذلك. انه قد يقود الغافلين الى طرفي النزعة الارادوية (Voluntarism) التي ترى ان كل ما هو مطلوب بكينونة أو إعادة خلق الأمة هو إرادة الأمة في ان تكون امة ” هوبزباوم(6).
فالدليل القبلي هو الأقرب الى دائرة الطبع الخلدونية مما يؤكد قوة وفاعلية هذا الدليل القائم على الارتباط اما الاستدلالي (الترابط) فانه دليل كما يسميه هوبزباوم مصطنع (Artifact) وهذا ما يمكن ان يمثل دائرة الطبع الخلدونية.
وللخروج من اسر الدائرتين: الطبع والأمر الخلدونية والربط والترابط لهوبزباوم لأنهما يظلان دوائر سياسية/ اجتماعية مستهلكتين في برهة زمنية ضائعة قد تكون اقرب الى النموذج (Paradigm) لا تنتمي الى التاريخ إلا إذا تم ربط الأمة بالتاريخ والتاريخ بالأمة وهو ربط تبريري أكثر منه تقريريا. لذا فان هوبزباوم وفي محاولة لإضفاء نوع من العقلانية (التعبيرية) على تعريف الأمة ثبت ما يأتي ” ان المسالة القومية كما أطلق عليها الماركسيون الأوائل. تقع في نقطة تقاطع (السياسية والتكنولوجيا والتحول الاجتماعي) ان الأمم توجد ليس فقط كتوابع لنوع معين من الدولة الإقليمية أو الطموح الى تأسيس الدولة – بالمعنى العريض… ويتفق معظم الباحثين اليوم على ان اللغات القومية القياسية، المحكية والمكتوبة، لم تكن من الممكن ان تظهر في حد ذاتها قبل الطباعة ومحو الأمية الجماهيرية، وبالتالي التعليم المدرسي الجماهيري.. ان الأمم والظاهرات المرتبطة بها يجب بالتالي تحليلها في ضوء الشروط والمتطلبات السياسية والتقنية والإدارية والاقتصادية وغيرها.
وهذا ما يراه هوبزباوم ضروريا لدخول الأمة في التاريخ وابعاد دخول التاريخ فيها.
لقد كانت الثيمة (الموضوع) الرئيس لفصل هوبزباوم الثالث (النوستالجي) الذي عرف قاموسيا بأنه الوطان أو حب الوطن والذي تعني – الثيمة – كذلك الهوس بالماضي مع تعذر أو استحالة استرداده مما يخلق إشكالية (أزمة) في مجال التعامل مع التاريخ والماضي بالذات فهناك توقد في إعادة إنتاجه حاضرا مع التسليم باستحالة مثل هذا الاسترداد للماضي مما يعظم من قدرة الماضي على ما ينسب إليه من أساطير.
أما الفصل الرابع للمؤرخ هوبزباوم فانه يدور حول موضوع مقلق الى حد ما هو ” التنبؤ” (Forecast) ولكن كيف يتم مثل هذا التنبؤ؟ وهل ان ما يصدق على العلوم الاجتماعية. يصدق على التاريخ لان الفصل (الرابع) هو بالأساس محاضرة في ذكرى مفكر وصفه بأنه عالم اجتماع ” في المجتمع ومن اجل المجتمع، وليس فقط حول المجتمع “.
والسؤال الذي يطرحه هوبزباوم هو: هل يستطيع التاريخ ان يهرب من المستقبل؟ والواقع فان المستقبل انما يمثل البعد الذي يتحرك نحوه الماضي كي يتم تحرير زمن جديد هو الحاضر أو كما أورد ذلك هوبزباوم قالا ” لذا ينبغي ان يكون لدى المؤرخ شيئا مناسبا لقوله عن الموضوع (موضوع المستقبل) وبعكس ذلك لا يستطيع التاريخ ان يهرب من المستقبل، حتى لو كان السبب الوحيد عدم وجود خط فاصل بين الاثنين. ما قلته توا ينتمي ألان الى الماضي. وما انا بصدد قوله ينتمي الى المستقبل. وفي مكان ما بين الاثنين هناك نقطة” وهمية لكنها دائمة الحركة يمكن إذا شئتم ان تسموها (الحاضر)(8).
يسلم هوبزباوم بان هناك وحدة زمنية متصلة: ماضي ومستقبل بينهما حاضرا وان الماضي يحتل المساحة الأوسع في مسيرة الزمن في الأقل كرونولوجيا وان اختراع الأنساب أضفى على الزمن الماضي طابعا قيميا فالأجيال من البشر تنسب لأجدادها الذين تحولوا الى ألقاب (Surnames) وتعني الاسم الأخير في الثقافة الاوروامريكية، والذي يشترك الإنسان مع غيره فيه يأتي بعده الاسم الوسط وبالحرف الأول له ثم الاسم الخاص بهذا الإنسان.
وبذلك يحتل الماضي الذي يفترض ان يكون لاسم الأخير – عائلة/ عشيرة/ مكان/ صفة – الاسم الأول في الدلالة التي تنتهي بالاسم الخاص بالفرد نفسه أي اسم المستقبل، في الوقت الذي لا يحتل فيه الاسم الوسط (الحاضر) إلا حرفا واحدا تأكيدا لسطوة الماضي من جهة وإخضاع المستقبل له الى الحد الذي تجمع فيه هذه الأسماء الأخيرة للدلالة المشتركة المنسوبة الى عائلة واحدة. وهذا نوع من التأكيد على الماضي (نسب وتاريخ) وتسهيل أمر النبوءة وذلك بإمكان الحكم على انتماء بل وسلوك الإفراد بمجرد التعرف على أسماء عوائلهم وبالذات في المجتمعات التي دخلتها الصناعة. ولكن ذلك لا ينفي ان الإنسان في قديم تاريخه وخارج أوربا في أوساطنا الشرقية هو الأخر يتمسك بمثل هذه النسبة وأهمية ذلك الانتساب.
اختصت مثل هذه التسميات الانتسابية بالملوك ومن يلي السلطة والحكم لذا فقد كانت هناك جداول احتفظ بها التاريخ القديم لتسلسل ملوكه ورجال الحكم والثروة والجاه فيه وكأنها امتياز لهم ثم انتقلت أو عمم مثل هذه الاستعمال لتثبيت الأنساب على العامة من الناس تأكيدا للهيمنة الذكورية على المجتمع والتي ارتبطت في العديد من الثقافات والأديان بالمواريث. هذه الممارسات النسبية والتاريخية إنما تلتزم بشكل أو بأخر بالتنبؤ واستخدام الإسقاط المستقبلي في رسم القادم في الإحداث.
لقد أحس الإنسان بأهمية مثل هذا التنبؤ لذا فقد صاغ أحدوثه اوديب والتي اختص بها أميرا يونانيا (إغريقيا) تتنبأ له العرافات بزواج الام وقتل الأب الى حد اعتبار مثل هذه الاحدوثه قدرا لا يستطيع ان يتخلص منه الملوك والأمراء ممن يتفردون بالسلطة. وبالفعل فان مثل هذه الاحدوثه/ النبؤة تتم وتتجاوز صدقيتها قدرة الملك وضعفه امام التتابع (القدري) للزمن.
فهل التنبؤ وسيلة لتجاوز احتكار التاريخ والماضي بالذات للفعل الإنساني أو هو نوع مما سماه هوبزباوم من ” التطلع ” أو الهروب الى الامام والذي بدون مثل هذا التطلع فان التاريخ يظل يدور أو اغلبه – في الأقل – في الماضي؟ وهل ان الإنسانية كانت ستظل منكفئة الى الماضي تجتر قديمها لو لم تحدث مثل هذه التنبؤات التي حدت أو حررت الإنسان من ان يبتلعه الماضي او ماضيه بالذات مما يحول دون التطلع نحو المستقبل؟ وبسؤال اقصر: هل التاريخ بدون التنبوء لا يمكن له ان يبنى مستقبلا له في الوقت الذي يتمكن فيه من ان يطلق حاضره؟
أو ان التنبؤ ليس أكثر من حلم (Dream) عن طريقه يستطيع إنسان المجتمع ان يبرمج أفكاره وطموحاته فيضعها في متصل زمني يقسم فيه انجازاته بين الماضي والحاضر والمستقبل؟ فيخصص لكل من هذا البرهات الزمنية حصتها المناسبة من الانجاز؟ مثل هذه التنبؤات ازدادت أهمية بعد ان أمكن الفصل بين التاريخ النسبي والتاريخ الزمني الذي ارتقت فيه الاحداث في أهميتها الى مستوى أهمية الأفراد ومن ذوي السلطة بالتحديد.
عندها تحول الحكم على الملوك ورؤس الدول والمجتمعات ليس عن طريقة انتسابهم وإنما في ضوء انجازاتهم فالملك لا يكفي ان يكون ملكا وإنما يتوجب ان يكون صالحا وهذا ما دفع بأحد أهم المفكرين والمنظرين في الاقتصاد والسياسة الفريدو باريتو (A. Pareto) ان يصوغ أطروحته الخاصة بان التاريخ ليس أكثر من مقبرة للارستقراطيات في محاولة ” ذكية ” من ان الأنساب لوحدها لا يمكن ان تشفع لمثل هذه الارستقراطيات من ان تخلد ذواتها في الحكم والسلطة وانما يجب ان تكون فعالة وإلا هرمت وسقطت في النسيان مما يفسح الطريق لحركه صاعدة من الحضيض كي تتربع على هرم السلطة(9).
هنا التنبؤ بدوران السلطة وانهيار الرؤوس القديمة وصعود الجديد والمغمور منها محاولة لتقنين التنبؤ ونقله من التوقع والتطلع الى الفعل والمسار وجعل ذلك جانبا مهما من التاريخ والسياسي منه بالذات. فهل يمكن تحويل التنبؤ الى مسار أم انه اختراع لعبقري أراد ان يفرض فكره على الاحداث أو ان يسوق التاريخ بعصاه؟
لذا فان هوبزباوم إنما يقرا التنبؤ كمؤرخ ومفكر قائلا “… فالبشر لا يملكون إلا ان يتنبؤا بالمستقبل عن طريق شكل من أشكال قراءة الماضي. إذ لا حيلة لهم، وهذا ما تقتضيه العمليات الاعتيادية للحياة الإنسانية الواعية، ناهيكم عن السياسية العامة. وهم بالطبع يفعلون ذلك على أساس الافتراض المبرر بان المستقبل عموما يرتبط ارتباطا منهجيا بالماضي. الذي بدوره ليس سلسلة اعتباطية من الظروف والأحداث فان بنى المجتمعات البشرية وعمليات إعادة إنتاجها والياته وتغيرها وتحويلها من طبيعة بحيث أنها تحدد عدد الأشياء التي يمكن ان تحدث وتقرر بعض الأشياء التي سوف تحدث. وتجعل من الممكن نسب احتمالات بهذا القدر أو ذاك الى الكثير من الأشياء المتبقية الأخرى.
ويعني هذا مدى معينا (ينبغي الاعتراف بأنه مدى محدود) من إمكانية التنبؤ. ولكن، كما نعرف جميعا، فأن إمكانية التنبؤلا تساوي بأي حال النجاح في التنبؤ.
ومع ذلك من الجدير ان يكون ماثلا في الذهن ان تعذر التنبؤ يلوح بهذا الحجم الكبير أساسا لان المحاجات حل التنبؤ تميل الى التركيز ولأسباب واضحة على تلك الأجزاء حيث يبدو اللايقين على أخفه، إذ لا حاجة الى خبراء في الأنواء الجوية ليقولوا لنا ان الربيع سيأتي بعد الشتاء(10).
وهذا يدل على قلق مؤرخ وأستاذ تاريخ محترف بأهمية التنبؤ والقلق من استخدامه. فالبشر ليس أمامهم إلا ان يتنبئوا بالمستقبل عن ” طريق شكل من أشكال قراءة الماضي “. وهذا إقرار بان التنبؤ إنما يرتبط بقراءة الماضي بشكل من الإشكال مما قد يسلم بان التاريخ هو الماضي من الإحداث والحوادث الإنسانية إي تلك التي تكاملت، لذا يمكن ان يعول عليها كمرجعيات لحمل ما يمكن ان يتم التنبؤ به كاحتمالات مستقبلية. وهذا يرتبط بالعمليات الاعتيادية للحياة الإنسانية ارتباطه بالسياسة العامة. ويبرر هوبزباوم ممارسة الإنسان ومجتمعه للتنبؤ من افتراض ان المستقبل عموما ” يرتبط ارتباطا منهجيا بالماضي ” اي ان الماضي لا بد من ان يكون له مستقبل يفصل بينهما تحقق البرهة الحاضرة. فهل هناك ماضي اثاري مدفون وماضي تاريخي مكتوب ومقروء، وما مدى فاعلية الانثروبولوجين و المؤرخين والسوسيولوجين في تجسير الماضي المدفون بالماضي المكتوب المقروء؟ ويمكن الاتفاق مع هوبزباوم في زعمه بان من ” طبيعة بني المجتمعات البشرية وعمليات إعادة إنتاجها والياته وتغييرها ” ان تحدد عدد الأشياء وتقرر ما يحدث وما سوف يحدث، اي المعجل والمؤجل في الإحداث أو ما يمكن ان يتم وما سوف يتبقى لإتمامه.
ولكن مثل هذا التصور لقدرة الاجتماع الانساني أو ما يسميه هوبزبام بالمجتمعات البشرية وإعادة إنتاجها ” على توزيع حصص الأحداث على وحدات الزمن المختلفة رغم منهجية تتابعها، تصور فيه الكثير من التعميم والتفاؤل فالماضي من التاريخ يظل يحتفظ بالحصة الأكبر من هذه الحادثات وعن طريق هذه الحصة الأكبر (تاريخيا) تبرز إمكانية (الماضي) على التنبؤ بما يحدث مستقبلا.
إلا ان هوبزباوم وهو يضع في تقديره مثل هذا الاتناسب بين توزيع حصص الأحداث بين مكونات الخط التاريخي – إنما يستدرك قائلا: “ويعني هذا مدى معينا (ينبغي الاعتراف بأنه مدى محدود) من إمكانية التنبؤ”.
فهل ان استدراك هوبزباوم للتاريخ الماضي وقدرته على التنبؤ رغم الكم الكبير لفاعليته الزمنية لامتلاكه الوافر من الأحداث وتمكنه من احتمال/ توقع ما سيحدث، هو خوفه من ان يكرر ماضي التاريخ نفسه وبصوره ميكانيكية في المستقبل أو كما يتداول: ان التاريخ يكرر نفسه؟ ان هذا واضح من التأكيد بأننا يجب ان نفصل بين إمكانية التنبؤ وبين واقعية نجاح مثل هذا التنبؤ وهو اعتراض في غاية الذكاء، لان تاريخ الماضي يمكن ان يتنبأ أو يتوقع أو يبني احتمالات ولكن ليس بالضرورة ان تنجح مثل هذه التنبوأت اي أنها تصبح واقعا. وهي محاولة لتخليص المستقبل من اسر الماضي وتمكين الحاضر من الانطلاق.
ويستمر هوبزباوم في سعيه لتخليص المستقبل من هيمنة وتسلط ثقل الماضي بالفرز بين محاجات التنبؤ التي يباعد بين تلك التي يبدو القين واضحا فيها وتلك التي تقع في خانة اللايقين، ويدفع بالتنبؤ على ارتياد محاجات اللايقين أو تلك الأجزاء إذ يبدو اللايقين على أخفه ” وأننا لا نحتاج الى “خبراء في الأنواء الجوية ليقولوا لنا ان الربيع سيأتي بعد الشتاء “أي تلك التنبؤات التي تصوغ أو يتوصل عن طريقها الى ما يمكن ان يسمى بتحصيل الحاصل.
فهل ان استدراك هوبزباوم للتنبؤ السطحي والفرز بين القدرة على التنبؤ وتحقق مثل هذه التنبوأت محاولة لوضع التنبؤ بالمستقبل في حجمه الصحيح من جهة والحكم على صحة هذا التنبؤ من خلال صحة نتائجه من جهة أخرى؟
ولكن لماذا تلجأ مؤسسات كبيرة ضالعة في سياسة رسم الأفكار والتصورات المستقبلية أو ما يسمى بالمستقبليات الى التنبؤ والى رصد الإمكانيات البشرية والمادية لإنجاح مثل هذا التنبؤ؟
فهل أنها “تحرث في البحر” إما انها تدري ما يمكن ان تحققه مثل هذه التنبؤات وانها تفهم التنبؤ ليس كوسيلة لتحديد ما يمكن ان يحدث (فعلا) في المستقبل وإنما تحاول ان تتوصل الى وضع بدائل ممكنة الحدوث او تكون نسبة التوقع بها عالية؟
يساعدها في ذلك التكنولوجيا الرقمية في رصد الاحداث وتبويبها وجدولتها حسب فاعليتها وإمكان اشتقاق بدائل منها تتمتع بنسب متفاوته من توقع حدوثها.
ولابد من ان تنجح بعض هذه الاحتمالات نظرا للتطور المذهل في أساليب التعامل (الكمي/الإحصائي) معها.
وبذلك تضمن مثل هذه المؤسسات وتوفيرها لهذا الكم من بدائل المستقبل ان يكون حضورها في الغد فاعلا ان لم يكن متفوقا.
إلا ان هوبزباوم ينبه الى ناحية لها اهمتيها ترتبط بعمل المؤرخين هو ان البعض منهم في محاولة لاختراق الحاضر والمستقبل انما يوظفون التاريخ الماضي وتحويله الى مرجعية حاكمة قد يبدو معها الحاضر بل وحتى المستقبل (تافها) وبذلك يرفع هؤلاء من سقف يقينية الماضي وخفض يقينية الحاضر والمستقبل والوصول بها الى مستوى اللا يقين وبذلك ينصرف الاهتمام بالحاضر والمستقبل ويتحول نحو الماضي بدعوى كماله واكتماله “ولكن بما ان ما يهمهم جميعا من الناحية العملية هو بالدرجة الرئيسية استخدام التاريخ لتبرير ما كانوا يريدون عمله في كل الأحوال، فأن هذا لا يقدم حافزا يعتد به لتحسين قدرات المؤرخين التنبؤية”(11) وهذا يعني ان الفاصل بين التنبؤ وبين صحة مثل هذا التنبؤ يكون قد اختصر الى درجة تحط من قدره المؤرخين على التوقع وتنزل بهم الى ما دون المستوى اللا فاعل وبذلك يفقدون سمعتهم والاكاديمية وتقديرهم المجتمعي،
ان التنبؤ صناعة اي انه يجمع حسابات الربح والخسارة ويمتد الى الاحتراف وله قواعد. وهذا يصدق على الزمن القديم في العراق الرافديني صدقة على الحاضر إذ عندما خربت بابل بعد ان تحول النهر عنها الى حيث تقع مدينة الحلة الحالية واندست عظمتها فلم يبق من أهليها إلا السحرة أو الذين يقرأون (الطالع) لذا بقي الناس يتردون على البقية الباقية من أهل بابل لقراءة ما يسمى بالعامية العراقية بالبخت.
ولكن لماذا هذا الاهتمام بالتنبؤ؟ يمكن ان يعود الى ان هناك العديد من الرغبات التي ما زالت دون التحقيق، كما ان هناك العديد من الأسئلة التي تفتقر الى الاجوبه الشافية بالخصوص.
ورغم ما وفرته الأزمان الماضية من إجابات التي سمحت بالتداخل بين الأسطورة والواقع والحقيقة بالتهويل دون ان تكون هناك حدود تفصل بينهما كما هو الحال في الحاضر، فان العديد والعديد من الرغبات وبالأخص تلك المتعلقة بالإنسان ما زالت مفتوحة في احتمالات الإجابة عنها.
إلا ان صناعة التنبؤ انما تفتقر الى التقنين فليس هناك مواصفات معينة في من يمارسونها أو قواعد محددة يتوجب إتباعها، ونجاحها انما يرتبط بنجاحها اي بمقدار ما يمكن ان تكون التنبؤات وتوقعاتها مطابقة للنتائج أو امكان ترجمتها الى واقع.
يضاف الى هذا ان التنبؤ انما ينصب على المستقبل لذا فأن مزج التخيل بالتوقع عملية في غاية الدقة لان الإفراط بالتخيل ورغم انسجامه مع الرغائب الإنسانية إلا انه يظل متأثرا بتلك المسحة من الواقعية التي تضفي نوعا من المقبولية على الفعل الإنساني في حاضره والى حد ما في الشكل المستقبلي لهذا الفعل. لقد استطاع البابليون (قدماء العراق الرافديني) ان يحققوا غرضا مازال عزيز المنال في الحاضر وهو تحقيق توافق بين خصوبة الإنسان وخصوبة الطبيعة (انتاجها الزراعي) وبذلك سينطلق كما يقول هاري ساكز نشيد الانشاد(**) (Canticles) لتجاوز ضعف الانسان وجدب الطبيعة، فهل ينسحب هذا على الحاضر الذي يظل دائرا ومحصورا في ما ورث له من انجازات وصلت الى حد الاعجاز والتي تكون جزءا أو جانبا من واقعية الحكم على توقع الفعل الإنساني وان نفرت به الى المستبقل المفتوح لكل الاحتمالات.
ولكن أين هو المؤرخ من مثل صناعة التنبؤ وكم يحترم احترافه وعمله في وسط جامعي/ أكاديمي إذا ما جنح الى التنبؤ وذلك بفعل ضغط الكم الذي يوفره لنفسه من (الكامل) من فعل الإنسان في الماضي؟ يجيب هوبزباوم قائلا ” يختلف التنبؤ التاريخي عن كل أشكال التنبؤ الأخرى من ناحيتين. ففي المقام الأول، يعنى المؤرخون بالعالم الحقيقي التي لا تكون الأشياء الأخرى فيه متساوية أو مهملة أبدا. والى هذا الحد يعرفون انه ليس هناك مختبر عالمي مثالي نستطيع ان نبني فيه كما هو ممكن نظريا، وضعا تكون لأسعار السوق فيه علاقة يمكن التنبؤ بها مع المعروض من النقد.
فالمؤرخون يعنون بالتعريف لمجموعات معقدة ومتغيره، وحتى أسئلتهم الأكثر ملموسية والأشد تحديدا لا يكون لها معنى إلا في هذا السياق.. ومن هذه الناحية يشبه التاريخ فروعا مثل علم دراسة البيئة رغم انه أوسع واشد تعقيدا. وفي حين إننا نستطيع ان نعزز بل ويجب ان نفرز خيوطا معينة من شبكة التفاعلات المتصلة، فاننا ينبغي إلا نمارس علم دراسة البيئة أو التاريخ إذا لم نكن معنيين أساسا بالشبكة نفسها.
لذا يتمثل هدف التنبؤ التاريخي، من حيث المبدأ بتوفير البنية العامة والنسيج العام الذي يتضمن، من حيث الإمكان على اقل تعديل وسائل الإجابة عن كل الأسئلة التنبؤية المحدودة التي قد يرغب من لديهم اهتمامات خاصة في طرحها. طبعا بقدر ما تكون أسئلة يمكن الإجابة عنها أصلا” (12). . فالتنبؤ التاريخي بهذا المعنى إنما يكون جزءا من المعرفة بالسياقات التاريخية التي تحاول ان تعزز التواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل وبذلك يمكن فك الفراغات التي يمكن ان تنشأ بين هذه الأزمان والانطلاق منها الى المستقبل.
ولكن الانطلاق الى المستقبل عملية/ محاولة في غاية التعقيد لأنها محكومة بما يمكن ان يقبله المستقبل نفسه وإلا اختل التواصل بين الفواصل الزمنية وغاب التمفصل عنها وتحولت الى مجرد (حدس) بعيدة عن المعرفة وبالأخص في صيرورات التاريخ.
فالمستقبل زمن مفترض وهذا يتطلب ان يكون التوصل إليه حاملا كما من المعرفة والتاريخية بالذات مع التأكيد على النظر الى جانب أو حقبة معينة ولكن ذلك لا يعفي المؤرخ الذي يقترب الان في اختصاصه من اختصاص أهل الاجتماع في ربط الفعل الإنساني بوسطه.
الاجتماعي رغم كونه حدثا وإلا اتبعت صفة الاخبار الخلدونية عنه. وهذا يعني ان للتنبؤ تقنياته، هذه التقنيات يمكن تطويرها وذلك إذا أتقن المؤرخ قدرته في ان يرجع الى الماضي.
هذه الارتجاعية للماضي وتحليل قضاياه وإعطاء بدائل تاريخية ” بالإفادة من سلاح علماء المستقبل ” إنما تساعد المؤرخ والارتقاء بقدرته على التنبؤ رغم ان مثل هذه الارتجاعية للماضي باستعمال تقنيات التنبؤ ما زالت دون الفاعلية والطموح.
ورغم محاولات هوبزباوم وسعيه لإيجاد آليات وتقنيات يمكن ان يستعيرها كمؤرخ من حقل التنبؤ المستقبلي، فانه يظل أمينا الى ان هذه التقنيات والآليات هي ليست مجرد سيناريوهات يمكن ان ترسم الاتجاهات او تتوقع الاحداث والسياسية منها بالذات، وإنما لا بد من ان ترتبط أو نعتمد في توقعها منهجا معينا كما في التصور الماركسي لنظرية المسار التاريخي والذي يربط بين الطبقة والصراع والمستقبل وبذلك يمكن ان يكون تبدل الوضع الطبقي حدا من الاستغلال وبذلك يتراجع الصراع ويتحرر المستقبل.
هذا التصور يجب إلا يؤخذ ببساطة لان هناك العديد من العوامل التي تشكل نسيج العلاقات الإنسانية: اقتصادية، اجتماعية، سياسية، ثقافية، دينية، أثنية لا تسلم بسهولة فتكون مطواعة للدخول في مثل هذا النموذج/ القالب الفكري المصنوع – بالرغم مما يحمله – من قراءة فذة لتعقيدات الاجتماع الإنساني، مما قد يحول هذه المكونات الى فواعل أو رافعات تنهض بالطبقة من جديد مما يحول دون تفككها وبذلك يمكن لمصفوفة النموذج ان تتصدع.
وهذا ما حاوله ماكس فيبر عندما حاول ان يتجاوز الصراع عن طريق إعادة ترميم الطبقة: الوسطى/ الرأسمالية فحولها نظريا الى تكوينية اجتماعية ذات سلوك رشيد مما قد يحول دون تورطها بالصراع وحجب التنبؤ بانهيارها مستقبلا.
يحاول هوبزباوم ان يكون فاعلا في تنبؤه ليس عن المستقبل وانما عن الماضي الذي يمكن ان يتعامل معه بملء راحته لان الاحداث وقبلها الاتجاهات قد أخذت شكلها واقعا مما يسهل الحسابات الارتجاعية للمؤرخ.
وبمعنى أخر هل ” كان من الممكن ان يحدث ولكنه لم يحدث على ذلك النحو الممكن؟” وبذلك يكرر هوبزباوم سؤال ماكس فيبر بإمكانية قراءة التاريخ بشكل ارتجاعي وافتراض ان ما حدث لم يحدث فماذا كان يحدث فعلا وذلك للحكم على صحة ما حدث.
وبسؤال أكثر مباشرة فان القيصرية في روسيا لو تمكنت ان تصلح اقتصادها الزراعي وتجنب نفسها الدخول في حرب كونية الأمر الذي قد يقويها بنيويا ويحول دون تفكك ألتها العسكرية وما تبعه من انهيار نظامها السياسي إذن بقيام ثوره 1917؟
وبالفعل فقد كانت هناك تخوفات أطلقتها المناشفه (الأكثرية) الذين تصوروا أنهم أكثر فهما للنظرية وفعلها التاريخي لذا فهم الأمناء عليها قياسا بالبلاشفه (الاقليه) الذين اندفعوا الى إشعال الثورة.
يورد هوبزباوم سببا محركا للثورة في روسيا القيصرية هو ضعف الطبقة البرجوازية/ الوسطى الناشئه التي لم تستطع الوقوف بوجه القوى العاملة الروسية الصاعدة وبالأخص بعد انهيار النظام القديم وانكسار سطوته العسكرية مما اوجد بالفعل فراغا كبيرا بفعل صعود الجماهير الفلاحية ودخولها على خط المنافسة الحادة مع البرجوازية مما ساعدا البلاشفه – على قلتهم – ان يكونوا البديل الفاعل ومثل هذا التنبؤ الارتجاعي مهما كانت درجة مصداقيته فان الاحداث انما سارت في الطريق الذي سارت فيه ويصبح عبثا، وضع سيناريوهات ارتدادية.
فهل يستطيع الكاريزما (الرجل الملهم) ان يغير بإرادته مسيرة التاريخ ومهما بلغ من الثورية؟ يجيب هوبزباوم على ذلك قائلا (.. فالثوريون لا يستطيعون ان يحملوا الناس على عمل أشياء، إلا عندما يصبحون حكومات. وذلك ضمن حدود حتى الحكومات القوية لا تعرفها دائما”(13) وبالفعل كان الخيار الأخير بين ” حكومة بلشفيه ولا حكومة ” لان العملية سارت اتجاها واحداثا في طريق ان ينهار النظام (الروسي) بأكمله أو ان ينقذ بحكومة قوية، وهذا ما تم بالفعل مما يقارب بين التنبؤ الارتجاعي وبين مسار التاريخ ولكن مالذي قصده هوبزباوم من وراء تمرينه الارتجاعي التنبؤي والذي وصل به الى ان يكون البديل لمسار التاريخ – في تلك الفترة من تاريخ روسيا – هوا الاختيار الصعب بين حكومة بلشفيه لا يمكن التسليم بنجاحها او لا حكومة؟
يعلل ويوضح هوبزباوم ما قصده من وراء تمرينه التاريخي قائلا ” للأسف ان ما يجعل تخطيط البشر – مهما يكن قويا، على هذا القدر من التثبيط بالنسبة للمتنبئين فضلا عن السياسيين هو التناقض بين قدرته المحدودة والنتائج المحدودة (عندما يصيب) من جهة، والعواقب التي يمكن ان تكون وخيمة حين يخطا من الجهة الثانية. وكما كان نابليون يعرف حق المعرفه، فان معركة خاسرة واحدة يمكن/ أحيانا ان تغير الوضع أكثر من عشر معارك رابحة”(14).
يربط هوبزباوم بين التاريخ والاجتماع الانساني فهو يضع العوامل القابلة للوزن في صياغته لمفهوم والية المعادلة التاريخية – لذا فان العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والفنية لابد من ان تدخل في رصد الحسابات التاريخية. وهذه العلوم يمكن ان ينظر اليها بأنها علوم اجتماعية والتي تساوي علوم المجتمع ولكنها علوم إنسانية لأنها تتعامل تأثيرا وتأثرا، وسائل وغايات مع الاجتماع الإنساني وبذلك يمكن ان يتسع المدى الذي تتواجد فيه، قدرتها على الاتساع في تغطية شبكة الفعل الإنساني بكاملها،من دون ان يمنع ذلك أنها تركز اوتتناول احد خيوط هذه الشبكة.
ثم ان التاريخ لم يعد سجلا لإعمال الرسل والملوك على ما يحكونه من أهمية في تحريك الاحداث وبناء الحوادث فان التاريخ تحول ليكون بانوراما (Panorama) تضم معادلة علاقة تجمع بين طرفين: محكومين وحاكمين يمكن ان يدخل مبشرون/ منذرون إذا بدا طرفا المعادلة بالتباعد والتقاطع وذلك لإيقاف التحول نحو القطيعة.
ثم بدا المحكومون العمل لحسابهم، وتحول المحكومون من ان يكونوا (وقودا) للتاريخ الى (واقدين) له وان التاريخ ليس أكثر من تحول المحكومين من ان يكونوا وقودا الى واقدين او بلغة الايديولوجيا فان التاريخ هو تاريخ تحول المحكومين الى حاكمين اي من ان يخضعوا لمن يقرر مصائرهم الى تقرير هذه المصائر بأنفسهم.
هذا التحول في التاريخ من احداث يتم تجميعها الى حادثات ترسم بنفسها خط التجمع اي ان التاريخ قد كسب الاتجاه وإن بقي دون مستوى التحكم في الحدث، هو ما أراد هوبز باوم ابرازه من جهة وربطه بالتنبؤ من جهة ثانية.
فالتاريخ (التقليدي) اللا اتجاهي يصعب توقع مساراته وبذلك يخضع للتفسير ان لم يكن تبريرا، اما التاريخ ألاتجاهي فانه أسهل في التعرف على مساره الى الحد الذي يمكن فيه ان يكون للتاريخ سياق / منطق كما يكون له خطاب، مما قد يزيد من عملية التاريخ وينقله من هيمنة الماضي ويشده الى الحاضر.
وهذا ما دفع هوبز باوم الى الحكم بان التنبؤ باتجاهات اجتماعية أسهل من التنبؤ باتجاهات تاريخية أو ما سماه بالاحداث، ويضيف ان العلم الاجتماعي يمكن ان يساعد في التعرف على الاحتمالات (المتوقعة) وهذا يصدق على العصر الصناعي أكثر من صدقيته على العصر الزراعي الذي يصعب التحكم في ظروف إنتاجه.
فالعلوم الاجتماعية قد تعاون في تقدير ما سيحدث ولكن من الصعب عليها ان تقرر متى سيحدث وهو استنتاج يظل يحتكره التاريخ.
وبالعودة الى الماضي ومحاولة التعامل معه بعلمية أو بوسيلة تقرب بين ما سيحدث وما حدث بالفعل ان نبحث – تاريخيا – عن مسببات انهيار روما وما سمي لاحقا بالإمبراطورية الرومانية المقدسة والتي هي ليست إمبراطورية ولا رومانية وغير مقدسة، فهل يمكن وبطريقة ارتجاعية وضع توقعات (سيناريوهات) لانهيار روما.
السيناريو الأول: ان انهيار روما انما كان اقتصادي السبب وذلك لأنها كنزت الفضة ولم تطرحها كعملة في التداول فاستبدلتها بالنحاس وبذلك تضاعف التضخم لان النقود تحولت الى وسيلة للتبادل وانتفت صنعتها كمخزن للقيمة لذا فقد زادت كميات النقود (الرخيصة) مما حاصر السلع التي ارتفعت أسعارها بشكل فلكي، وقد فاقم من هذه الحالة الشاذه اقتصاديا ان روما بالغت في كنزها للمعادن الثمينة والفضة بالذات مما ادى الى انهيار العملة المتداولة وضمن الناس ان يبادلوا سلعهم بمثل هذه العملة التي تدنت الى الحضيض في قدرتها الشرائية.
السيناريو الثاني: الإجهاز على الطبقة الوسطى الرومانية عن طريق زجها في حروب خاضتها في أقطار بعيدة مما أدى الى تدني فاعلية هذه (الطبقة) فكريا وادريا وتنظيميا وقانونيا واستمرار المجتمع الروماني يجمع بين حكام (رومان) ومحكومين ما لبث ان تناقص عدد الحكام وبالتالي فاعلية (حكمهم) وانتهى بانهيار ورما.
السيناريو الثالث: لقد قسم الرومان العالم تعسفيا الى قسمين الأول الرومان وهم يمثلون النخبة على وفق المنطق الاجتماعي (الحاضر) اما غير الرومان فهم البرابرة (Barbarian) وهم في أفضل الأحيان مواطنون من الدرجة الثانية أو الثالثة وبذلك كان الرأس (الحاكم) روماني إما الجسم المنتج والمحارب فهم بربري. لقد كانت هناك شبه موازنه بين فاعلية الرأس الرومان – على قلته – ولان عليه الجسم (البربري) على كثرته إلا ان مثل هذه الموازنه القلقة ما لبثت ان انحازت الى جانب الجسم الذي اخذ بالتضخم وادى في النهاية الى انهيار روما.
السيناريو الرابع: الذي يرجع الانهيار الى سبب علمي ان مدينة روما وطبقتها الوسطى المؤثرة في الحرب والحياة والاقتصاد والادارة انما كانت تؤمن حاجتها الى الماء عن طريق أنابيب توصل الماء الى أحياء المدينة صنعت من (الرصاص) مما أدى وخلال فترة زمنية ان يتسمم سكان المدينة ويعجل ذلك بموت طبقتها الوسطى وبالأخص عندما يزحف مثل هذا التسمم بمركبات الرصاص الى المراكز العصبية العليا والمخ بالذات وهذا ما أثبته تشريح ودراسة البقايا (العظمية)لهؤلاء والتي ظهرت عليها اثأر تسمم حاد.
السيناريو الخامس: عامل ديني تمثل بدخول المسيحية كانوا – في اغلبهم – من الفقراء (plebeian) عاديين مبتذلين استطاعوا ان يقلبوا معادلة رومان/برابره الى معادلة (كفار/مسيحيون) وبذلك اختل تقسيم الرومان القديم للبشر لان من دخل الدين الجديد (المسيحية)كانوا من الفئات المهمشة، إذ أكد احد مؤرخي القرون الوسطى فردريك هير في كتابه العالم: أوربا ما بين 1100-1350، والذي ترجم عن الألمانية سنة 1961 ترجمته جانيت سوندهمير وبعد ان قسم ناس زمانه الى نمطين: الاول الارستقراطيين (aristocracy) والثاني : الفلاحين (peasantry)، بان المسيحية آنذاك إنما كانت دين الفلاحين (religion of peasantry) ضمت إليها النبلاء وبعضا من برجوازيه الحضر والمتواضعين من رجال الدين وآخرين من رجال الرهبانيات القديمة(ص56). فإذا كان هذا حال الوسط المسيحي في القرون الوسطى وبعد ان قطع شوطا كبيرا منذ انهيار روما فكيف كان وضعه في أيام روما نفسها ولماذا تحولت العسكرية/القانونية الرومانية الى المسيحية فهل ان مثل هذا التحول والعمل على تدين الرأس الإمبراطوري الروماني انما عكس إفلاس الثنائية التي نظر من خلالها الى ناس العالم، لقد قسم الرومان البشر الى رومان وبرابره، لذا فقد أدى دخول من همشهم الرومان وممن وصفوهم بالعامة أو حتى البرابره ويمكن ان يكونوا متساوين في عين ربهم مثلهم مثل النخبة الرومانية التي همشتهم وتعالت عليهم، أدى الى إغراق روما في طوفان بربري عجل في انهيار روما وإمبراطوريتها.
السيناريو السادس: لقد أورد سريل بايلي (Cyril baily) في فصل بعنوان: ديانة اللاتين، من مؤلفاته كتاب: ديانة روما القديمة، كتبه لمجلدات تاريخ العالم الذي اشرف على تحريره: السير جون.ا.هامرتن، نشرته إدارة الترجمة بوزارة المعارف العمومية (الفصل المستوي)، وتحت عنوان : التغيرات المتأخرة التي ألمت بالدين الروماني “…. ان اثر الأدب الإغريقي أصبح له الغلبة في القرن الأول الميلادي. وقد حفزت دراسة الشعراء الإغريق الى إسباغ صفات المخلوقين على الإلهة، فاستكثر الرومان من توحيد إلهة الإغريق بالآلهة الرومانية. وإحاطة آلهة روما المتأغرقة بالأساطير الإغريقية. وأدت دراسة فلسفة الإغريق الى غرس بذور الشك العميق في نفوس الرومان حيال العقائد الدينية التي ورثوها عن السلف. وبقدر ماكانت هذه الدراسة عاملا من عوامل الإنشاء فإنها استحدثت عندهم تصورا فلسفيا للاله يتسم بالغموض والإلهام.
وقد احدث هذان العاملان اثرهما في طبقات المتعلمين، اما عامة الشعب فقد اخذوا يتجهون شيئا فشيا الى نحل المشارقة وخاصة عقيدة (الام العظيمة) بكهنتها المحبوبين، وأعيادها الصاخبة.
والى الآلهة المصرية ايزيس التي كانت عبادتها تنطوي على مبدأ التقشف والانفعالات. ويقال أيضا ان جنود سلا الظافرين جلبوا معهم الى روما لأول مرة عبادة متراس (Mithras) التي قدر لها ان تؤثر أثرا كبيرا في دين الجيوش الرومانية. وقد سعى اوغسطس عندما نجح في تولي الزعامة خلفا ليوليوس، الى القيام بحركة تشبه الاحياء الديني، وجمع أشتات الديانة الشرعية. ومن اجل ذلك شيد معبدا جديدا لابولو فوق تل بالايتن. وأقام مزارا جديدا لفستا في حرم قصره وسمح للناس بعبادة عبقره، ومن هنا تركز الدين الروماني القديم هو والنحل الدخيلة في بيت الإمبراطور. وتراوحت الديانة الشعبية في القرن التالي بين نحل المشارقة وعبادة قيصر، في حين نحا المتعلمون الى مذهب يوفق بين النحل المختلفة كان خليقا ان يؤدي بهم الى ضرب من التوحيد الفلسفي”(15). وبذلك أوجدت هذه التداخلات بين التأثير الإغريقي و(النحل) التي احضرها (الجنود) الرومان من البلاد التي قاتلوا فيها الى حد الاجتياح والتي انسجمت مع تطلعات عامة الشعب الروماني الذين اخذوا يتجهون نحو ما سماه سريل بايلي (نحل المشارقة)، والتي قد تجمع بين التقشف والانفعالات وهذا ما ينزل بالطقوس الى مستويات العامة من الناس حيث يتم احتكار الممارسات الدينية على طبقة الاباء ورجال الدولة والجيش في روما. وبذلك نشأ مستويان من الديانة/ التدين في روما ديانه للاقوياء وفي معابد خاصة بهذه (الطبقة) والتي تكون حكرا وحصرا لهؤلاء. زاد من الفوارق في التدين، دخولها الى الجيش الروماني قادة وجنودا وامتداد الحملات الرومانية ابعد مما يمكن ان تتحمل عبأه روما مما دفع الى تدني الضبط التي امتاز بها العسكر في روما وبالأخص في اندفاعهم على التوسع البعيد وديانه للضعفاء وفي محاولة من ضباط الجيش الروماني وقادته تثبيت ديانة الأقوياء وتجديد أماكن العباده لأهم وأكبر آلهة روما، فان روما نفسها ما لبثت ان ضاعت في وسطها الايطالي وضاع وسطها الايطالي في مغامرات عسكرية بعيدة اضعف تسليط القادة على جنودهم صاحبه رفض لآلهة هؤلاء القادة والضباط والتحول نحو الديانات التي تم اجتياح بلدانها ومنها التي تقع جنوبا وشرقا والتي تهتم بالأم التي تشحن بدفق اكبر من الحنان افتقده الجنود الرومان وهم يقاتلون بعيدا عن مدنهم وأسرهم. لذا فان مثل هذه الديانات ونحلها ” أثرت أثرا كبيرا في دين الجيوش الرومانية التي انقسمت الى: دين الأقوياء (قادة وضباط) الذين مثلوا (الديانة الشرعية).
وهذه هي بداية السيناريو الذي نزع بثنائيته الدينية الغطاء الديني المتمثل بالديانة (الشرعية) التي انتهت بالتحول نحو ديانه الضعفاء اومحاولة الجمع بين الديانتين الذي مثل بداية الانحدار في اعتقادات روما التي أخذت عن طريق المتعلمين من تكوينات مجتمعها لاسيما طبقته الوسطى التحول نحو الآلهة اليونانية والتشكيك في قدرة آلهة روما على حمايتها.
صاحبه تحول نحو القبول بتعدد العبادات واحترام رموز أديان الأمم الأخرى التي خضعت لروما مما قاد بالفعل الى اختراق الجيوش الرومانية (القوة الضاربة لروما وهيبتها) وانتقال ذلك الى الحياة في روما وانتهت بانحطاطها.
الفرق بين التصنيع والصناعة ان (التصنيع) يعني بتسمية المتغيرات والية التعامل بينها وما يمكن ان يترتب على هذه الآلية من احتمالات التي تساعد على وضع سيناريوهات قد تقود الى تصورات يمكن ان يرقي بعضها الى مستوى التوصيات التي تحمل كما من الحل.
اما الصناعة فإنها تهتم بالناتج النهائي (End product) على خلاف التصنيع الذي يمكن ان يمثل الأداء أو الصيرورة (Process) فهل يمكن النظر الى التاريخ كاداء أو عملية تراكمية الطابع اقتصادية في واقعها (Turnover) وهل ان التراكم اقرب الى التاريخ بشكل عام والماضي منه بشكل خاص، اما الصناعة فإنها تختص بالمستقبل لأنها تعنى بالنواتج النهائية للإحداث.
وتوجه التصنيع نحو الأداء الماضي للتاريخ في الوقت الذي يعني فيه المستقبل بالصناعة، هو خلاف ناتج لاختلاف بين سؤالين الأول تحكمه الأداة (كيف) (How ) والثاني تتصدره الأداة (متى) (When) وبقدر ما يدور سؤال الكيف عن صيرورة الاحداث التاريخية مرتبطة بمجتمعاتها بشكل يتزامن مع تتابع هذه الاحداث.
وهذا هو التداخل في حقل التاريخ فان الذي يملك الاجابة على سؤال (المتى) هو الماضي لان الاحداث قد وصلت بالفعل الى نهاياتها وان لم تصل فيه الى خواتيمها. لان العديد من جوانب الفعل التاريخي وبالاخص الحركات الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية، مازالت بعيدة عن خواتيمها رغم انها بلغت (نهاياتها)، لذا فان احكاما على مثل هذه الحالة مازالت واردة مثل ان الثورات وليس الفورات مازالت مفتوحة النهايات، لذا فقد صيغ الحكم على مثل هذه النهايات المفتوحة كالآتي: ان فرنسا هي ارض الثورات التي مازالت بعيدة عن نهاياتها (The land Of Unfinished Revolutions).
وقد أثير مثل هذا التساؤل في الدوائر التاريخية الأكاديمية في الثمانينات في القرن الماضي وفي العديد من الجامعات الأمريكية، وكان الجواب هو : من هي الثورات التي حققت بالفعل نهاياتها؟ فهل ان ذلك تبرير لتكثيف التأكيد على سؤال الكيف الخاص بالأداء وليس سؤال النتائج متى؟
فالماضي وهذه قوته كتاريخ له القدرة على ان يجمع بين سؤالي الكيف والمتى في الوقت الذي يكون سؤال كيف هو المهيمن على التوقع المستقبلي.
وفي ضوء هذا التحليل للفعل التاريخي بصفحتيه المتعلقة بسؤال الكيف والنازعة نحو الاهتمام بالصيرورة وتلك المرتبطة بسؤال (متى) والتي تركز على اخذ النتائج بالحسبان. تسبب في إشكالية افرزها تفرد الماضي في احتوائه سؤال المتى الذي هو من حصة المستقبل لان نهايات احداثه قد تم تأشيرها دون ان تكون خواتيمها قد وصلت الى حد الاقفال. اما المستقبل فان مثل هذه النهايات وليس الخواتيم مازالت في حدود التحضير (دراسات وتصورات) لذا فالماضي الذي يمتلك النهايات انما يركز على سؤال الكيف في الوقت الذي يمثل سؤال المتى الشغل الشاغل للمستقبل.
فهل ان جمع الماضي التاريخي لسؤالي الكيف والمتى واقتصار المستقبل على سؤال المتى يرتقي بالماضي الى الحد الذي يكون فيه حارسا للزمن أو (Avatar) وبذلك يصبح سؤال هوبزباوم: ما معنى التاريخ؟ وجوابه معناه ان يكون ماضيا؟
وبدراسة السينوريوهات التي تتابعت للتدليل على انهيار روما ان هناك خط يربط بينها هو ان روما قد انهارت بالفعل. وبذلك تم استيفاء سؤال (متى). مما يجعل الجدل حوله ثانويا او تافها الا اذا اريد ان يكون تركيب الاحداث افتراضي اي ان نسلم بانهيار القوة العسكرية التي فقدت قدرتها وتحطم أجهزة الحكم والادارة البيروقراطية الرومانية مع تفككك طبقتها الوسطى البعيدة عن كل من الحكام الرومان: قناصل وبريتوريات وقادة جيوش وبين العامة ومقومها الأكبر البرابرة، ما يكون اقرب الى فئة المشكينو السومرية/ العراقية القديمة.
مع بقاء روما حية في الأساليب التي اتبعتها في قيادة جيوشها وتعبئة حملاتها ونظام المائة الذي قاتلت به والألواح الاثنا عشرة التي جمعت بين التشريع والتقنين والتي سميت بالفعل بالقانون الروماني وما زخرت به عمارتها ومدافن عظمائها من رقي في المعمار ودقة في التنفيذ. هذا كله لا منع من ان يمرر التاريخ بسلطان زمنه الحكم بانهيارها فسؤال المتى قد استنفذ بالفعل، ولكن سؤال الكيف مازال مفتوحا يقف وراء تعدد الاحتمالات.
السيناريوهات قد تزيد عن هذه التي جرى حصرها، فالسيناريو الأول اقتصادي يربط بين تدني الاداء الاقتصادي والمالي والنقدي لروما وبين انهيارها بسبب تراجع القيمة الشرائية لنقودها.
وهذا السيناريو (الاقتصادي/ المالي/ النقدي) اقرب الى التحليل الفذ للمقريزي – احد تلامذه ابن خلدون الذين ارجع انهيار الحكم المملوكي في مصر الى التفاوت في فيضانات النيل – الاقتصاد – وزراعي – زامنه انتشار عمله رديئة – مضروبه من النحاس – زاد من التضخم النقدي فافلست النقود النحاسية بعد كنز الفضه، من ان تشكل اسعارا متساويا كواسطة لتبادل السلع واستمرار دوران النقود فاعلا في اقتصاد المجتمع.
صاحب انخفاض قيمة وقدرة العملة (النحاسية) في التعامل تصاعد الضرائب ولكن حصيلة ذلك كم كبير من النقود بقيمة شرائية متراجعة نتج عن ذلك تعطيل في دولاب حياة الدولة – وهذا مالم يدركه المماليك – فتفننوا ليس في مضاعفه الناتج الزراعي ولجم جماح التضخم وانما في جمع المزيد من الضرائب أدى الى ان تترك جماعات كبيرة من الفلاحين أرضها لتنضم الى فقراء المدن (Urban poors) مما عجل في انهيار عهد المماليك في مصر.
هذا التحليل الذي تفوق فيه المقريزي على اقارنه من ذو المكانه في كتابه التاريخ انما جاء في كتاب مازال وسوف يستمر حضوره فاعلا لأنه اخترق زمنه وابعد في الاستشراف هو ” أغاثه الأمة بكشف الغمة ” أشفعه بكتاب أخر هو: ” شذور العقود في ذكر النقود”(16).
والتسبب الاقتصادي – ورغم فاعليته لأنه مرتبط بخصوصيات حياة الفرد والمجتمع – فانه لا يمكن ان ينفرد فيكون وراء انهيار إمبراطورية بقوة روما وقدرتها رغم انه يظل يمثل احد أهم عوامل التفكك.
فهي يكفي العامل الاقتصادي (معاش/ مال/ نقود) ان يعمل منفردا دون ان يدخل ضمن سياق نسق او حركة للتاريخ يمكن ان تفضي الى انهيار الدولة لان تحركها (أداؤها)قد تقاطع مع فاعلية الاستمرارية أو ان اداوات الإنتاج لم تعد مواكبه لعلاقات الإنتاج؟
اما السيناريو الثاني والذي نهض على ما حدث من إجهاز على الطبقة الوسطى في روما واستهلاكها في مغامرات حربية خارج حدود روما نفسها مما حال دون الفاعلية التي يمكن ان تقوم بها في المجتمع الروماني والإجابة عن الأسئلة التي بدأت التحولات المتسارعة تطرحها على روما دولة ومجتمعا وأداة في وقت تراجع فيه الأداء العسكري لروما وتضاعفت اعداد البرابرة في الجيش الروماني وتضاعفت اعداد البرابره في الجيش الروماني من دون ان يتم اي تبدل في وضعهم كمواطنين رغم التوسع في تجنيدهم واستهلاكهم وقودا لمغامرات روما الحربية.
وبذلك تحول المجتمع في روما الى مجتمع ثنائي في وضعه الطبقي: قله حاكمه وكثره من العامة المحكومة. فهل ان مثل هذا السيناريو له القدره بطبعه السوسيولوجي (الاجتماعي) ان يكون مقنعا تاريخيا في انه يقف وراء انهيار روما؟
الجواب يعتريه كم من الشك إذ ان العديد من الدول والحكومات والأمم والإمبراطوريات بل حتى المجتمعات إنما تراوحت في تركيبتها الطبقيه بين ثنائية التكوين (حكام ومحكومين) وثلاثية التكوين (حكام، طبقه وسطى، محكومين) دون ان تتعرض الى التفكك والانهيار لكن مثل هذا التسبيب يظل فاعلا رغم بعده عن القبول به تاريخيا.
السيناريو الثالث والتقسيم التعسفي الروماني للعالم الى رومان وبرابرة والنظرة الى البرابرة بأنهم يعيشون حالة طبيعية/ وحشية، مما يبرر مهاجمتهم واجتياح بلدانهم بدعوى التفوق الروماني الذي يقف مسهلاً التسلط عليهم حربا.
وبذلك نصب الرومان أنفسهم (قيمين) على صلاح البشر مما يبقى قرار العالم وأهلة واقتصاده ومصيره بأيديهم وإلا اختلت الموازين القرارية وانتقلت القرارات والمصيرية بالذات الى ايدي البرابرة – على حد تبربرهم – رغم ان غالبية المقاتله في الجيش الروماني كانوا ممن يسميهم الرومان (برابرة).
لقد كان الفهم (القاصر) للتاريخ رومانيا توقف دون إدراك ان هناك دورة في حركة تداول السلطة (Succession) بين القمة والقاعدة. وبذلك فقد سارت روما ضد حركة التاريخ مما أوقعها في حسابات تاريخية مغلوطة وأدى في النهاية الى انهيارها.
وهذا السبب وبالرغم من وجاهة وروده علميا وإمكان دعمه من خلال استقراءات تاريخية فانه يبقى مجرد سيناريو إلا انه لا يمكن ان يشكل السيناريو فأعمار الدول لا تفهم بالأسباب المفرده والتاريخ مركب العوامل من الصعب ان يختزل بسيناريو واحد مهما بلغ من القوة والفاعلية.
السيناريو الرابع: يختلف نوعيا عن غيره من السيناريوهات المطروحة لانهيار روما إذ يربط بين ظاهرة علمية هي التسمم لمركبات الرصاص التي لا تقل تأثيرا في سميتها عن مركبات الزئبق وربطها بأنابيب الرصاص (Lead) الناقلة للماء أدى إلى تسمم أبناء مدينة روما وبالذات إفراد طبقتها الوسطى الذين قضى العديد منهم في حروب روما التوسعية.
وهناك دليل علمي على مثل هذا السيناريو جراء تحليل بقايا الهياكل العظمية والأجزاء العليا منها والخاصة بالجملة العصبية المركزية التي وجدت مركبات الرصاص عالقة فيها.
فهل يمكن ان ينهض مثل هذا السبب ليبنى عليه سيناريو يعجل في انهيار روما؟ أمر لا بد من ان يتسرب إلية الشك – رغم وجهاته العلمية – لان مثل هذا التسمم لا بد من ان يأخذ مديات زمنية طويلة قد يتم فيها إعادة بناء أجزاء من ديموغرافيا هذه الطبقة التي زحف إليها فتآكلت لأنها تسممت بمركبات الرصاص إلا انه يظل احد السيناريوهات الممكنة في الأقل لما يتمتع بمصداقية علمية يصعب على التاريخ رفضها كونه علما أنساني الطابع وصفيا في منهجيته.
السيناريو الخامس تمثل في العامل الديني أو ما تركه دخول الديانة من اثر في قوة روما أو ضعفها. ومثل هذا العامل له حضوره لا سيما في التحليلات التاريخية – الاجتماعية التي تهتم بتأثير القيم على السلوك وبذلك يمكن ان يدخل الدين ليوجه الاحداث وتجعلها تأخذ مسارا خاصا.. وهو توجه لفهم السلوك الانساني تاريخيا دعمه الى حد بعيد ماكس فيبر الذي أكد ان الدين والإصلاح الديني بالذات يمكن ان يلتزم بعقلانية لاتلبث ان تمر بالاقتصاد في محاولة لتغيير اتجاه التاريخ.
واسنادا لا ستدخال القيمة وتأكيدا لفاعلية الحكم القيمي، فان مؤرخا ثقة مثل ويل ديورانت الذي لخص قصة الحضارة في مجلدات بلغت في ترجمتها العربية خمسا وأربعين مجلدا، افرد المجلد 9-10 (مترجم) للحضارة الرومانية أطلق على مجلد الحضارة الرومانية اسم ” قيصر والمسيح”(17).
وقيصر (Caesar) هو Gaiusgulius (100-44 B.c ) سياسي وقائد عسكري روماني، ديكتاتور روما(18)، فهل ان هذه الثنائية هي التي قادت الى إيجاد مجدين:
الأول: المجد الإمبراطوري الذي مثله – كما يرى ديوارنت – كايوس جولياس (قيصر) وبين مجد سماوي مثله السيد المسيح (ع)، وبذلك نشأ ملك ارضي على رأسه القيصر وملكوت سماوي للمسيحية فيه النصيب الأكبر.
ولما كان الملك الأرضي لقيصر مغلقا وحصرا على الرومان فقد دخل الفقراء والعامة من الناس الذين كانوا موضع تسلية في حلبات المصارعة الملكوت السماوي المفتوح لهؤلاء الضعفاء حيث لا يشترط فيهم إلا ان يؤمنوا ويتقوا.
ولما كان الملك الأرضي لقيصر مبنيا على القوة والاستحواذ على السلطة وتحويلها الى تسلط على عكس الملكوت السماوي القائم على الفضيلة والإيمان بها وسيلة للخلاص من الشقاء الدنيوي، فقد تراجع الملك الأرضي وتراخت هيمنة القيصر على حفظ مجده قويا في الوقت الذي تضاعفت فيه اعداد الداخلين في الملكوت العلوي مما ساعد على ان تقلب معادلة الحكم لصالحهم ويدخل مجد روما القياصرة المسيحية وان كان دخولا مترددا ولكنه محسوب سياسيا فقد تحول العديد من الضعفاء الى المسيحية مما فرض على المجد الأرضي ان يقبل بمبادلة صعبة ومصطنعة – بين القوة والفضيلة.
إلا ان الازدواجية – وكما أكد ويل ديوارنت – ظلت قائمة وحاكمة بين قيصر والمسيح، فهل هذا يعضد سيناريو العامل الديني ويعزز تساؤل الكيف الذي ضمن كتاريخ ماض سؤال النهايات (متى).
السيناريو السادس: إذا كان السيناريو الخامس (الافتراضي) لسقوط روما وديني الطابع وهو الجمع بين التناقضين (قيصر والمسيح) فان السيناريو السادس إنما يترجم – الى حد بعيد – ما يمكن ان يسمى ما حول الديانة (Around religion) إذ تحول الرومان مثقفين (أبناء الطبقة الوسطى) الى الآلهة الإغريقية (اليونانية القديمة) مما زرع الشك في تدينهم وتمسكهم بآلهة الرومان الى حد نسخ هذه الآلهة التي كانت بصور إنسانية على عكس الآلهة الرومانية التي كانت تمثل أساطير وتصورات ذات طاقات هائلة تتحكم في حياة الإنسان ومصيره مما أسس لفراغ بين دين روما وتدين طبقتها الوسطى الفاعلة، وسع مثل هذا الفراغ بين السلطة الرومانية ودينها وبين روما الناس وتدينهم دخول المقاتلة الجنود من روما وبرابرتها في ديانات أو ما يسميه (سيرك بيلي) نحل الشرق التي تحتل إلام بصورتها المصرية ايزيس وصورتها السومرية متراس مركزا مستقطبا فيهما لما تتمتع به هذه إلام (المعبودة) من حنان افتقده الجندي الروماني الذي طالت مدة قتاله بعيدا عن أهله ودفئ عائلته تأكيدا على ان الدين في روما كما يؤكد ويل ديورنت انما يمر من خلال العائلة الرومانية “لقد كانت الأسرة الرومانية رابطة بين الأشخاص والأشياء، كما كانت رابطة بين الأشخاص والأشياء من جهة والآلهة من جهة أخرى، وكانت هي المركز الذي يلتف حوله الدين، والخلق والنظام الاقتصادي وكيان الدولة بجامعها، كما كانت المنبع الذي تستمد منه هذه المقومات كلها وكان كل جزء من أملاكها مهما صغر وكل مظهر من مظاهر وجودها يرتبط ارتباطا وثيقا جدا بالعالم الروحي فكان الطفل يعلم بالقدوة الصامتة الفصيحة ان نار الموقد التي لا تخمد ليست إلا رمز الآلهة فستا (Vesta) ومادتها وإنها الشعلة المقدسة التي ترمز الى حياة الأسرة والى دوامها” (19).
هل يدور التاريخ ؟ ولكن لماذا يطرح هوبز باوم مثل هذا السؤال؟ يبدو ان مثل هذا الطرح يكون ضروريا إذا أردنا بالفعل ان ندخل التاريخ في التعامل مع القابل من (الاحداث) أو الحكم – في الأقل – على مساراته المستقبلية وبشكل متوقع.
مثل هذا التوظيف للتاريخ عن طريق شحذ قدرته على التنبؤ احد أكثر استعمالات أزمنة الحدث إثارة للرغبات، لان الإنسان يظل حيوانا باحثا عن السعادة دون ان يسقط من حسابه أنها قد تمر من خلال الألم، لذا فان الحسابات (العقلانيات / المنطقيات) التي قد ترقى الى مستوى الاحكام (الناجحة) ضرورية في التعامل مع المتصل الزمني أو ما يمكن ان يسمى بمجرى التاريخ (Stream of history) ولكن مثل هذه السترمة (الاتجاهية) يصعب التسليم بها لأنها لابد من ان تخضع لضربين من التيارات (الموجات): الأول ظاهري اما الثاني فانه تحتاني (Under current) القوت الذي يمكن فيه التحكم في التيارات الظاهرية (الفوقية)، وبالتالي حساب / توقع الاحتمالات الممكنة، فان مثل هذا الحساب أو التوقع يصعب ان يصدق على التيارات التحتية التي تعمل وبفاعلية للدفع بالضد من توجه الفوقي / الظاهر من التيارات مما قد يربك عملية السترمة (الاتجاهية) بكاملها ويحول دون انتظام دورانها ولاسيما في الفترات الحرجة (المفصلية) في التاريخ والثورات بالذات.
لذا فان هناك بالفعل “مادة قابلة للاشتعال في التاريخ” التي قد تنشأ من تسارع حركة التيارات التحتية مما يجعل الحكم بالاعتماد على رصد الفوقي من التيارات سطحيا لان الغاطس من تيارات العمق قد اخذ في امتلاك زمام المبادرة التاريخية وبذلك ينشأ ما يمكن ان يسمى بالحلقة الأضعف في الاحتمالات الثورية التي يمكن ان يقارب بينها وبين اللااحتمالات.
في مثل هذه المادة القابلة للاشتعال زمنيا وتسارع التيارات التحيتة وظهور الحلقات الأضعف في الاحتمالات الثورية يمكن ان يحصر التاريخ في زاوية اللااحتمالات ان لم يكن زاوية اللا فعل قد يؤدي ذلك الى ضعف الإيمان بأهمية /فاعلية التاريخ لاسيما في فترات التحول المفصلية.
وهذا قد يدفع الى إدخال الإحصاءات والتقديرات الكمية في حساب الاحتمالات التاريخية وتأمين الانتظام في حركة /دورة التاريخ ولكن الواقع اثبت ان هذه الاحتمالات المحسوبة احصائيا ورغم ما يبدو على نتائجها من دقة حسابية فإنها ادنى في مصداقيتها من اي استنتاجات منطقية لان حسابات الأرقام ليست كحسابات الزمن رغم اكتسابها شكلا من المصداقية عند إخضاع الزمن للاقتصاد والقبول بان الزمن (الاقتصادي) يمكن ان يتحرك/ يتصرف دورانيا.
ولكن هوبزباوم وان سلم – على مضض – بإمكانية دوران الزمن / التاريخ اقتصاديا فانه وقف بالضد من حساب هذا الزمن سوسيولوجيا (اجتماعيا) لذا فقد تقاطع مع السوسيولوجيين الأمريكان الذين نادوا بان هناك تغيير اجتماعي منظم ومتمأسس لان الاحتمالية العالية في الاقتصاد قد لا تجد لها موازيا في الاجتماع وان التاريخ قد يكون خبرا عن الاجتماع الإنساني ولكنه قد لا يكون خبرا عن الاقتصاد الإنساني لذا فان هوبز باوم وبعد ان استعرض اثر العلم الاجتماعي في انتظام ولا انتظام دوران التاريخ وبالتالي تدني القدرة على التنبؤ بالاحداث والمستقبلية بالذات، إنما تحول نحو الانثروبولوجيين مبرزا قدرتهم على التنبؤ بفعل الحدود الضيقة لدراساتهم مشيرا الى ما توصل اليه الانثروبولوجي (الثقافي) الأمريكي الفريد ل.كروبر. (1876 – 1960) من ان ملابس النساء تتراوح بين الطول والقصر (الماكسيما والمينيما) كل خمسين سنة(20) لذا توصل هوبزباوم للقول ” ولكنني أرى لزاما على ان أقول ان المؤرخين شانهم شان علماء الاجتماع يقفون عاجزين نوعا ما لدى مواجهتهم بالمستقبل، ليس لأننا جمعيا عاجزون إزاءه فحسب بل ولىنهم لا يملكون فكره واضحة عن ما هية البنية أو المنظومة التي يدرسونها على وجه التحديد. ورغم – ريادة ماركس الرائعة – كيف على وجه الدقة تتفاعل عناصرها المختلفة. ماهو على وجه التحديد المجتمع (مفردا ومجموعا) الذي نعنى به؟
فعلماء البيئة يمكن ان يدعوا تحديدا أنظمتهم الايكولوجية، ولكن قلة من دراسي المجتمع البشري، باستثناء نقص الانثروبولوجيين الذين يتعاملون مع جماعات صغيرة (وبدائية) يزعمون أنهم يستطيعون ان يفعلوا ما يفعله علماء البيئة. ليس في العالم الحديث على الأخص، فنحن نتلمس طريقنا. وأقصى ما يستطيع المؤرخون ادعاءه هو إننا بخلاف غالبية علوم المجتمع، لا نستطيع ان نلتفت على مشاكل جهلنا. وأننا بخلافها لا يغرينا السعي الى الدقة الكاذبة محاكاة للعلوم الطبيعية ذات السمعة الأقوى بريقا. واننا بعد كل شيء لدينا مع علماء الانثروبولوجيا، معرفة لا توازيها معرفة بتنوع الخبرة الاجتماعية الإنسانية.
وفيما اننا وحدنا في مجال الدراسات الإنسانية الذين يجب ان نفكر بلغة التغيير والتفاعل والتحول التاريخي. فان التاريخ وحده الذي يوفر توجها. وكل من يواجه المستقبل من دونه ليس اعمى فحسب بل وخطرا أيضا، لا سيما في حقبة التكنولوجيا المتطورة”(21).
ومثل هذا النص لهوبزباوم يمكن ان يقرأ من نهايته رغم ادعائه ان المؤرخين هم وحدهم الذين يفكرون بلغة التغيير او التحول (التاريخي). فالعاملون في مجال العلم الاجتماعي من أدق اهتماماتهم التفكير وبلغة التغير والتفاعل ولكن ليس بالضرورة ان يكون ذلك (تاريخيا) فقد يكون اجتماعيا أو اقتصاديا بل وحتى قانونيا وفنيا ومعماريا لان هذه كلها إنما تشكل خط الهم المعرفي الذي يصعب فهمه دون التعرف ومن ثم التحكم في مفاصل تحولاته. ويمكن الاتفاق مع هوبزباوم بان التاريخ – ولكن بنسق واحد – يمكن ان يوفر توجها فقد استعار بل واستدان هوبزباوم من ماركس الكثير في فهمه للتاريخ وتوجهه، وماركس ابعد ما يكون عن التاريخ لان التاريخ انما يعمل على استمرار الفعل لكي يضمن تتابع الوحدات الزمنية. في الوقت الذي يعمل فيه ماركس وبحكم تفوقه. على القطع التاريخي الذي يصل به الى القطيعه. لذا فماركس يبدأ من زمن صفري (Point Of Zero) يلغي فيه الماضي التاريخي المفعم بالصراعات بين الإنسان والإنسان ليتحول الصراع والأساسي منه بين الإنسان والطبيعة في محاولة لضبط الحدث (الزمني) ليس باعتباره تاريخا وإنما (مزامنة) وبذلك تتحول الثقافة من ” نسق تصوري ” اي نسق معرفه ومفاهيم الى ” نسق تكيفي ” اي عناصر تقبل الملاحظة. وهذا ينسجم مع المسلمة الفكرية الماركسية التي توضح بان معرفتنا يجب إلا تقف عند حدود فهم العالم وإنما تتعدى الى تغييره.
واذا قبلنا بان التاريخ إنما يكون ضروريا في رسم توجهنا وذلك لما يختزنه من خوارط طريق أمكن التعامل بها زمنيا قد تكون ذات نفع في مواجهة المستقبل، فان الحكم على من يواجه المستقبل دون ان يحسن مدته تاريخيا إنما هو ” اعمى”.
وهذا تسليم من هوبزباوم بان الماضي إنما يمثل ثقلا نوعيا يمكن توظيفه في التعامل وببصريه مفتوحة مع المستقبل.
وما يمكن فهمه من وراء هذا الحكم على عميانية التعامل مع المستقبل دون حضور مؤثر للتاريخ وتاريخ الماضي (اتجاهات وحوادث وعبر) فان فهم المستقبل أو – بالأقل – الإمساك ببعض مفاصله إنما تتحول الى إشكالية متداخلة.
مثل هذا التسليم بأهمية حضور الماضي في التعامل مع المستقبل الذي افترض هوبزباوم ان التعامل معه إنما يتم بالمواجهة التي تعني التصدي أو التحدي نظرا لتعاظم المتوقع وغير المتوقع من الاحتمالات، قد يؤسس لنوع من صراعات الزمن التي يمكن ان تنقلب الى اخطر الصدامات/ الصراعات التي يمر بها الإنسان ومجتمعاته واهمة ودولة وثقافاته وحضاراته وقاراته. وبذلك يحاول هوبزباوم ان يقزم الإنسان ويعملق التاريخ في الوقت الذي يمثل فيه الإنسان أي إنسان وليس الإنسان الذي يحتكر التكنولوجيا، العامل المهم والفاعل والمستمر الذي بقي ينتقل على كتفيه وظهره ثقل الزمن بعد ان حوله الى تاريخ جمع فيه بين أكداس الطين وانجاز الحجر التي ما لبثت ان تحولت الى اعجازات وأعاجيب.
والخطورة التي يتخوف منها هوبزباوم لمن يواجه المستقبل دون سند كاف من التاريخ وبالأخص في حقبة ” التكنولوجيا المتطورة ” هي ان تفر القيم وبالأخص بعد ان تحولت من قيم مطلقة (مرجعيات) الى قيم نسبية (مؤثرات) لتواكب الإيقاع السريع والمذهل للتكنولوجيا التي كسرت القيد الزمني وبذلك يكون صعبا على من هم خارج التاريخ ان يجدوا سبيلا للحضور داخله.
وقد نستدرك على هوبزباوم ان الماضي ورغم كل اعجازاته لا يمكن ان يواجه المستقبل نظرا لان انجازات الحاضر قد تفوق اعجازات الماضي مما قد يهدد في إلغاء الماضي الذي قد يتحول إلى عظمه منسية لذا لا بد من مصالحه ازمانية.
1. بعلبكي ,منير,المورد، (1990) ص619.
2. م. ن، ص60.
3. هوبزباوم، دراسات في التاريخ، ترجمة عبد الإله النعيمي، دار المدى، 2006، ص10.
4. م. ن، ص10.
5. العروي، د. عبد الله، مفهوم الدولة (2001) ط7، ص99.
6. هوبزباوم، ا.ج (مترجم 1991) الأمم والنزعة القومية منذ عام 1780 ت: عدنان حسن ومراجعه د. مجيد الراضي، دار المدى، بيروت. ص15.
7. م ن، ص.17
8. دراسات في التاريخ، م. س، ص70.
9. Coser F.A., Masters Of Soeio Losieal Thou Sht: I deas in Historica SoeialEontext. (1971) Hareount Braee Govamovieh, Vilfredo Pareto, PP387 – 426
10. م س ,هوبزباوم، دراسات في التاريخ،، ص71.
11. م. ن، ص74.
12. م. ن، ص76.
13. م ن. ص83.
14. م ن، ص85.
15. سيريل، بابلي، تاريخ العالم، من ص402-403.
16. احمد صادق سعد (1990) دراسات في المفاهيم الاقتصادية لدى المفكرين الإسلاميين،2، عهود الإمبراطوريات الإسلامية، بيروت، ص154.
17. وايل ديورانت، قصة الحضارة، (مترجم : 1988) ج1، م3، 9 ص 6 – 470.
18. المورد معجم الاعلام، م. س، ص15.
19. ديورانت، م. س، ص 122.
20. كروبر، الفريد لويس (1867 – 1960) في موسوعة علم الإنسان: المفاهيم والمصطلحات الانثروبولوجيه تأليف: شارلوت سيمور سمث، مترجم مراجعه وإشراف محمد الجواهري.
21. ددراسات في التاريخ، م،. س، ص 90 – 91.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.