جاءت حكومة الانقاذ للسلطة عبر انقلابها الذي خططت له الجبهةالاسلامية القومية وهي تحمل شعاراتها البراقة مغلفة باسم الدين.. ورفعت شعارات وهمية تحمل في ظاهرها كلمات آخروية زاهدة في الدنيا تتغنى نعيم الآخرة الموعود وفي أساريرهم ملك قارون الذي لا يفوت وقد افتضحهم فيه الدهر.. كانت أوائل الشعارات: هي لله.. لا للسلطة لا للجاه من بين ركام ما تاجروا به أثناء المعارضة أيام الديمقراطية أمثال: لا ولاء لغير الله.. لا تبديل لشرع الله.. ومن ثم أيام شهر العسل الانقلابي: خير من استأجرت القوي الأمين.. وجدوا نفسهم في السلطة التي خططوا كثيراً للوصول اليها بينما نسوا ماذا يعملون بها بعد الوصول.. بدت لهم المهام غريبة وعجيبة والحمل أثقل للكوز الظلوم الجهول.. لم تكن لهم أدنى الخبرة لادارة شؤون بلاد بحجم السودان.. فهم لم يكونوا أكثر مخيلة من ادارة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم وارهاب الطلاب بالسيخ.. فبدأ التخبط يمينا ويساراً, أيدتهم مصر كعادتها التي لا تستحمل أن يكون هنالك نظام ديمقراطي في جنوبالوادي.. ثم هرعوا الى القذافي واستهبلوه في جماهيرته ومارثوا عبثاً باللونين الأخضر والابيض في شوارع العاصمة ولم أنسى قط تلك اللحظات المعيبة عندما ذهب البشير الى طرابلس وكان يهتف من على سيارة مكشوفة: الوحدة الوحدة يا معمر.. كان مثله أي صبي متحمس يهتف اعجاباً لمسؤول.. ضرب بكبرياء الدولة والعرف البروتوكولي في الحضيض.. فالقذافي رحمة الله عليه لم يكن غير رجل مهووس ولم ينل حظا من كاريزما القيادة والزعامة حتى لبلدية طرابلس ناهيك عن بلد بمساحة ليبيا والتي بمجملها لا يصل سكانها الى عدد سكان مدينة أم درمان لوحدها.. جاءت المسألة العراقية – الكويتية مع بدايات حكم الانقاذ فقير التجربة القيادية والدبلوماسية.. ووقفوا في جانب مشين لعمر ولحجم الدبلوماسية السودانية التي بنتها أجيال الاستقلال.. ففي فترة حرجة من الظروف التي مرت بها البلاد عقب كارثة سيول وفيضانات 1988م التي وقفت فيها الشعوب مساعدة لنا .. حدثني صديقي الدبلوماسي السعودي والذي كان وقتها بالخرطوم عن كم الأسى الذي انتابهم عندما نظمت حكومة الانقاذ مظاهرة هتفت حول السفارة السعودية “يهود يهود يا آل سعود” كان لم يكن يصدق ما تراه عينه وما تسمعه أذنه من هذا الشعب الطيب الذي ارتبط به كغيره من أبناء الشعوب العربية في أحسن أنواع العلاقات في مختلف مستوياتها.. ومن الغريب أن تخرج جموع في الخرطوم تهتف: السد السد لابد أن ينهد.. والحناجر التي هتفت لعبدالناصر وهو مهزوم في حرب الايام الستة كانت أكبر تظاهرة أعادت الشأن العربي كله الى توازنه.. وفي مطلع التسعينات وفي فترة ما سموه بالتمكين أي الاستحواذ على الغنائم في الخدمة المدنية والعسكرية فترة المحسوبية وتشريد الوطنيين الشرفاء.. أيضا كان ذلك التصعيد في الحرب الأهلية حيث عملوا علي التعبئة القسرية للشباب وحشدهم بالقوة في معسكرات التدريب وما يسمى بالدفاع الشعبي, ونسجوا القصص والخرافات حول العمليات في الجنوب, أن القرود والجن تساعدهم, هي نفس الشعوذة والدجل الذي كان يحكيه متسولوا المجاهدين الافغانيين. وجعلوا لها مسميات شتى وكان صيف العبور الصيف المحرقة الذي حصد أرواح الشباب الذين غرر بهم وسيقوا لأتون الجحيم باسم الشهداء وأعراس الجنان وبنات الحور التي نصبوا لها السرادق حرقا لمشاعر زويهم وليزيدوا لهم كما من الحزن اضافة لفقدهم فلذات أكبادهم. ولم يعبر صيفهم ذلك الاخطوات الذل والاهانة للشرفاء من الوطن..كانت حرب الجنوب فرصة لهم لاعلان الخطاب الجهادي واستثماره في تنميط كل تحركاتهم المشبوهة لدعم وتمويل الحرب التي فشلوا فيها تماماً مجرجرين أذيال الهزائم بصورة مستمرة, وكانت أرتال المصابين قد امتلأت بها المستشفيات وفاضت, ولاول مرة يتظاهر مصابي الحرب بالسلاح الطبي ويقفلوا كبري أم درمان لضخامة عددهم الذي فاق عدة مرات القدرات الاستيعابية والخدمات الصحية التي كانت تتوفر حتى للمدنيين قبل الانقاذ. ثم كانت المفاصلة الشهيرة التي أكملت مشهد الاسلاميين وصراعهم على غنائم السلطة والجاه التي كانوا قد أودعوها باكراً لله وماهي الا سنوات معدودة حتى أصبحوا هم الله هم الاله .. فالكل لابد أن يزعن لهم بالعبادة والعرفان وأن يسبح بحمدهم دون نقصان, ومن يتمرد ويخرج عن طاعة الملك الرباني هذا فمصيره القتل والتنكيل. أعلنوا الحرب وشنوا الهجوم على كل من لم يدين ويزعن بالطاعة لهم.. فالتهبت البلاد في طولها وعرضها.. اشتعلت دارفوروشهدت حرباً لم تكن من قبل في تاريخها الطويل. ثم فتحوا نيرانهم الظالمة في الشرق والقمع الوحشي متواصل في الداخل لكل من تململ تحت جبروت الاجهزة الامنية القمعية. اضافة الى سجون ومعتقلات المعارضين وما سمي منها ببيوت الأشباح وافعال لم تدون في تاريخ السودان منذ التركية السابقة. في فترة الديمقراطية التالثة كانت الجبهة الاسلامية القومية تروج لفصل الجنوب باعتباره هو العقبة التي تحول دون تطبيقم للشريعة.. فكانت ترى في اخضاعهم بالقوة حتى يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون, وابتكروا اساليباً كثيرة لاستمالة الراي العام للحرب وسيروا التبرعات الاعلامية دعما للجيش , ليقتلوا اي استمالة نحو المفاوضات والحل العادل للمشكلة. وظنوا بعد الانقلاب أن القضاء على الحرب وأسلمة الجنوب ماهي الا أسابيع.. فهم القاصر لحل مشكلة أسرته ويتطاول بجهل لما يجهل. فبعد توالي الهزائم وبوار أجندهم الحربية فما كان عليهم الا أن يركنوا لخيار الفصل القديم. انفردوا بمسألة التفاوض في مسألة تهم كل البلد وكل السودانيين. ووقعوا على اتفاقية نيفاشا وهم مبيتين النية للانفصال, ولم يعملوا قيد أنملة في خلال الخمس سنوات التي تخدم خيار الوحدة الجاذبة, بل تراجعوا عن معظم ما وقعوا عليه حتى يدفعوا بالاتفاقية لخيار الانفصال. خاصة وأن الاستقبال الخرافي للبطل الراحل/ جونق قرنق لدى عودته الى الخرطوم كان يمثل انه رجل المرحلة القادمة وأن حلم السودان الجديد الذي كان ينادي به قد بات ليس بعيد المنال, ليهزم الاجندة الاستقصائية لاسلامي الخرطوم. وحتى رحيله الغامض لم يكن مطمئناً لهم باي قدر, لانه باقي بفكره النير.. فكان لابد لهم من تقوية كل جهد يفضي للانفصال الذي يريحهم من شبح الفناء الماثل ويكرس لهم الانفراد والسيطرة على الشمال. نواصل..