(1) كم غير محظوظة هي هذه البلاد!.. فالأشياء الجميلة لا تكاد تستوي على سوقها حتى تخطفها يد الأقدار فنظل نبكيها دونما رجعة، وسبحانه مكور الليل والنهار فلا لا تلبث التجارب التي لم تورث عظة تعيد نفسها.. وما أشبه الليلة بالبارحة عندما يعود الماضي الآن بكل تفاصيله. ومنبر السلام العادل الذي نصب نفسه حامي حمى السودان دون منازع يعود فيمارس ما يقتات ويتنفس من تجارة البوار ويعود سيرته الأولى فينفث سمه الزعاف على مداخل الكباري والطرقات الرئيسية ومحطات المركبات العامة ويظنون بأنهم بذلك يحسنون صنعاً.. وبدلاً عن إماطة الأذى عن الطريق تحرياً لثواب الصدقة كما قال المصطفى عليه السلام فإذا بهم يفرشون الأذى على الطرقات على لافتات تقطر عنصرية وجهالة وعصبية تقول: (لماذا.. يقيمون في بلادنا بعد أن اختاروا الانفصال؟) (ولا تمكنوا رقابكم من الجيش الشعبي بالحريات الأربع). وأنا على متن المركبة في طريقي إلى المنزل بالحاج يوسف عند “لفة الردمية” إذا بي ألمح تلك اللافت، حدثت نفسي ليس في الأمر غرابة فتلك بضاعة أهل منبر السلام العادل التي جُبلوا على عرضها وذلك لا شك نصيبهم من العافية فأين الأسوياء الذين نحسب أن أهل المنبر في ذمتهم ليستروا تلك العورات التي كشفها أهل المنبر على الطرقات ولشيء سررته في نفسي لم أشك في أنني سأجد ذا المكان مختلفا غدا، ولم يكن غدا ببعيد. وبينما أنا في طريقي في الصباح الباكر إلى حيث قدر الله لي أن أكون رغم أنف المكر خسئ وخاب لم أجد اللافتة فأيقنت أن العقلاء لا يزالون بخير، وان هذا هو السودان كما عهدناه أبداً لا يضره الجهل وإن استشرى وبلي الناس به، وذلك ما لم أكن في شك منه أبداً، ولكن وددت أن يطمئن قلبي فكان!!. (2) لنعد إلى متن ما حوت اللافتة المشار اليها؛ هل قالت اتفاقية نيفاشا التي بموجبها تم تقرير مصير جنوب السودان إنه حال تصويت الجنوبيين واختيارهم الانفصال لن يسمح لهم بالبقاء في السودان؟ هل كان بقاء الجنوبيين ووجودهم في السودان مقصورا ومشروطا بالتصويت للوحدة كافة.. إذا كان الامر كذلك فهل شفع تصويت من صوت للوحدة في صناديق الاقتراع فاستثنى مما ناب الجنوبيين في السودان بعد الانفصال من التهديد بالويل والثبور وعظائم الامور، أم أن الجنوبي كان جنوبيا والشمالي شمالي وفق تلك الاسطوانات التي صكوا بها آذاننا أيامها. فما المانع من أن يختار الجنوبي الانفصال ويقيم في الشمال بالطريقة الرسمية طالما لم ولن يتوفر له من الحظ ما توفر للاحباش الذين ملكوا أحياء كاملة بالخرطوم أو المصريين الذين يبلغوا من الشرف درجة الوقوف إلى جنب رئيس الجمهورية ومخاطبة الجموع من جواره زيادة في الخير واعترافا بالحريات.. لماذا لا يقيمون في السودان طالما أنهم لم يشكلوا مهددا للامن السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي كما يقول المشرّعون الجدد. (3) كل ما كان جانب، وخطر ما يروج له منبر السلام العادل ويتجلى صداه عبر المآذن جانب آخر. فعندما كانت زرقاء اليمامة تنبه قومها برؤيتها أشجار الفتنة التي يغرسها منبر السلام العادل كان البعض يضع أصابعه في آذانه إما استهواناً أو تشجيعاً إلى أن بلغت الحلقوم وإذا بمن عُلم نظم القوافي بالأمس “يشطح” في من علّمه هجاءً وإيذاءً وإيحاءً بأن منبر السلام العادل ومن شايعه الأحرص دون منازع على مصلحة البلاد أكثر من الحكومة نفسها.. وأبعد من ذلك إفهام الناس أن بعض من أعضاء الحكومة نفسها كانوا ضحايا لما تم بأسمهم أو دون علمهم توطئه لإيجاد عذر لهم حال الرجوع عن الاتفاق كما كان أمر اتفاق “نافع عقار” غير أن رئيس الوفد المفاوض إدريس عبدالقادر أتى بما عكس الآية تماما بقوله: (إن الحكومة على كل مستوياتها كانت في صورة من الاتفاق الاطاري مع حكومة الجنوب قبل التوقيع.. وشدد على أنها باركته وأيدته)، وأضاف (نحن ما وحلانين، ولكن في ناس عايزين يوحلونا). وقال الرجل هناك من يريد أن يفتن الناس في دينهم، وانهم يقبلون الرأي الآخر بصدر رحب، ولكنهم لن يقبلوا تخوينهم) الأحداث 19 مارس (4) ومن حيث انتهى عبد القادر نحكي وإنا لفي زمان فتن الناس به في دينهم إلا من رحم ربي.. وفتنة الدين لا شك فتنة كبرى، فقد تشابه الامر على أئمة المساجد واختلطت العصبية بالدين فترجم رجال الدين كل صيحة عليهم فصاروا يفصلون الفتاوى ويعرّجون بالخطب إلى دنيا يصيبونها فخصموا من رصيدهم كثيرا حين خيبوا الظن.. وذلك إدريس عبدالقادر يقول مصدوما: (كنا نتعشم في أئمة المساجد أن يتعشموا فينا خيراً لاجتهادنا)، لافتا إلى أن فتح الحدود سيساعد على نشر الدعوة الإسلامية. يقول ذلك وما درى أن من يتحدث عنهم من أئمة بجانب منبر السلام العادل يتوهمون بأن الله اكتفى من الدين بإسلامهم ولم يعد هناك ما يرجى غير الحفاظ على الفئة التي آمنت منهم بعد أن اصطفوا من المسلمين.. وأقوى دليل على ذلك قول الطيب مصطفى إن موقفه لن يتغير من الجنوبيين ولو دخلوا في دين الله كافة. وكفى فعلت حناجر أئمتهم بالدعاء (اللهم اهلك النصارى ومن ناصرهم وجمد الطعام في مائدتهم وفض أفواههم) أحد أساتذتي الأعزاء في جامعتي بحر الغزال لهم التحية أينما وجدوا، لا يدين بالاسلام سألني ذات يوم لماذا لا يدعو المسلمون لليهود والنصارى بالهداية.. لا مستحيل على الله قد يستجيب طالما أنهم قوم اصطفاهم الله وينصرهم ويستجب دعاءهم لا سيما وهم يدعون من داخل بيت الله.. فلماذا يدعون للناس بالشر؟!). كدت أقول لهم ذلك نصيب من يدعون من سماحة الاسلام رحابته وما أكثرهم. والآن لا نملك الا الاعتراف بأن الطيب مصطفى ومنبره وحزبه استطاع أن ينفذ إلى قلوب المئات إن لم أقل الآلاف من عقول الشباب، بل ويجد له من الاقتناع والإيمان واعتناق أفكار المنبر حظاً وافراً بسبب الآلة الإعلامية التي أفلحت دون منازع في التغول على الرأي الآخر.. ساهم مساهمة فعالة في إعداد وإخراج عقول خاوية.. وإذا كان نصف رأيك عند أخيك فإن التعتيم ساعد هو الآخر في إبراز الرأي الرسمى في نسخة أقرب إلى التقديس. أضف إلى ذلك أن الظرف العام من حيث انشغال الناس بلقمة العيش وصرفهم عما عداه أدت بالنتيجة لتعطيل العقول ووقوع الشباب فريسة لأفكار المنبر واتخاذه أرضاً خصبة لا لإنبات الفتن فحسب بل إيناعها والخطورة التي ستترتب على أفكار المنبر ودعواه ستضع أمن وسلامة مواطني دولة الجنوب، في السودان في أتون خطر حقيقي ومحدق لجهة أن ما سيرتكب في حقهم من تجاوزات سترتكب بدم بارد إيماناً بالفتن التي يطلقها أهل المنبر بمباركة ومساندة أئمة المساجد وما أدراك ما الخطر عندما يلبس الباطل بلباس الدين؟! والخطورة الكبرى مع حقيقة أن الطيب مصطفى ومنبره استطاع أن يكوّن لنفسه قاعدة لا يستهان بها من المهووسين بأفكار المنبر لدرجة تخوين الحكومة نفسها لدرجة فشل آلة الإعلام الحكومي ولأول مرة منذ عشرين عاما في استمالة الرأي العام وإقناعه بل معاناة الحكومة نفسها لإقناع العامة بفوائد الاتفاق.. من هنا يرسخ اليقين بأن (عدو عاقل خير من صديق جاهل). منبر السلام العادل يأبى أن يتفهم أن الدور المطلوب منه انتهى.. وطبيعي ألا يفرق بين المصلحة وعدم المصلحة لذلك طفق أهله في ترديد ضلالهم القديم، وما دروا أن ما كان فصل انتهت أدواره التي وزعت حينها باتقان، غير أن أهل المنبر وصحبه “علقوا” في ترديد اللحن القديم. (5) وبالوقوف على مواقف الحكومة في البلدين نجد أن ما ينوب مواطنين دولة الشمال في دولة الجنوب يأتي على مستوى الافراد.. لا نقول فيما بين يدينا إنهم لا يتعرضون لمضايقات في جنوب السودان ولكن الحكومة تتبنى موقفاً واضحاً من وجودهم.. ولعل أصدق من ينقل لنا الصورة هو أحد أبناء الشمال نفسه الموجودين في الجنوب وبحسب ما نقل قلم الزميل شوقي عبدالعظيم من جوبا… يروي الطيب وهو أحد أبناء النيل الأبيض: (قبل أسبوعين من اليوم دعانا عمدة جوبا والدعوة كانت لجميع التجار العاملين في السوق الكبير وسوق كاجو كاجو و كاستم و سوق ملكية، وقال لنا: “أنتم في أمان معنا ومرحبا بكم ولن تتعرض الحكومة لكم بشيء أو قرار خاص” وفي نهاية كلامه قال إن هذا الاجتماع بتوجيه من الرئيس سلفاكير وأنتم في ضيافته”. وأفاد الطيب مستطردا “بل أذاع رقم هاتفه الشخصي وطلب من الجميع تسجيله في هواتفهم والاتصال به شخصيا حال تعرض أحد لمشكلة”. (الأحداث3 مارس). بينما يُقذف الرعب في قلوب مواطني دولة جنوب السودان وتُبدى لهم المخالب من قبل المنوطين بالتطمين وهذا نائب رئيس الجمهورية يقول: (الجنوبيون لن يتمكنوا من النزول في مطار الخرطوم بعد التاسع من أبريل المقبل دون اتباع الإجراءات الرسمية) وهذا لا شك لهو الطبيعي وليس هناك من ثمة داعي للتفنن في عرض الكلمات والتفوّه بما يعد من لزوم فائدة الكلام؛ فلا خيل أو مال ينفق ولا نطق يسعد بدلا عن الحال؟!! الموقف هنا يبدو على العكس تماماً فالشعب السوداني ظل دائما في موضع من يضمد جرح اللسان الرسمي ويمتص سخونة ما يلفظ. (6) قال الرسول صلى الله وعليه وسلم إقراراً لمبدأ العدل “والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها” تعليقاً على حادثة المرأة المخزومية التي سرقت ولم يُقم الحد عليها لشرف قومها والمعنى لا يختلف كثيراً فأحزاب المعارضة حال تضارب موقفها مع موقف الحكومة لا تألو الحكومة جهداً في تأليب الشارع عليها بدمغها بالخيانة والعمل تقويض المصلحة الوطنية، ولكن شاء الله أن نحضر زمانا يثير فيه حزب ما يثير من الكراهية والفتن ويدعو لدق طبول الحرب وبل يسعى إلى تقويض الأمن القومي بالتحريض الصريح للوقوف ضد الدولة، فيما اتخذت من تقديرات.. وأبعد من ذلك رمي الحكومة بالتقصير واتهامها بالخيانة.. ومع ذلك يظل رئيسها طليق اللسان يواصل التبشير بما تملي عليه عصبيته وعنصريته المنتنة ومع ذلك… ومع ذلك؛ لعظيم أواصر تشفع بالاستمرار وتنأى به عن الحساب أو العقاب؟!. فإذا كانت الخرطوم تزعم أن دولة جنوب السودان تدعم الجيش الشعبي في كل من ولاية النيل الازرق وجنوب كردفان، وقيل إن من شأن الاتفاق الاطاري إرساء دعائم السلام والاستقرار لماذا يرفض الطيب مصطفى ورهطه اتفاقا يحقن دماء أهل جنوب كردفان والنيل الازرق، لماذا لا يجنح السودان للسلم كما جنحت دولة الجنوب، ويتوكل على الله؟، لماذا يصر منبر السلام على خيار الحرب والحسم العسكري وقد برهنت الأحداث منذ اندلاع الحرب في الولايتين في أبريل من العام الفائت أن الحسم العسكري لاسيما وان ذلك ما وضح عندما أصرت الحكومة على القضاء على التمرد، وبعد أن ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن المواطنين في الولايتين هم المتضرر الأول والأخير من استمرار خيار الحرب هناك، لماذا لا يربأ أهل المنبر بأنفسهم عن التفكير الأناني ويكفوا عن جر الاشواك على جلود أهالي الولايتين برفض الاتفاق والدعوة لاستمرار حرب يدفع المواطنون الابرياء كلفتها دمارا وتشردا وتقتيلا واعتقالات وتعذيبا ومجاعة ومرضا. الى متى يظل الطيب مصطفى في صراعه مع الحقيقة، ألا يكف الطيب مصطفى عن جر السودانيين الأبرياء للوقوف في صف عداوة شخصية بحتة بينه وبين الجنوب. (7) لم يكتف الرجل بما يتلو من أقوال تجافي الحقيقة، بل قفز إلى إنكار التاريخ نفسه وهو يزعم أن القبائل السودانية التي تقصد جنوب السودان من أجل الرعي لا تتجاوز ال 5% وجوهر الحقيقة أن الطيب مصطفى يقول ما يقول لأنه لن يتضرر من إغلاق الحدود بين الشمال والجنوب، وينادي باستمرار الحرب لكامل علمه أن الابرياء من أهلنا في الولايتين هم من سيكونون وقودا لتلك الحرب التي لن تضيره شيئا. ولكن الحقيقة التي لا يستطيع طمسها هي أن الاواصر بين شعب الجنوب موصولة بحبل من الله لن يفلح الطيب أو غيره من الأئمة المفتونين منعها أو قطعها، وأن الانفصال لم ولن يكتب آخر سطر في قصة الشعبين، وإن لم تعتمد الحريات الأربع بين السودان وجنوب السودان. ونحسب أن رئيس الوفد السوداني إدريس أوفى بقوله: (الجنسية حق سيادي تمنحه الدولة للشخص بطلب منه، وان الشخص الذي يحقق مصلحة للبلد لا ضير في أن يعطى جنسية). الناس للناس من بدو وحضر بعض لبعض إن لم يشعروا خدمُ