د. الشفيع خضر سعيد… قراءة في المشهد السياسي: قبيل المعركة الفاصلة التي مهدت الطريق أمامه لإحتلال الأندلس، خاطب القائد طارق بن زياد جنوده: “البحر خلفي والعدو إزائي…ضاع الطريق إلى السفين ورائي”. وإذا كانت هناك حكمة فيما يقال، حقيقة أو مبالغة، عن حرق القائد طارق لسفنه، فهي مواجهة الخيارات المرة… ويبدو أننا في السودان، سنظل، بين كل أمرين، نبحث عن السفن المحروقة. والآن، بقرار مجلس الأمن الأخير، سيواجه الوطن خيارين: إما حلحلة أزمة الحروب الأهلية، والحروب مع دولة الجنوب المنفصلة لتوها عن أمها، وفقا لخارطة الطريق التي تشكل جوهر القرار، أو مواجهة الإجراءات الدولية المشددة، والتي في أي لحظة يمكن أن تصل حد إستخدام القوة. لنفكر في الأمر معا…: الأحوال في السودان تذهب من السيئ إلى الأسواء، والساسة/القادة في عزلتهم، سادرون في خطاب التيه. وفي الأفق لا نرى بادرة أمل، أو إستجابة لصرخة فولتير “إسحقوا العار”!، أو إحساس بالندم لما إقترفته تلك الأيادي من تهميش للمدن الطرفية والوسطية، ومأسسة للفقر، وتوطين للجوع والمرض، وإهمال للتعليم حتى أصبح إكمال مرحلة الأساس لعامة أبناء الشعب حلم لا يتحقق. أما إذا نظرنا إلى الخريطة الديموغرافية فسنرى كيف تغيرت التركيبة السكانية في المدن الكبيرة وفي القرى الصغيرة، دونما وضع خطط تنموية لإعادة تأهيل البنيات الأساسية حتى تتمكن من إستيعاب المتغيرات، وبالطبع دون أن يحرك القادة ساكنا لمعالجة جذور الأزمة. وها هو المجتمع الدولي، مرة أخرى يتدخل بعد أن تقاعس الساسة/القادة، ويلخص حلوله للأزمة السودانية في خارطة الطريق التي أعدها الإتحاد الأفريقي، أو أعدتها الولاياتالمتحدة وتبناها الإتحاد، لا يهم…!. إنه أشبه بمسرح العرائس، مسرح اللامعقول…..فكيف تتحرك الشخوص على خشبته؟: القرار: نلخصه، دون أن نبتسره، في الآتي:1- وقف العدائيات في غضون 48 ساعة (إنتهت المهلة!). 2- الانسحاب غير المشروط على جانبي الحدود وتحديد منطقة حدودية منزوعة السلاح. 4- الإمتناع عن دعم الجماعات المتمردة ضد الدولة الأخرى. 5- وقف الدعاية المعادية والتصريحات التحريضية. 6- تنفيذ الترتيبات الأمنية والإدارية لمنطقة أبيي وفق اتفاق 20 يونيو2011. 7- إستئناف المفاوضات في غضون اسبوعين، على أن تنتهي في غضون ثلاثة أشهر من اعتماد هذا القرار. وفي حال فشل الطرفان في الاتفاق، يقدم المجلس حلولا نهائية حول كل القضايا العالقة تكون ملزمة للطرفين. 8- التمسك بالحل السياسي المتفاوض عليه بالنسبة لمشكلتي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، والمبني على أساس احترام التنوع في الوحدة. ويطلب المجلس من حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال التعاون مع الاتحاد الأفريقي ورئيس الإيقاد، للوصول إلى تسوية عن طريق التفاوض على أساس الاتفاقية الإطارية حول الشراكة السياسية بين حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية/ قطاع الشمال، والترتيبات السياسية والأمنية في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. كما يدعو المجلس حكومة السودان لقبول الاقتراح الثلاثي المقدم من الاتحاد الأفريقي والأممالمتحدة وجامعة الدول العربية، والخاص بالسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى السكان المتضررين في المنطقتين. 9- في حالة عدم امتثال احد الطرفين او كلاهما، يتخذ المجلس قرارات إضافية بموجب المادة 41 من الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة. النظام: رسميا، وافق على قرار مجلس الأمن/الإتحاد الإفريقي. لكن، على مستوى الحراك اليومي بدا إنقسام واضح بين تيارات داخله مصطرعة أصلا. إنقسام، بحسب ما هو ظاهر، بين القادة الدبلوماسيين، والقادة في الجبهات الأخرى. لكن هذه المرة، إنقسم الحزب الحاكم بطريقة تستدعي الوقوف عندها قليلا: رجل الدفاع الشعبي الأول يقف مساندا لقرار مجلس الأمن، ورجل الفكر والمسحة الليبرالية يتحفظ عليه محذرا من خبثه! يبدو أنها خطة جديدة، ينزل بها الحزب الحاكم إلى الملعب لأول مرة. فنشاهد الرئيس بمعية عضو برلمان متشدد، قضيته الأولى “شيرين” وبرنامج “أغاني وأغاني”!، ونشاهد رجل السياسة الأول والتفاوض يصرخ “shoot to kill”، وبقية التشكيلة بين بين، متوزعة زرافات ووحدانا، والإعلام يواصل دق الطبول، والشعب متروك على الشاحن، يعيش أجواء الترقب، منغمسا في صفوف الخبز وفي صفوف التموين من أجل الحصول على سلع غير مدعومة في سوق سماءه آمنة ومفتوحة!. ومازلنا في أول ساعات الخلاف هذه، نحاول أن نستقرأ الرأي بين ” موصوها وأشربو مويتا” و”حتغرقو البلد في موصكم ده” وبين “ده تركيع عدييييل” و”ده جر واطي”!! وحتى يتفق النظام على رأي واحد ويعلنه الإعلام الرسمي للشعب، علينا نحن، أبناء الشعب السوداني، أن نصنع دواء الإستيقاظ ونتجرعه قطرة قطرة…السودان يتسرب من بين أيدينا…!! أمريكا والمجتمع الدولي: عادة يقف الإتحاد الأوروبي واليابان في نفس الخط مع أمريكا بالنسبة لقضايا شعوب بلداننا. أما الصين فتصر على إدعاء الزهد، حتى الآن على الأقل، في التدخل المباشر في شئون الشعوب الأفريقية، رغم نهشها المتواصل لثروات هذه الشعوب، ورغم غضها الطرف عما يجري في هذه البلدان من ذبح للديمقراطية وحقوق الإنسان ما دام أنبوب النفط سالك! وبعض المراقبين يصرون على أن الصين، دفاعا عن مصالحها الضخمة في جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان، ستصل إلى تسوية مع أمريكا حول رسم مصير هذين البلدين. مواقف روسيا المضادة لتمدد الإمبراطورية الأمريكية، والمستجيبة لمصالحها الخاصة أيضا، تدفعها للتضامن مع موقف النظام السوداني…، لكن يبدو إن السيف سبق العذل. اما أمريكا، فبعد 11 سبتمبر 2001 وإجتياح حمى محاربة الإرهاب العالم، إنحصرت حلولها ومقترحاتها لمشاكل دول العالم الثالث في إقامة أحلاف مع رؤساء هذه الدول ضد شعوبها، في محاولة لترسيخ أنظمة ما يسميه بعض المفكرين بالشمولية الليبرالية، وأسميناه نحن، بلغتنا البسيطة، ديمقراطية رجع الصدى. وما بعد ثورات الربيع العربي، أصبحت أمريكا، وفي إطار تعاونها الجديد مع التيارات الإسلامية الصاعدة والمتوقع جلوسها على كراسي السلطة، أصبحت داعما أساسيا لهذه الأنظمة الجديدة، موحية بموافقتها على صفقة دعمها كأنظمة تسير في خطى الليبرالية المحدودة أو المقيدة. ولا ضير من وطء أحلام الشعوب ما دام رجال الأعمال المتدينون يحافظون على الرهان الأمريكي، ويدبجون الفتاوى حول مشروعية إقتصاد السوق. بالنسبة للسودان، أمريكا لن يتقطع قلبها إذا إنفصل جزء من الوطن، فالبتر، في عرفها، أفضل من إستمرار الأزمات. وإذا كان حاكم السودان إسلاميا، ديكتاتورا كان أو ليبراليا مستنيرا، فلن تتغير الإستراتيجية الأمريكية، لأن غاية ما تريده أمريكا هو إستقرار يحافظ على إنسياب حركة السوق العالمية…، وفي سبيل ذلك يمكن أن تغض الطرف عن خروقات الديمقراطية وحقوق الإنسان لصالح مبدأ الإستقرار. ما يرعب أمريكا حقا هو السياسة التي تعادي إقتصاد السوق. أما وقد كان من أمر الإسلاميين في السودان ما كان من سيرة المولات والإستحواذ على قطاع الدولة وتفتيته إلى إقطاعيات وموارد أفراد، فلا بأس من إستمرارهم، مع قصقصة الأجنحة وإجراء بعض التعديلات حتى لا تثور ثائرة الناس. لكن، أن يستفز النظام السوداني كل العالم بالقذف الجوي، فهذا يخرج الأخ الأكبر،سام، من طوره ويجعله يفكر ألف مرة في الهبوط الناعم (soft landing)، فيشهر سيف الفصل السابع ويعلن ولي أمرنا، ويمهلهم قليلا..! نيفاشا2: مثلما خاف الحكام من عبارة الجنوب الجديد، وأصبحت واقعا، الآن هم يخشون عبارة نيفاشا2، دون بذل أي مجهود لتلافي أخطاء ونواقص نيفاشا1، خاصة في عدم تنفيذ مستحقات التحول الديمقراطي كاملة، وعدم مشاركة القوى السياسية في إقتراح الحلول وتنفيذها. يقول تشومسكي: “في هذه المرحلة من تاريخ البشرية، ماعادت الديمقراطية وحرية التعبير مجرد قيم مثالية، بل من ضرورات البقاء”. وعموما، سيرالأمور بالطريقة التي هي عليها الآن، قد تجسد شبح نيفاشا2 في واقع ملموس. وفي هذه الحالة، ستواجه البلاد بإحتمالين: الأول، أن يفضي التفاوض إلى صلح بعد خصام، بين الحركة الشعبية قطاع الشمال والحكومة، مما يتيح فرصة ذهبية للحل الشامل في إطار المؤتمر القومي الدستوري، إذا ما ضغطت الحركة الشعبية قطاع الشمال في هذا الاتجاه، وإستجابت الحكومة. والإحتمال الثاني، أن يفضي التصالح إلى شراكة بين الحكومة والحركة الشعبية قطاع الشمال، مع الإحتفاظ بلافتة الحكومة العريضة كمجرد ديكور. وفي هذه الحالة، إما أن تعلن الأحزاب السياسية عن وجودها، فتفرض الأجندة الوطنية بالطريقة التي تراها مناسبة، أو تقف موقف المتفرج المبعد عن دائرة الفعل السياسي، مما يعني إستمرار الأزمة. وفي الغالب سيتبع الشراكة الثنائية تشاكس ثنائي قد يدفع بالأمور لأن تطل علينا الشعارات التي تهدد وحدة البلاد مرة أخرى.