كتب د. غازي صلاح الدين، مفكر المؤتمر الوطني، وأحد كبار قادة الجبهة القومية الإسلامية، الذي مثل الحكومة في عدد من مفاوضات السلام، واعتبر لفترة من ممثلي صوت العقل فيها، مقالاً نشرته عدة صحف سودانية، في أواخر شهر ابريل المنصرم، تحت عنوان (قرار الإتحاد الافريقي استنساخ للإيقاد ثم نيفاشا جديدة) . ولعل الهدف المستعلن للمقال هو مساندة الحكومة، في موقفها الرافض لقرار الاتحاد الأفريقي، والمجتمع الدولي، وإظهار تبني موقفها، الذي فحواه أن جميع هذه الجهات الإقليمية، والدولية، متحيزة ضد الحكومة السودانية، على غرار اسطوانة التآمر الدولي، الذي تقوده أمريكا، وإسرائيل ضد دولة التوجه الحضاري الإسلامي. أما الهدف المستخفي للمقال، فهو تطمين الجناح المتطرف داخل حكومة الإنقاذ، بأن د. غازي لا يزال معهم، رغم الانقسامات التي يعاني منها التنظيم، وانه مع خطهم الداعي للحرب، وانه يتبرأ من اتفاقية السلام الماضية، واتفاقية السلام التي تلوح في الأفق، والتي ربما أسفرت عنها، اللقاءات التي تجري الآن، نتيجة هذه المبادرات الأخيرة، التي يحركها المجتمع الدولي. ولما كان رضا الجهات المتطرفة داخل المؤتمر الوطني، هو غاية ما يصبو إليه د. غازي، وان سخطها هو غاية ما يخشاه، فإنه لم يتردد في أن يضرب عرض الحائط، بكل تاريخه السياسي، في دهاليز مفاوضات السلام .. وبدلاً من مناقشة القرارات الإقليمية والدولية بموضوعية من يعلم إمكانيات حكومته، ونقدها بغرض تحويل جزء من مبادراتها لصالح الحكومة، والمساومة ببعض المصالح مقابل ذلك، شأن كل سياسي واعي، فإنه جنح إلى رفضها جملة وتفصيلا، ودعا حكومته لعدم قبول التفاوض والسلام، والتركيز على التعبئة، والحرب، التي زعم بأنها أثبتت نجاحها، واستردت للسودان هجليج من حكومة الجنوب، وهو زعم هو يعلم في قرارة نفسه، مثل بقية قادة المؤتمر الوطني والحكومة، أنه غير صحيح. يقول د. غازي ( من حين لآخر استصوب ألا تنحصر نصيحتي في دوائر الاستشارة الطبيعية التي يفرضها المنصب الرسمي. ويكون ذلك عندما أرى أن موضوع النصح جدير بأن يتفاعل معه الرأي العام بحسبانه أمرا يتعلق بالحقوق الوطنية التي تهم جميع المواطنين وهو يحدث كلما مرت البلاد بمنعطف مصيري)( الرأي العام 29/4/2012). لقد مرت البلاد بمنعطف مصيري، حين حدث انفصال الجنوب عن السودان، لأول مرة في تاريخ السودان، فما هي النصيحة التي قدمها د. غازي صلاح الدين لتفادي ذلك المنعطف المصيري؟! بل ما هو موقف حزبه، وجماعته الإسلامية، وما دورهما في ذلك الانفصال ؟ إن د. غازي يقدم هذه النصيحة، خارج دائرة استشارته الطبيعية، في داخل الحكومة أو الحزب، ليتفاعل معها الشعب من منطلق الحقوق الوطنية، التي (تهم جميع المواطنين)!! ولما كان د. غازي لا يسأل نفسه، عما يرزح تحته من تناقضات، فدعنا نسأله :هل من ضمن هؤلاء المواطنين السودانيين، أبناء دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، الذين قصفتهم حكومته بالطائرات، فقتلت الأطفال، والنساء، ومنعت عنهم الإغاثة، وكافة العون الإنساني حتى يموتوا جوعاً ؟ هل يريد من هؤلاء، أن يرفضوا معه جهود منظمة الإيقاد، والاتحاد الأفريقي، والمجتمع الدولي لإحلال السلام في ربوع السودان، ويقفوا مثله، خلف الحكومة مطالبين بالتعبئة، للمزيد من الحرب بين الشمال والجنوب ؟! أم أن هؤلاء لم يخطروا بباله، وهو حين يذكر المواطنين السودانيين، إنما يعني فقط سكان شمال ووسط السودان- سكان مثلث حمدي؟! وهو يريد أن يعبئ هؤلاء، ضد جنوب السودان، وضد هذه المناطق التي ألحقها في تفكيره الانتقائي بالجنوب، تمهيداً لحرب أهلية طاحنة، يظن أنها ستخلص المؤتمر الوطني من مأزقه ؟! ما هي مصلحة المواطنين السودانيين في الخرطوم، وفي شمال السودان، وشرقه، الذين يقتلهم رجال الأمن أمام بيوتهم، وفي جامعاتهم، وتقمعهم الحكومة، وتعتقلهم ليل نهار، وتصادر صحفهم، وتمنع نشاطهم السياسي، وتسحقهم بالغلاء كل يوم، ما هي مصلحتهم في تأييدها الآن، لأن المجتمع الإقليمي، والدولي، يريد أن يلزمها، بما ظلت تدعي من رغبة في السلام، وهي تشعل الحروب في كل أنحاء الوطن ؟! ثم يحدثنا د. غازي، بان وضعاً شبيهاً بما يحدث الآن، قد حدث من قبل، حين كلف بقيادة، وفد مباحثات السلام عام 1994م، ويقول عن مهمته ( كانت المهمة التي أوكلت إليّ واحدة ومحددة للغاية وهي إلغاء إعلان مبادئ مبادرة الإيقاد … أو إلغاء مبادئ الإيقاد من أساسها ) ثم يقول ( أدى الوفد مهمته بكفاءة عالية إذ دام الاجتماع حوالي خمس وثلاثين دقيقة فقط رفض الوسطاء الذين نصبوا أنفسهم قضاة في ذات الوقت تعديل إعلان المبادئ فكان البديل هو تموت مبادئ الإيقاد) إلى أن يقول (لكن الحكومة عادت في عام 1997م وقبلت مبادئ الإيقاد التي أخذت تتنقل من طور إلى طور إلى أن انتهت إلى نيفاشا)(المصدر السابق). وسأتجاوز هنا، ما يشتم من ثناء د. غازي على نفسه، وزعمه لنظامه البطولة، إذ كلفه بقيادة وفد لتحطيم مبادرة الإيقاد !! مع أن ذلك مما لا يجب أن يفخر به أي سياسي، كما أن النظام لم يكن يحتاج إلى إرسال وفد ليرفض المفاوضات، أو يرفض وساطة الإيقاد !! وكان من الممكن أن يرسل خطاب بهذا المعنى، فلا تقوم الوساطة ولا المفاوضات. على أن الخطير في تقرير د. غازي أعلاه، ما انطوى عليه من كذب وتضليل، وتلون. فهو قد ذكر اعتراضه على مبادرة الإيقاد، ليدعم بها رأيه في الاعتراض على قرارات الاتحاد الأفريقي، ويركب موجة الهوس التي تدق الآن طبول الحرب .. وإلا فإن د. غازي بعد ذلك، قد كان رئيس الوفد الحكومي في بداية مفاوضات السلام، ووقع نيابة عن حكومة السودان مع السيد سلفاكير ميارديت بروتوكول مشاكوس في عام 2002م، الذي حوى مبادرة الإيقاد تلك، بما فيها، حق تقرير المصير للجنوبيين!! فلماذا لم يذكر لنا ذلك من ضمن بطولاته ؟! ولماذا كان متحمساً لإلغاء مبادرة الإيقاد في عام 1994م، ثم متحمساً لقبول مشاكوس عام 2002م، ثم متحمساً مرة أخرى لإلغاء مبادرة الإيقاد في مقاله هذا في عام 2012م ؟! ألا يكفي هذا التخبط، والتأرجح، ليشكك في نصيحته الحاضرة، التي يدفع بها البلاد نحو هاوية منبر السلام العادل؟! لقد كان من أسباب رفض حكومة الإنقاذ لمبادرة الإيقاد، أنها حوت حق الجنوبيين في تقرير المصير.. ولذلك قال ممثل الحكومة، في ذلك اللقاء، د. غازي صلاح الدين، في الاجتماع بتاريخ 22/9/1994م (بالنسبة لحق تقرير المصير فإن مصير السودان كان قد تحدد عام 1956م عندما نال السودان استقلاله) (راجع مقال د. سلمان محمد احمد في التعليق على د. غازي بتاريخ 28/5/2012). وختم د. غازي كلمته في ذلك الاجتماع، الذي يفخر اليوم، بأنه حطم مبادرته، بقوله ( حكومة السودان ملزمة بتسليم نفس السودان للأجيال القادمة وان حق تقرير المصير تحت أي مسميات قد يؤدي إلى الانفصال أمر غير وارد وان الحكومة غير مستعدة للتباحث حوله)(المصدر السابق). وقد يقول قائل أن د. غازي معذور، فهو لم يكن يعلم أن حكومته ستوافق لاحقاً، في اتفاقية السلام، على حق تقرير المصير، ثم على الاستفتاء، والانفصال نفسه، دون أن تشعر بحرج تسليم السودان ممزقاً للأجيال القادمة. ولو كان الأمر كذلك، لو صفنا د. غازي بمجرد الجهل بحكومته، وسياساتها، وقصر النظر، وعدم تصور مبلغ انتهازية، وعدم صدق، جماعته الإسلامية، التي ظل طوال حياته ناشطاً فيها .. ولكن الأمر خلاف ذلك !! إذ أن د. غازي نفسه، قد كان يعلم حتى في ذلك الوقت 1994م، بأن حكومته قد سبق، ووافقت على حق تقرير المصير، مهما كانت النتائج التي سيؤدي إليها !! وهو حين وقف أمام الإيقاد، رافضاً المبادرة، ومدعياً أن الحكومة لا يمكن أن تقبل بتقرير المصير، لأنه سيؤدي للانفصال، كان يعلم أن الحكومة قد وافقت قبلاً على ذلك !! وإنما يقوله ضرب من التضليل والخداع .. فهل رأى الناس مثل هذه النفاق ؟! في 25 يناير 1992م، صدر إعلان فرانكفورت، بين حكومة الإنقاذ، يمثلها د. علي الحاج، وجناح منشق عن الحركة الشعبية لتحرير السودان يمثله د. لام أكول .. وقد جاء في الفقرة الثالثة من ذلك الإعلان (بعد نهاية الفترة الانتقالية يجرى استفتاء عام في جنوب السودان لاستطلاع آراء المواطنين الجنوبيين حول نظام الحكم الذي يناسب تطلعاتهم السياسية دون استبعاد أي خيار)!! (المصدر السابق). فحكومة الإنقاذ قد وافقت على حق تقرير المصير، دون تدخل وسطاء، ودون ضغوط، ودون تردد، قبل أن ترفعه الحركة الشعبية الأم بقيادة د. جون قرنق .. وحين أعلنت الإيقاد مبادئها في 20 يوليو 1994م، وحوت حق تقرير المصير لجنوب السودان، رفضتها حكومة الإنقاذ، يمثلها د. غازي، في بطولته الزائفة، التي حدثنا عنها في هذا المقال. ولكن الإيقاد أصرت على موقفها، وذكرت السودان بموافقته على ما يرفض الآن، قبل عامين في فرانكفورت !! لم تستطع حكومة الإنقاذ، مواصلة رفضها لإعلان مبادئ الإيقاد، لأكثر من ثلاثة أعوام !! ففي عام 1996م وقعت الميثاق السياسي، مع د. رياك مشار، ثم اتفاقية الخرطوم في 1997م، التي انضم إليها د. لام أكول فيما بعد.. وقد نص كلا الميثاق السياسي، واتفاقية الخرطوم، على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وكنتيجة لاتفاقية الخرطوم، وافق السودان رسمياً في نفس العام 1997م، على إعلان المبادئ الصادر عن الإيقاد في يوليو 1994م، والذي كانت حكومة الإنقاذ يمثلها د. غازي قد رفضته في سبتمبر 1994م. ولقد صدر دستور السودان لعام 1998م ينص صراحة في المادة 139، على حق تقرير المصير لجنوب السودان. في 20 يوليو 2002م، وقعت حكومة الإنقاذ مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، بروتوكول مشاكوس الذي وضع الأطر الرئيسية لحق تقرير المصير.. وكان يمثل الحكومة د. غازي صلاح الدين نفسه، ولقد كان فيما يبدو مسروراً بهذا الإنجاز، الذي أدى إلى تحقيق السلام، فقد ذكرت السيدة هيلدي جونسون التي كانت تتابع المفاوضات، في كتابها عن تلك الأحداث، أن د. غازي اخبرها بأنه وقّع بعد أن شاور أعضاء الوفد، واتصل بالسيد رئيس الجمهورية، وكبار المسئولين، وانه قال لها (بالنسبة لي فقد كانت هذه فرصة العمر التي لا يمكن إضاعتها. لقد كان أمامي في تلك اللحظة بالذات مستقبل السودان. انه لا يمكن لقائد يملك عقلاً سوياً إضاعة تلك الفرصة )(المصدر السابق). ترى ماذا حدث لدكتور غازي الآن وهو يرفض السلام، وتدخل الإيقاد والاتحاد الأفريقي، والمجتمع الدولي، ويقرع طبول الحرب، بعد أن كان يملك عقلاً سوياً، ساقه من قبل للموافقة على السلام ؟! -نواصل- د. عمر القراي