توطئة:- الصراع المسلح فى إقليم دارفور، الذى يدخل عامه العاشر فى مطلع 2013 ،لم يشغل الرأى العام والقوى السياسية والحكومة السودانية فحسب، بل تابعه بإهتمام شعوب وحكومات الدول الإفريقية والعربية والغرب والمؤسسات الدولية المعنية بحقوق الإنسان كافة، وما تزال. كى نضع الصراع فى سياقه التاريخى والإجتماعى والسياسى، كما القانونى، نقول أن إقليم دارفور الذى تشكل مساحته ما يقارب ربع مساحة السودان، وتسكنه قبائل مسلمة ذات أصول إفريقية وعربية وتتحدث جميعها اللغة العربية، كان حتى العام 1916 يشكل مملكة مستقلة ضمها المستعمر البريطانى فى ذلك العام إلى الدولة السودانية كأحد الإقاليم ( المديريات) إلتى كانت تكّون السودان آنذاك، وإستمر الوضع على هذا حتى اليوم. على الرغم من أن الإقليم غنى بثرواته الزراعية والحيوانية والطبيعية، فإن أبناؤه لم ينالوا الفرص العادلة فى المشاركة فى السلطة والثروة المركزية إلتى ظلت منذ الإستقلال فى أيدى أبناء الشمال ذوى الأصول العربية، كما حرموا حتى من إدارة الحكم المحلى للإقليم الذى هيمنت عليه سياسات وسياسيو المركز فى الخرطوم، وأهملت قضايا التنمية الإقليمية بصورة فاقمت من أحساس مواطنى دارفور بالغبن والتهميش المتعمد خاصة فى مجالات التعليم والصحة والسكن والبيئة والمواصلات والإتصالات وخلافها. هذا الكم الهائل من الإحساس بالدونية والإقصاء، كما فى حالة جنوب البلاد إلتى حمل أهلها السلاح فى وجه الحكومة المركزية، دفع قيادات أبناء القبائل فى دارفور أن لا سبيل لتحقيق أمانيهم سوى نهج ذات الطريق الذى أتبعه مواطنو الجنوب بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودانن مما نجم عنه النزاع المسلح الذى إستمر 18 عاماً حصدت ملايين الأرواح من الجانبين، وتسببت فى دمار البني الإقتصادية ومشاريع التنمية، وقضت على آفاق ومرافق الخدمات الإجتماعية كافة. أنتهت تلك الحرب بتوقيع إتفاقية السلام الشامل بين الحكومة والحركة الشعبية فى العام 2005 بيد أن تنفيذ بنود الإتفاق تعثر بصورة أدت إلى إنفصال الجنوب لتقوم دولة جنوب السودان فى يوليو 2011. قيادات أبناء دارفور لجأت بالمثل إلى حمل السلاح فى مواجهة القوات الحكومية منذ العام 2003، وتشكلت منهم عدة فصائل قبلية مسلحة تزودت بالسلاح من دول مختلفة، طرحت مطالبها المتمثلة أساساً فى قضايا التنمية والمشاركة فى السلطة والثروة على مستوى المركز والإقليم. رد الحكومة السودانية، ممثلة فى القوات السودانية المسلحة وجهاز أمن الدولة، وقوات ما يعرف ب ” الدفاع الشعبى“، مستعينين ببعض القبائل الدارفورية ذات الأصول العربية( الجنجويد)، على هجمات الفصائل المسلحة كان عنيفاً بإعتباره ” تمرد” على السلطة المركزية من عناصر خارجة على القانون، تمارس النهب وقطع الطريق وتدمير المنشآت، دون أى اكتراث من جانب الحكومة لعدالة أو مشروعية مطالب تلك الفصائل المسلحة. وبدلاً من أخذ الدروس والعبر من تاريخ النزاع المسلح فى جنوب البلاد، أتخذت الحكومة سياسة قمع تلك الحركات وهزيمتها بقوة السلاح والقهر. إتباع ذلك النهج من جانب الحكومة السودانية، شاملاً القمع، والقصف الجوى، وحريق القرى، والزرع، والضرع، وإجبار المواطنين المدنيين العزل إلى الهجرة القسرية للعيش فى معسكرات النازحين، إلتى تضم اكثر من مليونى شخص فى الوقت الحالى، يعيشون فى أوضاع مزرية من فتات المنظمات الإنسانية الدولية، يفتقدون إلى أبسط مقومات العيش الكريم من سكنن وصحة، وتعليم، وبيئة سليمة، ناهيك عن ترف الكهرباءن والمياهن والإتصالات، وحرية الحركة، والتنقل، بينما هاجر عشرات الآلوف ليعيشوا لاجئين فى تشاد والدول الإفريقية المجاورة. تجدر الإشارة إلى أن الجهود الدولية والإقليمية الساعية للوصول إلى تسوية شاملة للأزمة تمخضت عن عدة لقاءات بين الحكومة السودانية والفصائل المسلحة المختلفة، مع الوسطاء الدوليين. نتجت تلك اللقاءات فى العام 2006 عن إتفاق تم أبرامه فى أبوجا بنيجيريا قبله فصيل واحد من الفصائل الرئيسية الثلاثن ورفضه الفصيلان الآخيران اللذان أثرا إستمرار القتال إلى حين تلبية مطالبهم. غير أن الحكومة أخفقت حتى فى تنفيذ بنود ذلك الإتفاق، ما أدى إلى خروج الفصيل الذى وافق على إتفاقية أبوجا ليعود إلى حمل السلاح مرة آخرى لاحقاً أسوة بالفصائل الرافضة. كما تم فى دولة قطر (إتفاقية الدوحه) فى آخريات العام 2011 إتفاق آخر مع فصيل جديد، لم يعرف من قبل، بقيادة أحد أبناء الإقليم، مع رفض الفصائل المسلحة الآخرى إلتى تحالفت فيما بينها وواصلت نضالها المسلح ضد النظام الحاكم فى الخرطوم، إنطلاقاً من قواعدها فى الإقليم وفى جنوبإقليم كردفان ومن خارج البلاد ويظل ذلك الصراع دائراً. الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان:- أنتهجت الحكومة السودانية سياسة القمع والقرى المحروقة فى جميع أنحاء إقليم دارفور، وتواترت عشرات التقارير من وكالات الأممالمتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية والإقليمية والوطنية عن وقوع إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بمخالفة العهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان والقانون الإنسانى الدولى، شاملة القصف الجوى، القتل خارج نطاق القضاء، التعذيب، الإعتقال التعسفى، الإغتصاب والترحيل القسرى، تشكل جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، نجم عنها إغتيال عشرات الآلاف من المواطنين، وحرق مئات القرى والمحاصيل الزراعية، ونهب المواشى، ما أدى إلى نزوح الملايين قسرياً إلى الملاجىء ومعسكرات النازحين. فى مواجهة الحملة الدولية ضد تلك الممارسات قامت الحكومة السودانية بتكوين لجنة وطنية فى العام 2004 قامت بالتحقيق فى أنحاء مختلفة من الإقليم وجاء تقريرها مؤكداً وقوع تلك الإنتهاكات، والتوصية بمسآلة ومحاسبة المسؤولين عنها من القوات الحكومية والمليشات التابعة لها. إلا أن الحكومة السودانية لم تول ذلك التقرير الإهتمام اللازم، وظلت تتمادى فى غيّها ودعواها أن ما يدور فى دارفور ليس سوى حالات نهب مسلح من بعض العصابات وقطاع الطرق، أو صراعات قبلية بين المجموعات الآثنية المختلفة، وتصر أنها، أى الحكومة، لا علاقة لها بالصراع الدائر. حماية المدنيين:- ما من شك أن الإنتهاكات إلتى وقعت بإقليم دارفور خلال السنوات العشر الماضية كان لها أسوأ الآثار على مواطنى الإقليم، خاصة المدنيين الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل فى الصراع الدائر، والذين أفتقروا طوال تلك الفترة من الحماية اللازمة، إلتى كان من المنظور أن توفرها ذات العناصر إلتى تولت إرتكاب الإنتهاكات بحق أولئك المواطنين. فى العام 2003 قُدمت لمجلس الأمن مذكرة حول الدولة غير القادرة على حماية مواطنيها، أو غير الراغبة فى حمايتهم، وإعتبارها دولة لا يجوز لها أن تدفع بالسيادة الوطنية الكاملة، إذ أن السيادة هى للشعب، وليس لحكامه الذين يتمادون فى قمعه ومصادرة حقوقه،ما يفرض على المجتمع الدولى واجب حماية المدنيين والحفاظ على أمنهم وسلامتهم، ويعرف مبدأ تدخل المجتمع الدولى لحماية المدنيين، والذى أقرته إيضاً الجمعية العامة للأمم المتحدة، بمبدأ مسؤولية الحماية Responsibility To Protect. إستناداً على ذلك المبدأ، ولتوفير الحماية لمواطنى إقليم دارفور، قام مجلس الأمن بإصدار قراره رقم 1706 لسنة 2006 والقاضى بإرسال قوات أممية لحماية المواطنين والمدنيين. أثار القرار حفيظة الحكومة السودانية بزعم أنه تدخل فى الشأن الداخلى للبلاد. وقام رئيس الجمهورية بحملة ضد القرار وأقسم كعادته بأغلظ الإيمان، أنه سيقود الجيش السودانى بنفسه للتصدى لما أسماه” غزو” القوات الأممية. غنى عن القول، أن ذلك الموقف لم يغّير فى الأمر شيئاً وأضطرت الحكومة السودانية صاغرة، أن تقبل بدخول القوات الأممية. غير أننا نقول أن حجم الإقليم الذى يساوى مساحة جمهورية فرنسا، وعدد سكانه الذى يفوق السبع ملايين، ووعورة طبيعته، وإنعدام الأمن فى معظم نواحيه، يجعل من الصعوبة على القوات الدولية حماية المدنيين من الإشتباكات إلتى تحدث، وما زالت، بين القوات الحكومية والمليشيات التابعة لها والفصائل المسلحة، وظواهر قطع الطريق والنهب المسلح الذى لا مناص منه فى ظل الظروف السائدة فى ذلك الإقليم. الإحالة إلى محكمة الجنايات الدولية:- إبان ذلك صدر تقرير اللجنة الدولية لتقصى الحقائق، إلتى كونها مجلس الأمن ،الذى أكد أن الإنتهاكات سالفة الذكر قد وقعت من جانب رجال القوات المسلحة الحكومية، وقوات الأمن، والمليشيات المساندة للحكومة (الجنجويد). أوصت اللجنة بتحويل ملف الجرائم المرتكبة فى الإقليم إلى المحكمة الجنائية الدولية. بناء على ذلك أصدر مجلس الأمن قراره رقم 1593 لسنة 2005 الذى قضى بتقديم المتورطين فى الجرائم المذكورة إلى محكمة الجنايات الدولية بلاهاى. بناء على ذلك القرار قام المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية، موريس مارينو أوكامبو، بتولى تحقيقه المستقل وجمع المعلومات عن الإنتهاكات عن الضحايا وذويهم من مختلف المصادر، وصولاً إلى تقديم إتهامات عديدة تشكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد عدد من كبار المسؤولين الرسميين، بمن فبهم رئيس الجمهورية، الذى يواجه إيضاً تهمة الإبادة الجماعية.كما إستصدر المدعى العام أوامر من المحكمة بالقبض على المتهمين وأحضارهم أمام المحكمة، فى أول سابقة فى التاريخ يواجه فيها رئيس جمهورية أمراً بالقبض عليه وأحضاره أمام المحكمة ليواجه تلك التهم. جدير بالذكر فى هذا الصدد أن الحكومة السودانية أخفقت تماماً فى توجيه أى إتهام لمنسوبيها فى القوات المسلحة، وجهاز الأمن، والمسؤولين السياسيين، أو المليشيات الموالية للنظام الحاكم للمسألة والعقاب. فعلى مدى سنوات النزاع، وسعياً لمواجهة الحملة الدولية تجاه تلك الممارسات الإجرامية، قامت الحكومة بتكوين عدد من المحاكم الخاصة، وتعيين عدد من المدعين العامين، كما قامت فى العام 2009 بتعديل القانون الجنائى السودانى لسنة 1991 ليشمل الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، إلتى كان القانون المذكور قد خلا منها تماماً آنذاك.غير أن تلك الخطوات لم تنطل على أحد ولم تعدو أن تكون ذراً للرماد فى العيون، وذرائع لتظهر للعالم أنها تقوم بواجبها فى تطبيق العدالة ومحاسبة المسؤولين عن الإنتهاكات الجسيمة للقوانين المذكورة. غير أنها، وبعد إندلاع النزاع قبل ما يقارب العشر سنوات، لم تقدم أى شخص للمسألة أمام تلك المحاكم أو حتى أخضاعها للتحقيق أمام النيابة. على الرغم من إخفاق السلطات السودانية الإقليمية والمركزية فى محاسبة ومسألة، ناهيك عن فرض أية عقوبات على، مرتكبى الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، إلتى تضمنتها تقارير المنظمات الدولية والإقليمية والوطنية كما أسلف القول، بما فى ذلك لجنتى تقصى الحقائق الوطنية والدولية، ظلت الحكومة السودانية تكابر وتستنكر قرار مجلس الأمن رقم 1593 بإحالة ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، وما صدر عن تلك المحكمة من إتهامات وقرارات إيقاف بحق بعض كبار المسؤولين السودانيين. من باب المزايدات السياسية حرصت السلطات السودانية على إستنكار ورفض صدور تلك القرارات وعلى توجيه هجوم متواصل على المحكمة الدولية متهمة أياها بأنها صنيعة إستعمارية وصهيونية شكلت فى سياق تآمر دولى لإستهداف مقدرات الدول النامية، خاصة إفريقيا، من منطلق أن أعمال المحكمة إنحصرت حتى الآن فى أوغندا والكونغو وإفريقيا الوسطى ثم السودان فكينيا. كما سعت الحكومة إلى ألهاب مشاعر السودانيين ضد المحكمة أيضاً تحت دعاوى أنها، المحكمة، ومن ورائها الصليبيين والصهاينة وتستهدف التوجه ” الإسلامى” للحكومة السودانية إلتى تدعى أنها تتبنى برنامج حكم يهدف لتطبيق الشريعة الإسلامية! كما أستهدف الإعلام الرسمى الحقوقيين وناشطى حقوق الإنسان السودانيين المساندين للعدالة الجنائية الدولية، بوصفهم بالعملاء للغرب، والطابور الخامس ، والمعادين لتطبيق شرع الله …هكذا ؟ أما على الصعيد القانونى، تزعم الحكومة أن المحكمة لا تملك أى أختصاص بالنظر فى الملف السودانى، وأن الحكومة، من هذا المنطلق، لن تتعاون معها أو المدعى العام. حجة الحكومة فى ذلك أنها، برغم توقيعها على النظام الأساسى فى العام 2000 ،فهى لم تصادق عليه. وبالتالى ليست طرفاً فيه، ما يحول، حسب حجة الحكومة، دون أن يكون للمحكمة أى إختصاص للنظر فى الإنتهاكات المزعومة ضد السودان. لا جدال فى أن موقف الحكومة هذا يفتقر إلى السند القانونى. فالحكومة تدرك تماماً، أو ينبغى ان تدرك،( وهى الموقعه على النظام الأساسى) ان إختصاص المحكمة الجنائية الدولية ينعقد فى ثلاث حالات:- نص الفقرة (ب) أعلاه واضح كما الشمس. كما سبق أن أوضحنا، أن مجلس الأمن قد أصدر القرار 1593 لسنة 2005 لإحالة ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية بموجب الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة ، ولا مجال فى ضوء النص المذكور اعلاه الإحتجاج بعدم صحة الإحالة إلى المحكمة من منطلق أن السودان ليس طرفاً فى النظام الأساسى لعدم تصديقه عليه. عليه تبقى قرارات المحكمة بالنسبة لتوجيه التهم المذكورة وبالنسبة لإيقاف المسؤولين المذكورين قرارات ملزمة وجب الإمتثال لها. ثمة قواعد آخرى فى النظام الأساسى للمحكمة الجنائية لغرض دحض الدعاوى السودانية فى الإعتراض على سلطات المحكمة الدولية. يدعى بعض السودانيين، منهم حقوقيون، أن كبار المسؤولين الرسميين، خاصة رئيس الجمهورية يتمتعون بحصانة دستورية، وأنه لا يجوز مساءلتهم أو مثولهم أمام القضاء عما يقومون به من أفعال. هذه القواعد تشمل:– أولاً:- بموجب المادة (27) من النظام الأساسى للمحكمة يطبق النظام على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون إعتداد بالصفة الرسمية وبوجه خاص، فإن الصفة الرسمية للشخص، سواء كان رئيساً لدولة أو حكومة أو عضواً فى حكومة أو برلمان أو ممثلاً أو منتخباً،أو موظفاً حكومياً، لا تعفيه بأى حال من المسؤولية الجنائية، كما أنها لا تشكل فى حد ذاتها سبباً لتخفيف العقوبة، كما أن الحصانات والقواعد الإجرائية الخاصة المرتبطة بالصفة الرسمية للشخص سواء كانت فى إطار القانون الوطنى أو الدولى لا تحول دون ممارسة المحكمة إختصاصها على هذا الشخص. ثانياً:- بموجب المادة(28) من النظام الأساسى يكون القائد العسكرى أو الشخص القائم فعلاً بأعمال القائد العسكرى مسؤولاً مسؤولية جنائية عن الجرائم إلتى تدخل فى إختصاص المحكمة والمرتكبة من جانب قوات تخضع لأمرته وسيطرته الفعلية، إذا كان قد علم أو يفترض أن يكون قد علم أن القوات قد أرتكبت، أو تكون على وشك أرتكاب، تلك الجرائم، ولم يتخذ التدابير اللازمة لمنع وقوعها. ثالثاً:-بموجب المادة(29)من النظام الأساسى لا تسقط الجرائم إلتى تدخل فى إختصاص المحكمة بالتقادم. آفاق الخروج من الأزمة:- كما أسلف القول، لا تزال الأوضاع السياسية والإجتماعية والإقتصادية تراوح مكانها من حيث الوصول إلى تسوية عادلة لأسباب النزاع تمكن الفصائل المسلحة من وقف الأحتراب والعودة لديارهم وأهليهم، وتمكن اللاجئين والنازحين من العودة إلى قراهم، بعد إعادة بنائها، وإلى أعمالهم التجارية والزراعية والرعوية، وإلى تكوين السلطات السياسية والإدارية والعدلية والأمنية لإدارة دفة شؤون الإقليم. فيما تقدم،سعينا لتوضيح الأوضاع الخاصة بقرار مجلس الأمن رقم 1593 بإحالة الملف الدارفورى إلى محكمة الجنايات الدولية، وما أتخذته المحكمة من قرارات بإتهام وأوامر إيقاف بحق عدد من المسؤولين فى الحكومة، كما الفصائل المعارضة. نكرر، لنقول أن قرار مجلس الأمن بالإحالة إلى المحكمة الدولية قرار ملزم لدى الحكومة السودانية، وكذا قرارات المحكمة الجنائية إلتى صدرت سلفاً، وإلتى لا محال سوف تصدر بحق آخرين من طرفى النزاع بشأن الإنتهاكات الجسيمة المخالفة للقانون الإنسانى. وكما تقدم، لا نرى من جدوى فى المكابرة أو المزايدة السياسية ومحاولات الطعن فى مشروعية تلك القرارات. غير اننا نرى ضرورة الإشارة إلى أن السبيل الأوحد للخروج من تلك المواجهه مع المحكمة الجنائية ربما (نقول ربما ) هو السعى لتأجيل النظر فى الدعاوى الجنائية أمام المحكمة بأعمال نص المادة (16) من النظام الأساسى للمحكمة إلتى تقول:- ” لا يجوز البدء فى اى تحقيق أو مقاضاة بموجب هذا النظام الأساسى لمدة أثنى عشر شهراً بناء على طلب من مجلس الأمن إلى المحكمة بهذا المعنى يتضمن قرار يصدر من المجلس بموجب الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة ويجوز للمجلس تجديد هذا الطلب بالشروط ذاتها”. نرى ان نصوص هذه المادة، على الرغم من ان الفقه القانونى الدولى لم يضع لها تفسيراً محدداً، أو يضع أشراط لتطبيقها، ولم يحدث أن قام مجلس الأمن، إبان تاريخ المحكمة القصير، بأن يطلب من المحكمة تأجيل النظر فى أية دعوى تطبيقاً لتلك المادة. لكنا نجتهد، فنقول أن قد قصد منها أن تطبق فى الحالات إلى يرى فيها مجلس الأمن ان الموازنة بين مواصلة التحقيق أو المحاكمة من جانب، ومقتضيات إحقاق السلام أو الإستقرار السياسى،من الجانب الآخر، قد تقتضى التريث فى محاكمة ومعاقبة المسؤولين فى بلد ما طالما كان اولئك المسؤولين على رأس السلطة السياسية، ويتحكمون فى مصائر شعوبهم. غير أن هذا لا يعنى بالمطلق مداهنة أولئك المسؤولين أو منحهم صكوك غفران، أو تبرئة ساحتهم مما نسب أو ما قد ينسب إليهم من إتهامات بإرتكاب الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بمخالفة القانون. فى رأينا، أن جواز طلب مجلس الأمن من المحكمة الجنائية تأجيل النظر أو البت فى دعاوى معينة ضد بعض الحكام، فى اجواء إستمرار النزاعات المسلحة وأرتكاب الإنتهاكات الجسيمة لحقوق المواطنين، ربما يتيح فرصة ، ربما تكون غير مواتية فى حال بدء أو إستمرار نظر الدعاوى أمام المحكمة، للوصول إلى تسويات سلمية بموجب تطبيق مبادىء العدالة الإنتقالية والتحول الديمقراطى إلتى طبقت فى عدد من بلدان امريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا والمغرب وتيمور الشرقية وسيراليون فى الآونة الآخيرة. تلك المبادىء إلتى اتبعت فى الدول المذكورة تختلف بإختلاف الأوضاع السارية، أو إلتى كانت سائدة فى هذا البلد او ذاك، لكنها جميعاً تتضمن بصفة عامة أسس وقواعد الإستقرار اللازمة من إحقاق للسلام ووقف الإحتراب بين الحكومة والفصائل إلتى تحمل السلاح فى المشاركة فى السلطة والثروة، مبادىء الحكم الراشد، سيادة حكم القانون، وإحترام حقوق الإنسان، الإنتصار للضحايا بالإعتذار والتعويض المادى والمعنوى العادلة، محاسبة منتهكى حقوق الإنسان امام القضاء الوطنى، أو العفو عنهم، بحسب الأحوال، كل هذا بموجب قوانين عادلة يتفق عليها تكفل مستقبل السلام والعدالة والإستقرار. توفر هذه المقتضيات بما يحقق أمانى وأحلام المواطنين بصفة قد يثير جدوى طرح الأمن على مجلس الأمن ليطلب من المحكمة الجنائية إرجاء النظر فى التحقيقات أو المحاكمات لتحقيق الغايات المنشودة، هذا، علماً بأن طلب الإرجاء قد يكون لفترة عام واحد قابلة للتجديد إلى ما لانهاية بحسب تطور الأوضاع فى البلد المعنى. نختم، فنقول أن قانونية الإجراءات الماثلة اليوم أمام المحكمة الجنائية الدولية فيما يخص أزمة النزاع المسلح فى دارفور أمر لا جدال حوله، ونقول أن الحكومة السودانية لا خيارات لها سوى أحد أثنين:- - أما الإمتثال لقرارات مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية بمثول المتهمين أمامها للدفاع عن أنفسهم وتبرئة ساحاتهم من التهم الموجهه إليهم، حسب دعواهم. - أو إنتهاج الخيار إلتى تتيحه المادة (16) من النظام الأساسى للمحكمة، شريطة السير فى طريق السلام العادل والتحول الديمقراطى وبسط سيادة حكم القانون وإحترام حقوق الإنسان وفق مقتضيات العدالة الإنتقالية، فلربما نجحت جهود الحكام الحاليين فى إقناع المجتمع الدولى، من خلال مجلس الأمن، بتأجيل التحقيقات والمحاكمات من عام لآخر بما لا نهاية،وإلا فسيف العدالة سيظل هو الأسبق. لا نرى سبيلاً سوى ذلك للخروج من أزمة دارفور. د. أمين مكى مدنى يونيو 2012