عام على الحرب فى السودان.. لا غالب ولا مغلوب    يمضي بخطوات واثقة في البناء..كواسي أبياه يعمل بإجتهاد لبناء منتخبين على مستوى عال    الخطوة التالية    السيارات الكهربائية.. والتنافس القادم!    واشنطن توافق على سحب قواتها من النيجر    اللواء 43مشاة باروما يكرم المتفوقين بشهادة الاساس بالمحلية    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    سوق الابيض يصدر اكثر من عشرين الف طنا من المحاصيل    الأكاديمية خطوة في الطريق الصحيح    شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إذا عُرفَ السَّبَبْ ..!
نشر في حريات يوم 28 - 06 - 2012


بقلم/ كمال الجزولي
لا يبدو أنَّ لدى حكومة السُّودان ما تدفع به اتهامها بارتكاب تجاوزات في أيِّ نزاع داخليٍّ مسلح، في أيَّة منطقة، خصوصاً ضدَّ المدنيين، غير اجترار ذات الدفوع التي لطالما ظلت تجابه بها نفس الاتهامات في دارفور منذ اندلاع حريقها الهائل قبل عقد من الزَّمان! ففي أغسطس 2011م، مثلاً، أصدرت مفوَّضيَّة حقوق الإنسان بجنيف تقريراً عمَّا اعتبرته “جرائم حرب” و”جرائم ضد الإنسانيَّة” قالت إنها ارتكبت بجنوب كردفان، مِن الخامس إلى الثلاثين من يونيو 2011م، خلال مواجهات الجيش السُّوداني والجيش الشَّعبي، شاملة “إعدامات خارج القضاء”، و”نهب وتدمير ممتلكات”، و”قصف جويٍّ لمدنيين”، و”احتجازات غير قانونيَّة”، و”اختفاءات قسريَّة”، و”توقيفات جزافيَّة” .. الخ (وكالات؛ 16/8/2011م)، ووصفت المفوَّضيَّة تلك الجرائم بأنها “.. خطيرة إلى حدٍّ بات فيه من الضروري فتح تحقيق مستقل ومعمق وموضوعي بهدف محاسبة مرتكبيها” (الاتحاد الإماراتيَّة؛ 17/8/2011م). غير أن الحكومة، تماماً كما في شأن دارفور، سارعت إلى دمغ التقرير، في تصريح عاصف لناطق خارجيَّتها الرَّسمي، ب “المزايدة”، و”المغالطة”، و”الغرض”، و”فقدان السَّند”، و”مناصرة التَّمرُّد”، و”تجاوز الحقائق”، و”الافتقار إلى الأدلة”، و”الضغط على السُّودان” (المصدر). مع ذلك كله انقلب بشارة دوسة، وزير العدل، ليقرَّ، على نحو ما، بوقوع التجاوزات موضوع الاتهامات، وإن كان بالتواء في التعبير يتسق والارتباكات الحكوميَّة المعهودة في مثل هذه الحالات، حيث أعلن عن “تكوين لجنة لتقييم أوضاع حقوق الإنسان والقانون الدَّولي الإنساني في جنوب كردفان!” (رويترز؛ 17/8/2011م). لكن، كالعادة، لم يعُد أحد يسمع، من يومها، شيئاً عن تلك اللجنة، رغم تصرُّم قرابة العام على تكوينها!
(1)
لم يكن مستغرباً، إذن، بسبب تطابق “عدم جدِّيَّة” الحكومة بشأن تصفية المظالم في كلا حالتي دارفور وجنوب كردفان، أن يجئ قرار دوسة بتكوين لجنة جنوب كردفان، ثم إهمالها لقرابة العام، متزامناً مع قراره الآخر بتكليف وكيل وزارته عصام الزّين مدَّعياً عامَّاً لدارفور، خلفاً لعبد الدائم زمراوي.
ولئن كان “عدم الجِّدِّيَّة” هذا واضحاً بنفسه في حالة لجنة جنوب كردفان، فإنه قد يحتاج إلى شئ من الإضاءة في حالة المدَّعين العامِّين لدارفور، خصوصاً وقد اقترن تكليفهم، ظاهريَّاً، بصلاحيات واسعة، حتى لقد قيل، مثلاً، عند تكليف زمراوي في سبتمبر 2010م، وهو، بعدُ، وكيل الوزارة، إن المقصود من ذلك إكساب منصب المدَّعي العام للإقليم قيمة مضافة! غير أن الرجل ما لبث، في مايو 2011م، أن استقال من جميع مناصبه، بما فيها منصب وكيل الوزارة، دون أن يفصح عن سبب واحد لذلك!
بالمثل اقترن تكليف الزين الذي خلف زمراوي باختصاصات واسعة بالتحقيق، والتحري، وتمثيل الاتهام في “الجَّرائم ضدَّ الإنسانيَّة”، و”جرائم الحرب”، و”الإبادة الجماعيَّة” (الأحداث؛ 17/8/2011م). لكن الزّين، أيضاً، لم يكد يكمل ستة أشهر حتى أعفي مطلع العام 2012م!
لم يكن زمراوي والزين أول ولا آخر مدَّعيين عامَّين يعينان لدارفور. فقبل تكليف زمراوي عام 2010م، كُلف، عام 2008م، نمر إبراهيم الذي يبدو أنه “توهَّم” جديَّة التكليف، وأحسن الظنَّ به، فأقدم على إصدار أمره باعتقال علي كوشيب، القائد الجنجويدي المعروف، والمطلوب لدى المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة برفقة الوزير سابقاً، ووالي جنوب كردفان حالياً، أحمد هارون! ومع أن ذلك الإجراء لم يسفر عن شئ ذي بال، إلا أن نمراً ما لبث أن أعفي عام 2010م، وأشيع، في تبرير إعفائه، أنه عجز عن التحقيق في أحداث سوق تبرا بشمال دارفور! ثمَّ تزامن مع إعفاء الزّين، في يناير 2011م تكليف احمد عبد المطلب، لكنه تقدَّم، على غرار زمراوي، باستقالته من جميع مناصبه، بما فيها منصب وكيل الوزارة، وذلك في 11/6/2012، رافضاً، بدوره، الإفصاح عمَّا عساه يكون السَّبب (السُّوداني؛ 12/6/2012).
أخيراً، وفي الغالب ليس آخراً، ها هي الأنباء تحمل تعيين كبير المستشارين بالديوان، ياسر احمد محمد، مدعياً عامَّاً لدارفور خلفاً لعبد المطلب (الرأي العام؛ 20/6/2012)! ومن عجب أن ياسراً أدلى، فور تعيينه، بتصريحات مغرقة في التفاؤل والحماس، منوِّهاً بوسع المهام والاختصاصات التي منحها إيَّاه قرار التعيين، دون أن يكشف عن السر الذي سيجعله ينجح، وحده، في ما فشل فيه الآخرون!
(2)
مهما يكن من أمر فإننا نلحظ، من واقع الأحداث والتواريخ أعلاه، مسألتين لافتتين بإلحاح: الأولى أن أربعة مدَّعين عامِّين لجرائم دارفور تعاقبوا على المنصب خلال ما لا يزيد على أربع سنوات، قبل أن يُعيَّن خامسهم، بل إن بعضهم لم يبق في المنصب غير أشهر معدودات! أما المسألة الثانية فهي أن مَنْ لم يستقل مِن أولئك الأربعة .. أقيل!
إلى ذلك، أيضاً، تثير الانتباه حقيقة إضافيَّة غاية في الأهمِّيَّة، وهي الشَّبه الذي يكاد لا يخفى بين موقفي الحكومة إزاء الأوضاع في كل من جنوب كردفان ودارفور، من زاويتين أساسيَّتين:
فمن الزَّاوية الأولى ظلت الحكومة تجد نفسها، في كل الأحوال وليس في حالة جنوب كردفان فحسب، عاجزة عن الرَّدِّ المقنع على تقارير المنظمات الدولية، فتلجأ، من ثمَّ، إلى ذمِّ سنسفيل جدود هذه المنظمات، ورميها ب “المزايدة”، و”المغالطة”، و”الغرض”، و”فقدان السَّند” .. الخ؛ مثلما تلجأ، حيال التجاوزات التي لا تستطيع إنكارها على الأرض، إلى التَّمحُّك بأساليب المطل، والإرجاء، والتَّسويف، والتَّخدير، وذرِّ الرَّماد في العيون، واللعب على الذَّاكرة الخربة، فما تنفكُّ تملأ الدُّنيا ضجيجاً وعجيجاً عن اعتزامها إجراء التحقيقات، وإنفاذ العدالة، بينما هي غارقة، حتى أسنانها، في أساليب المراوغة، اعتقاداً ساذجاً منها بكفايتها لخداع الرأي العام الدَّاخلي والخارجي! وما أكثر ما رُصد لها من سوابق لهذا النَّهج في حالة دارفور، حتى لقد غضَّت الطرف، عياناً بياناً، عن المرتكبين الحقيقيين، هناك، لأشدِّ الجَّرائم خطورة بالمعايير الدَّوليَّة، وأسبغت عليهم حمايتها السِّياسيَّة، بينما سعت لشغل الإعلام بمحاكمات قطاع الطرق، ونهَّابي الماشية، ومختطفي عناصر المنظمات الأجنبيَّة وسيَّاراتهم، ممَّا اضطر حتى بعض كبار منسوبي النظام من الصَّحفيين للاعتراف الجَّهير بأن “الحكومة .. هوايتها المراوغة .. وما تمثيليَّات القبض على قطاع الطرق باعتبارهم جنجويد ومحاكمتهم بتلك الطريقة المضحكة إلا نموذجاً لنوعيَّة تلك الألاعيب الصَّغيرة التي لم تُجدِ، وأفقدت النظام مصداقيَّته” (عادل الباز الصَّحافة؛ 15/12/2005م).
أمَّا من الزَّاوية الأخرى فيمكننا أن نلمح، بيسر، تطابق “عدم الجِّدِّيَّة” في تكوين لجنة دوسة، العام الماضي، للتحقيق بجنوب كردفان، ثمَّ تجاهلها تماماً، مع “عدم الجِّدِّيَّة” في تكوين لجنة رئيس الجُّمهوريَّة، عام 2004م، برئاسة رئيس القضاء الأسبق دفع الله الحاج يوسف، للتحقيق في جرائم دارفور، ثمَّ التَّعامل مع توصياتها بما يهدر النتيجة المرجوَّة، نظريَّاً، منها، رغم تزامنها، تقريباً، مع اللجنة الدَّوليَّة التي كوَّنها مجلس الأمن، عام 2005م، لنفس الغرض، برئاسة القاضي الإيطالي أنطونيو كاسيسي، وقام المجلس، بناءً على توصياتها، بإحالة ملف دارفور إلى المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، بموجب القرار رقم/1593 بتاريخ 31/3/2005.
(3)
سبق تعيين المُدَّعين العامِّين الذين تعاقبوا على دارفور، كما قد رأينا، أن أسندت الترويجات الحكوميَّة إلى لجنة دفع الله تلك إصدار رئيس القضاء، بناء على مخرجاتها، أوامر تأسيس وتشكيل لثلاث محاكم في الإقليم، برئاسة ثلاثة من قضاة المحكمة العليا الاتحاديَّة: محمود أبكم بالفاشر في يونيو 2005م، وجار النبى قسم السيد بنيالا وأحمد أبو زيد بالجنينة في نوفمبر 2005م؛ فهل كان شئ من ذلك كله، حقاً، كذلك؟! يعني .. هل جاء تشكيل تلك المحاكم، من ناحية، كاستجابة فعليَّة لاحتياج عدليٍّ مُلِحٍّ؟! وهل توفرت العوامل اللازمة لتؤدي وظيفتها المطلوبة بجدِّيَّة؟! وهل كان يُتوقع، من ناحية أخرى، أن يؤدي أيٌّ من مُدَّعي دارفور الأربعة السابقين، قبل أن يستقيل مِنهم مَنْ استقال، أو يقال مَنْ أقيل، أو يُنتظر، الآن، أن يؤدي خامسهم الذي جرى تعيينه مؤخراً، أيَّ عمل مثمر بالنظر للظروف المحيطة؟! أم أن تكوين تلك المحاكم، وتعيين أولئك المُدَّعين العامِّين، وقع، أجمعه، كمحض ذرٍّ للرماد في العيون، وخداع للرأي العام في الداخل والخارج؟!
للإجابة على جملة هذه التَّساؤلات لا بُدَّ أن نأخذ في الاعتبار، أولاً، أن نزاع الإقليم المنكوب قد انفجر في 2003م، وليس في 2005م، تاريخ تكوين وتشكيل المحاكم المشار إليها، أو 2008م، تاريخ ابتداء تعيين المُدَّعين العامِّين للإقليم! وثانياً، على حين جرى، وفق بروباغاندا محمومة، تصوير تلك المحاكم، وما تبعها من تعيينات للمُدَّعين العامِّين، كاستجابة جادَّة لمقتضيات العدل وحكم القانون، فإنها لم تكن، في حقيقتها، سوى محاكم خاصة مؤقتة Ad Hoc Tribunals، كُلفت، وما تبعها من مدَّعين عامِّين، في عقابيل إحالة مجلس الأمن ملف دارفور إلى المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، كمحاولة من النظام، في ملابسات تنازعه الاختصاص مع هذه المحكمة، لسدِّ ذرائع “المزاعم” التي ساقها مدَّعيها العام عن عدم “قدرة” هذا النِّظام على، أو “رغبته” في، تعقب الجُناة ومحاكمتهم، علماً بأن المحاكم لا تنشأ، في الأصل، لمثل هذا “الإفحام”، بل لتصريف العدالة بقضاء طبيعي، مقتدر، ودائم. وربما كان من الملائم، هنا، التنويه بالنَّقد المرير الذي ساقته لجنة كاسيوسي في تقريرها، ليس فقط للنِّظام القضائي السُّوداني الذي اعتبرته مفتقراً للاستقلاليَّة والصدقيَّة والإرادة الكافية، بل، أيضاً، لمنظومة القوانين السودانيَّة نفسها، كونها قاصرة عن الإحاطة بعناصر القانون الجَّنائي الدَّولي، ك “جرائم الحرب” و”الجَّرائم ضدَّ الإنسانيَّة”، فضلاً عن كونها مثقلة بالحصانات وأوضاع التَّقادم المسقط للدَّعاوى.
صحيح أنَّ أحداً لا يستطيع أن يماري في أنَّ القوانين السُّودانيَّة تعاقب على القتل، والاغتصاب، والنَّهب، والإتلاف، والتَّعذيب، وإساءة سلطة الاعتقال، وغيرها؛ لكن صحيح، أيضاً، أنَّ أحداً لا يستطيع أن يماري في أنَّ هذه القوانين إنَّما تعاقب على هذه الجَّرائم بوصفها ترتكب في ظروف عاديَّة، ولدوافع عاديَّة، وليس باعتبارها “أشدَّ الجَّرائم خطورة” بمعيار القانون الجنائي “الدَّولي”، إلا إذا اعتبرنا، مثلاً، أن “القتل” ثأراً لشرف، أو “الاغتصاب” إطفاء لشهوة جنسيَّة، هما من الجَّرائم “الأشدِّ خطورة في موضع الاهتمام الدَّولي”، بحيث يتساويان و”القتل” و”الاغتصاب” اللذين يمارسان على نطاق واسع، وبصورة منهجيَّة، أثناء حرب دوليَّة، أو نزاع داخليٍّ مسلح، بغرض التَّصفية المادِّيَّة للخصوم، أو إلحاق أكبر قدر من الهزيمة والكسر المعنويَّين بهم!
ضف إلى ذلك اكتظاظ القوانين السُّودانيَّة، فعلاً لا قولاً، بنصوص تسقط الحقَّ في رفع الدَّعاوى للتَّقادم، ونصوص أخرى توفر أوسع الحصانات لأعضاء الجِّهاز التنفيذي، وفي مقدمة ذلك قانون قوَّات الأمن الوطني السَّابق لسنة 1999م، والحالي لسنة 2010م، فضلاً عن قوانين القوَّات المسلحة والشُّرطة.
لقد صدر، فى 10/4/2005، أمران جمهوريَّان مؤقتان بتعديلين جوهريين: أوَّلهما على قانون الإجراءات الجَّنائيَّة لسنة 1991م، وثانيهما على قانون قوَّات الشَّعب المسلحة لسنة 1986م، وقد انصبَّ كلاهما على تحصين أعضاء المؤسَّستين ضدَّ المسئوليَّة الجنائيَّة التي يمكن أن تنشأ جرَّاء ارتكابهم حتى أفعال (القتل العمد)، دَعْ (التعذيب)، وتمكينهم، بالتالي، من الإفلات من العقاب impunity، بحيث لا تستوجب أفعالهم تلك، في أسوأ الاحتمالات، سوى (التَّعويض) أو (الدِّية)! وحتى هذه لا يقع عبء سدادها عليهم، وإنما تتكفل به الدَّولة! ومع أن التَّعديلين سقطا لعدم إجازتهما في دورة المجلس الوطني التالية؛ إلا أن الحصانات التي تشكل موضوعهما أدرجت، لاحقاً، ضمن (قانون قوَّات الشَّعب المسلحة لسنة 2007م)، و(قانون شرطة السُّودان لسنة 2008م).
(4)
وإذن، فمحاكم دارفور الخاصَّة، ومن بعدها مكاتب المُدَّعين العامِّين بالإقليم، أنشئت، نظريَّاً، للتحقيق في، ومحاكمة، جرائم دوليَّة، لكنها كُبِّلت، تماماً، بقوانين تفتقر، عمليَّاً، إلى عناصر القانون الجَّنائي الدَّولي، فضلاً عن تكبيلها بأوضاع التَّقادم المسقط للدَّعاوى الجنائيَّة، وبالحصانات الواسعة للأشخاص ذوي السُّلطة؛ فمَن ذا الذي يستطيع، والحال كذلك، أن يتصوَّر، عقلاً، إمكانيَّة اقتدار أيٍّ من تلك المحاكم، أو أولئك المُدَّعين العامِّين، على القيام ولو بالحدِّ الأدنى من المهام التي أوكلت إليهم؟!
إن عناصر القانون الجَّنائي الدَّولي لم تُضمَّن في القانون الجَّنائي السُّوداني إلا في العام 2009م، ومعلوم أنه ليس ثمَّة سبيل لتطبيقها بأثر رجعيٍّ يغطي السَّنوات من 2003م إلى 2009م! ولعل ذلك هو بعض ما حدا بتابو مبيكي، مبعوث الاتحاد الأفريقي، لاقتراح المحاكم المختلطة، كحل توفيقي بين رفض الحكومة للمحكمة الجَّنائية الدَّوليَّة وعجز القضاء السُّوداني عن التصدي للجرائم التي وقعت في دارفور منذ العام 2003م! وحتى بافتراض ملائمة القانون السُّوداني، جدلاً، لمحاكمة تلك الجَّرائم، فإنَّ القضاة لا يملكون سلطة فتح البلاغات، وتأسيس الدعاوى، وتحريك الإجراءات الجَّنائيَّة، فذلك ليس من اختصاصهم، بل هو، في الأصل، من اختصاص وكلاء النيابات والمُدَّعين العامِّين. لكن هؤلاء يُعتبرون، جميعاً، جزءاً لا يتجزَّأ من الجِّهاز التَّنفيذي، فليس أمام أيٍّ منهم، بمن فيهم كبير المستشارين ياسر الذي عُيِّن الأسبوع الماضي، سوى أحد ثلاثة خيارات لا رابع لها: فإما أن يأتمر بسياسات وتوجيهات هذا الجِّهاز الذي ليس من أولويَّات وظيفته نصب ميزان العدالة، أو أن يبادر بتقديم استقالته من الخدمة، أو أن ينتظر إقالته منها! وكمثال لهذه الوضعيَّة المأزومة، سبق أن أصدر المُدَّعي العام لجُمهوريَّة السُّودان أمراً بإعادة فتح التحقيق مع الوزير هارون بناء على معلومات استجدَّت، لكن رئيس الجُّمهوريَّة سارع إلى إسباغ حمايته عليه، وقطع، في ما يشبه التَّحدِّي، على رءوس الأشهاد، بأن “هارون لن يخضع لأيِّ تحقيق!” (السُّوداني؛ 26/3/2007م). والأدهى أن وزير العدل، بدلاً من إسناد ظهر مدَّعيه العام أو تقديم استقالته، جاهر بإعلان انحيازه إلى قرار رئيس الجُّمهوريَّة (الصَّحافة؛ 4/5/2007م).
(5)
ممَّا تقدَّم يتَّضح أنَّ إنفاذ العدالة في جنوب كردفان أو في أيِّ مكان آخر، كالنيل الأزرق حسب أقوى التوقعات، لن يكون أوفر حظاً من إنفاذها في دارفور؛ لأنَّ أهمَّ أسباب فشل محاكم دارفور الخاصَّة، ومن بعدها فشل مُدَّعي الإقليم العامِّين، إنما تكمن، بالأساس، في كونهم كُلفوا، أجمعهم، بمهام لم تتوفر لهم أبسط معينات أدائها، لا من جهة تشريع القانون الجَّنائي الدَّولي واجب التطبيق، ولا من جهة إزالة المعيقات التي من شأنها أن تحول دون تصريف العدالة بجديَّة، من سنخ الحصانات والتقادم .. “ألقاهُ في اليَمِّ مكتوفاً .. الخ”! فهل، ترى، ثمَّة حاجة، والأمر كذلك، لأن يفصح زمراوي أو عبد المطلب عن أسباب استقالتيهما، أو لأن يصرِّح نمر أو الزين بأسباب إقالتيهما، أو لأن نوضح دوافع توقعنا لفشل ياسر الذي تمَّ تعيينه حديثاً، أو لأن يكشف قضاة دارفور عن أسباب عجزهم عن محاكمة الجَّرائم المرتكبة في الإقليم ما بين 2003 2009م؟! هل ثمَّة حاجة، بالحقِّ، لذلك، بينما عوامل القصور كلها تطلُّ ساطعة، تمدُّ لسانها، ليس في التَّشريعات فحسب، بل وفي الإرادة السِّياسيَّة ذاتها للنِّظام الذي ما ينفكُّ يعلق إخفاقاته على مشجب التآمر الخارجي، ولا يبدي أدنى استعداد لإصلاح نهجه إزاء أزماته الدَّاخليَّة، مواصلاً شنَّ حربه المقدَّسة على المجتمع الدَّولي في القرن الحادي والعشرين .. بسيوف العُشَر؟!
***


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.