قرر ( عين ) ، وكان عاملاً بالسكة حديد قبل أن تحطمها الإنقاذ علي يد المدعو محمد الحسن الأمين ، أن يرحل من الثورة الحارة كذا رغم معقولية الإيجار آنذاك ( في الثمانينات ) والكهرباء المجانية التي كان يتبرع له بها صاحب البيت . وعندما جلست إليه محاولاً إقناعه بالعدول عن الفكرة ، قال لي أنه لم يحتمل نظرة الحرمان في عيون أطفاله وهم يشاهدون جارهم في المنزل المقابل لبيتهم ( وكان من سدنة مايو ) وهو يذبح خروفاً أو عجلاً كل جمعة بدون مناسبة ، بينما لا يستطيع هو سوي تدبير ربع كيلو لحمة كل يومين من أجل ( الحلة ) الروتينية التي تتزاحم عليها العائلة الفقيرة . وكان ربع الكيلو آنذاك أصغر وحدة وزن في مجال الجزارة باستثناء كوم المرارة . بعد 27 عاماً علي قصة صاحبنا الذي رحل دون تردد إلي ( زقلونا) أو طردونا أو جبرونا ، أصبح الفقراء في بلادنا يشترون اللحمة علي نظام ( المس كول ) وهو ( نص ربع ) يعني الكيلو مقسوماً علي ثمانية يعني حوالي أربعة قطع صغيرة من اللحمة يمكن رميها في جردل موية مع بصلة واحدة بي واحد جنيه من أجل الاستمتاع بسخينة بنكهة اللحمة . وظهر هذا المس كول بعد أن صار كيلو اللحمة البقري بمبلغ 40 جنيه سوداني بينما الماشية سودانية تأكل القصب السوداني وتشرب من الحفاير السودانية وتهاجر من نيالا ( ست المظاهرات ) إلي الخرطوم سيراً علي الأقدام ( يعني الكوارع ) . أسياد البهايم يدفعون للحكومات المتعددة في الولايات رسوم وعشور ، وتؤخذ منهم الزكاة ولو علي بقرة واحدة ، وداخل الزرائب يدفعون رسوم خدمات دون أن تحصل بهائمهم علي أي خدمة ، ولو أراد ( سيد البهيمة ) أن ياكل سلطة بي زيت لوجد أن كيلو الطماطم بي 25 جنيه ، ولو أراد أن ينقل خروف واحد من الحلفاية للصبابي لكان عليه أن يدفع 25 جنيهاً لصاحب الأمجاد لأن الكيزان زادوا البنزين . أما لماذا زاد الكيزان سعر البنزين فلأنهم ( تجار الدين ) . استغرب واحد من معارفنا لدي زيارته قرية نائية أن يكون طلب الكبدة أرخص من صحن الفول ، وظل لأيام وليالي يلتهم الكبدة الرخيصة إلي أن اكتشف في يوم ما أن المطعم المذكور يصنع الأطعمة من البهائم ال ( الكتلا ربنا ) ، ومافي سماً عقب النار علي حد قول المثل المأثور . وبينما يكتفي الغلابة بالمس كول ، يحتفي السدنة بالخراف المشوية والعجول الدعول ، ويرتشون ويصلون علي الرسول !!! الميدان