ليس هناك ثمت شك حول حقيقة التنوع الثقافي والتعدد الديني في السودان، حتي ولو انفصل الجنوب، لأنّ الشمال نفسه ليس مكوناً ثقافياً واحداً، أما مسألة التشريعات الإسلامية فهي ظلت موجودة منذ عام 1893م، ولا تزال باقية “شكلياً” عبر قوانين وضعية، استنها بشر عاديون لأغراض سياسية، ومن بين هذه القوانين بالطبع قوانين النظام العام، والقانون الجنائي لسنة م1991. ولن يستطيع الطيب مصطفي الذي يحتفل “بانفصال الجنوب”، حتي يحافظ الشمال علي هويته، أن يغير شيئاً من حقيقة التنوع الثقافي، وليس في الأمر جديد، والسودان عبر القرون؛ والسودان كله كان عبارة عن دويلات وممالك تكونت عبر قرون طويلة، وكانت كوش 725 ق.م هي أول نطفة دفقت في رحم السودان البلد الإفريقي موقعاً وأصلاً، إلا أن البعض يسعي عن سبق إصرار وتعمد فاضحين إلي طمس هذه الحقيقة لأنها تصطدم مع ما يحملونه من مشاريع آيديوولوجية تؤسس رؤاها علي دعاوي التأصيل والبعث الحضاري والعودة إلي الجذور. وهو أمر يصطدم بتطلعات شخصية، ومشاريع سياسية أبرزها تلك التي تمارس التدليس والتلبيس في خطاب غوغائي يحاول ترسيخ فكرة أنّ ميلاد السودان الحقيقي بدأ مع دخول العرب السودان في عام 651 بعد نجاح حملة القائد العربي المسلم عبد الله بن ابي السرح وعقد معاهدة البقط التي املاها منتصر علي مهزوم بشروط المنتصر واجبار الضعيف علي دفع الدية والعبيد والسماح ببناء المساجد قرب الكنائس. ” والمؤرخ الذي يزيف الوقائع، بطمسها أو تغييبها، يخدش ضمير التاريخ نفسه. وكثيراً ما يكون تغييب الحقائق ناجماً عن تحيز منهجي او معرفي يدفع المؤرخ إلي انتقاء الوقائع التي تثبت موقفه المنحاز واستثناء تلك التي تتعارض مع ذلك الموقف”. وهنا اقصد أن الإسلاموعروبويين ممثلين في المشروع الحضاري الذي طرحته الجبهة الاسلامية منذ استيلائها علي السلطة في الثلاثين من يونيو 1989 عن طريق انقلابها العسكري هو محاولة لتزييف الحقائق التاريخية وذلك بالقفز فوق الازمنة بوثبات القرون ، فعجلة التاريخ عندهم تحركت ابتداءً من القرن السابع الميلادي في محاولة يائسة لتزييف التاريخ. وتناسوا أن التأصيل والعودة إلي الجذور تعني الانطلاق من مملكة كوش الإفريقية التي كانت من أقوي الممالك في العالم إبان تلك الفترة الزمنية الضاربة في القدم، فقد أسسها الملك كشتا الذي بدأ في ضم مصر اليه فاكمل ابنه بعانخي الحلم بحكم السودان ومصر معاً. وحفيده تهراقا الذي امتد جنوباً نحو إفريقيا. لقد امتد مشروع كوش إلى نبتة ومروي في القرون السابقة. ولا تزال صروح أهرامات البجراوية وكرمة، و صهر الحديد تؤكد شموخ تلك الحضارات الضاربة في عمق التاريخ، فهي حضارات كانت تمثل بدايات التركيب والتكوين للمجتمعات السودانية، وأثرت في التاريخ البشري. وهذا الموضوع ذو علاقة لصيقة بصراعات المركز والهامش وأسباب الحروب في السودان بما فيها الحرب في دارفور، واستمر المشروع النوبي عشرة قرون حتى قدوم الملك الحبشي عيزانا من إثيوبيا ودكه في همجية للصروح المادية لأقوى الحضارات في تلك الحقب الزمنية. وبعدها انقطع السودان عن” الدورة الحضارية العالمية اللاحقة للحضارات المتوسطية، لم يستطع أن يوجد تلك المركزية التاريخية التي كانت لكوش. لم يكن لديه ما يعطيه تلك الفترة فعاش لنفسه في شكل كيانات مجزأة غير قادرة على ممارسة أي نوع من التأثير خارج حدودها الإقليمية.. نشأت ثلاث ممالك سودانية، الأولى مملكة نوباتيا النوبية في الشمال وتسمى مملكة المريس أيضاً وعاصمتها فرس المغمورة ببحيرة النوبة” ناصر” حالياً والثانية مملكة المقرة وعاصمتها دنقلا وقد اتحدت المملكتان بعد وقت قصير من نشوئهما، ثمّ المملكة الثالثة وهي علوة في وسط السودان وعاصمتها سوبا”. ولم تستطع الممالك النوبية والمسيحية الصمود طويلاً نسبةً لدخول العرب السودان بعد قرن من قيام تلك الممالك التي قامت على انقاض كوش ونبتة ومروي وشروع المشروع العربي في التمدد وهو مغلف بالدين الإسلامي؛ لاسيما في الشمال والوسط النيلي، وتراجع الأفارقة النوبة نحو الجنوب والغرب. وقد تمخض هذا التمدد عن تحالف بعد عدة قرون بين الفونج والعبدلاب في مملكة سنار أو السلطنة الزرقاء في عام 1505م كأول سلطنة إسلامية تبذر بذورها فوق أرض السودان الخصبة. وهي مملكة تقسمت مهامها بين الحلفاء من الفونج في سنار، والعبدلاب في قري شمالاً. ويري الأستاذ ابو القاسم ” أن البناء العربي الحديث للسودان قد تم ضمن ظروف تاريخية حملت كل مظاهر الانحطاط بالنسبة للحضارة العربية الإسلامية وعلى مستوي العالم العربي الإسلامي ككل.”. مستدلاً بسقوط غرناطة في الأندلس في عام1492م ونهايات المماليك والشراكسة في مصر وسطوة العثمانيين الأتراك وتوسعهم في الشام ومصر ثم قيام الإمبراطورية الفرنسية. وحتى السلطنة الزرقاء ذات العرق العربي المكون لأحد الحليفين متمثلاً في العبدلاب لم تستطع السيطرة إلا على أجزاء صغيرة في الوسط النيلي. ففي السودان كانت هناك ممالك الفور والمسبعات وتقلي وممالك الداجو والمساليت والتنجر وغيرها حتى وصول الحملة التركية العثمانية في عام 1821م تحت مظلة الإسلام تبحث عن الرجال الشجعان من السود كأرقاء وجهادية في الجيش الغازي في وقت يسيل فيه لعاب الأتراك العثمانيين على ذهب بني شنقول. ولم تصمد الدويلات الضعيفة أمام الغزاة القادمين من الشمال عبر بلاد الشايقية والجعليين وكانت رسالة الملك بادي الخامس آخر ملوك السلطنة الزرقاء إلى الجيش التركي” لا يغرنك انتصارك على الجعلين والشايقية فنحن الملوك وهم الرعية”. فرفرة مذبوح وتهديدات جوفاء مثل كل تهديدات الضعفاء علي شاكلة “بغداد ستكون مقبرة الغزاة” و ” امريكا روسيا قد دنا عذابها”. ودارفور دار القرآن مقبرة للأمريكان” . وتساقطت الممالك واحدةً تلو أخرى عدا سلطنة الفور. وقامت الثورات ضد الغزاة وأبرزها ثورة الإمام محمد أحمد بن عبد الله الملقب بالمهدي المنتظر وهي تسمية شيعية أراد بها الإمام الصوفي السني إقناع الناس بأنه المنقذ الذي يملاً الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً. ونجح المهدي الجديد في حشد الكثيرين باسم الدين، ومن بين أولئك أهل الغرب عن طريق الخليفة عبد الله التعايشي، وهو من قبيلة التعايشة ذات الأصول العربية رغم أن هذا العربي ووجه بحملة شرسة من قبل ما يسمون بالأشراف أو أولاد النيل في مقابل “الغرابة”. وهذه اللفظة هي إشارة إلى التحيز العرقي الصارخ من قبل أهل الشمال السياسي أو أهل الوسط النيلي تجاه أهل غرب السودان بمن فيهم ذوو الأصول العربية. فعرب الغرب هم هامش لعرب الوسط وكلاهما مستعرب وهامش لمركز الثقافة العربية الإسلامية في مكةالمكرمة والثقافي في المشرق ومصر الفرعونية. والقبائل العربية الوافدة إلى السودان مع جحافل القائد الإسلامي عبد الله بن إبي السرح لم تحمل معها حضارة فاعلة؛ فهم بدو رحل ورعاة؛ والجميع يعلم أن الحضارات العريقة انطلقت أعمدتها الراسخة من مواقع الاستقرار والزراعة والصناعة، لا مناطق الرعي منذ الحضارة الإغريقية وكوش والفرعونية وبابل؛ وهي مرتبطة بالانهار والعمل الزراعي أكثر من الارتباط بحياة البداوة، و التنقل بين وهاد الصحاري وفيافيها المترامية. لكن القبائل العربية الوافدة إلى السودان حملت معها اللغة العربية، واللغة هي حامل معرفي ووسيلة للاتصال والتواصل وليست ثقافة في حد ذاتها، ولا تعني هوية لمن يتحدث بها، كما نشرت الدين الإسلامي في أنحاء كثيرة في السودان لاسيما في الوسط والشمال والغرب. وتثاقفت الوافدة مع الإصلية في جدل ثقافي عبر القرون. والثقافة هي الكل المركب الذي يحوي كل أنواع المعرفة، أو هي ما يبقى في الذاكرة عند نسيان كل شيء، أو اللاشعور الجمعي، والثقافات ليست جمادات ساكنة وثابتة؛ بل هي كيانات متحركة ومتبدلة ومتداخلة، تؤثر وتتأثر بما في محيطها، وإذا فشلت في ذلك سوف تصاب بالموات بسبب الانغلاق بمرور الزمن، أو تصبح ذاكرة خارج العصر، غير مواكبة لما يحيطها من حراك ثقافي، ومن خلال التثاقف السلمي أصبحت العربية لغة أغلب أهل الوسط والشمال والغرب، ولغة تفاهم بين القبائل الجنوبية؛ فيما احتفظت معظم قبائل تلك المناطق بلغاتها القديمة؛ وهي ما يطلق عليها العروبيون “رطانة دليل على ضعفها “، كما دانت معظم القبائل بالديانة الإسلامية مع الاحتفاظ بنمط حياتها القديم في طقوس الزواج والموت والختان خاصة للفتيات، وهذه المظاهر تتمظهر في الطبول الواضحة في المدائح النبوية، وفي عادة قطع الفرع وزف العرسان إلى النيل، وفي الأسبار والكجور التي انتقل جوهرها إلى الطرق الصوفية” ولقد تأثر السودانيون باتجاه المتصوفة أكثر من تأثرهم باتجاه الفقيه ولعل ذلك يعزى إلى قلة العلم من ناحية والتضارب بين طبيعة القبائل الزنجية التي تزاوج معها العرب النازحون حيث تميل الى التحرك في جماعات وتجد نفسها ترحاباً بشعائر الذكر والطرب الذي يتحقق بموسيقى وإيقاع النوبة الصاخب والحركات التي تشمل إيقاع الرقص الضارب الجذور في الثقافة الإفريقية عموماً”. ونواصل،،،،