لما كان من حوجة ماسة لمناقشة موضوع بأهمية عقبات التغيير في ظل وطن يحتضر، لم تُجدي جلّ المحاولات لإنقاذه من براثن الشمولية والحكم الديكتاتوري وفي ظل نظام الإنقاذ الذي عمل على تخريب الحياة بكل أشكالها، جاءت ندوة (إشكاليات الممارسة في العمل السياسي والمدني) كمحاولة لإيجاد مكامن الخلل في أسباب تأخير التغير السياسي والإجتماعي بالرغم من توفر الأسباب الموضوعية لذلك؛ أُقيمت الندوة بمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، تحت إشراف منظمة معاً للعمل النسوي، تحدث فيها الدكتور حيدر إبراهيم علي والأستاذ الحاج وراق، وكانت بعنوان (إشكاليات الممارسة في العمل السياسي والمدني). *في البدء تحدث الأستاذ جبير بولاد مرحباً بالضيوف وشاكراً مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان لهذه الإستضافة الكريمة، في إطار تعاون منظمات المجتمع المدني والناشطين نحو قيم إنسانية أرحب للشعب السوداني الذي عانى ما عانى؛ طارحاً عدد من الأسئلة كمدخل لتشريح الخلل وإيجاد الحلول مع تعلية قيمة النقد والنقد الذاتي لأن النقد والنقد الذاتي يُعتبران من أهم الضمانات للحرية ويُعتبر ضمان حقيقي لها لكي يستلزم تقويم كل ما هو إيجابي وتقويم سلبي في التجربة السياسية والمدنية بشكل خاص والإجتماعية بشكل عام يستلزم معها أن يكون نقداً بناء وفعالاً يُقديم المقترحات والحلول لتأكيد الإيجابيات ولتصفية السلبيات، التي نسعى لمناقشتها في هذه الندوة. لموضوع الندوة متسائلاً جبير، هل ممارستنا كسودانيين للسياسية هي ممارسة موضوعية، وهل من الممكن أن تتشكل عوامل قوية لمفهوم التغير، هل نحن بصدد مناقشة أفكار الكيانات السياسية ولكن نُحدد نقاشتنا فقط في حيز الممارسة، هل هي معافى لا تشوبها بعض إشكاليات الشخصية السودانية … المسافة بين القول والفعل والنتيجة، وهل بروز المجتمع المدني بمنظماته طوق نجاة للخروج من براثن بعض الأمراض النرجسية في العمل السياسي السوداني، هل الكادر الذي يعمل أو يشتغل في الحقل المدني هو بالضرورة صاحب تجربة سياسية بكل ممارساتها وهل ثمة نقل لذات الإشكاليات في شكل الممارسة القديمة لسوح العمل المدني الجديد، هل ما ذُكر من الممكن أن يُشكل إعاقة كبيرة لمرامي ومفاهيم وأهداف المدني !؟. *أستهل الدكتور حيدر إبراهيم، الندوة متحدثاً بأنه يجب الإقرار بأن الموقف الحالي من أزمة السودان هو أزمة حُكم وأزمة معارضة، ذاكراً إن طوال هذه العقدين من حكم نظام الإنقاذ هي كانت محض الصدفة، حيث لم يكن هنالك أي عبقرية في عملية الوصول للسلطة، رادفه إستخفاف بالمعارضة بالإضافة إلى التؤاطو الذي حدث حيث كان بالإمكان التصدي لهذا الإنقلاب؛ ثم تناول الدكتور حيدر ما تمّ طرحه من أسئلة متناولاً قضية العقل السوداني وما لها من أثر على هذه الإشكاليات منذ الإستقلال فالعقل السوداني له إشكاليات في الجانب الفلسفي والتفلسف، فيرى أن العقل السوداني قد طرح الأسئلة الخاطئة مع فرضية تجنب طرح الأسئلة نفسها، على سبيل ذلك من الأسئلة سؤال الدولة الإسلامية، ذاكراً بان الإسلاميين أدخلونا في هذا النفق الذي لم نخرج منه حتى الآن، لأن هذا ليس هو السؤال؛ ومع مرور الوقت تفرعت منه أسئلة أخرى كسؤال الهوية، وهما سؤالان خاطئان من قبل الإستقلال، ففي العام 1955م لجأ الإسلاميون إلى تكوين لجنة الدستور الإسلامي، والمفارقة في إنه لم يحدث تكوين أي دستور إسلامي، وحتى تلكم الأسئلة التي طرحوها لم يكن لديهم لها إجابات أو إستراتيجة. إنتقل حيدر بالحديث أيضاً حول حركة المجتمع المدني، موضحاً بأنه بلا فكرة أو رؤية واصفاً أي عبارة عن شعارات لا تستطيع التعامل معها، كما نجد بأن الحركية أصبحت بعيدة عن الفكر السياسي أو المدني للدرجة التي أصبح معها فكرة التنظير عيب!. وضمن إستعراض إشكاليات المجتمع المدني قال حيدر بأنه جاء مستزرع وحديث نشاه ، هذه النشأه والتكوين جاء ببعض الأمراض مثل النخبوية والحضرية حيث لم يكن للريف حظاً وافر من مساهامات المجتمع المدني؛ إضافة لذلك الخلط في تعريف المجتمع المدني ليس مجرد جمعيات أو مجموع الطرق الصوفية، مبيناً ان المجتمع المدني نشاة في أوروبا لملأ الفراغ بين الأسرة والدولة، وذلك حتى لا تتغول الدولة على المجتمع مثل الحريات الفردية للبشر. الشخصية السودانية كان لها من الدور في التأثير على حركة المجتمع المدني، لا تستطيع العمل كمجموعة، فالعقل السوداني غير جمعي وعندما يكون جمعي نجده قبلي؛ وبالنسبة للنخبة تساهم في هذه الإشكاليات بأنها لا تستطيع التعبير عن المشاعر الحقيقية (الصراحة) . عدم الاستقرار ساهم في إقعاد الدولة والمجتمع بالتالي ساهم في إشكاليات المجتمع المدني، كل هذا ساهم فيه عدم مقدرتنا على إستخراج العيوب والذي مرده (النقد والنقد الذاتي)، حيث لم نستطيع من خلال ذلك تبين شكل العلاقات ما فيها من إيجابي وسلبي لمفهومنا الخاطئ للنقد، مما ساهم في ظاهرة الشرزمة والإنقسامات بالإضافة إلى الشُللية، والفصل بين الموضوعي والذاتي والشخصي، مع تركيزنا على الأجندة الهامشية والإنجراف وفق ما تتطلبه المصالح البراغماتية أشبه بعملية العرض والطلب في الأسواق؛ وفي ذات الإطار دلف الدكتور إلى مفهوم المؤسسية التي صورها بأنها الإنجاز وليس الأُطر البيروقراطية وإجراءات الهيكلة ؛ وفي ختام حديث د.حيدر قال أن الرؤيا لمشاكل السودان من خلال تطوير المجتمع المدني هو أن يكون للمجتمع المدني المقدرة للدفاع عن نفسه والتنظير، كما يجب أن يخرج العقل السوداني عن السلبية بل عن التبريرية، موضحاً بأنه لابد من عقل جديد وشخصية جديدة ونمط تفكير جديد، فالسودان لن يكون له أي مستقبل إذا ظللنا على هذه العقلية بعيداً عن النقد والنقد الذاتي. *المتحدث الثاني الأستاذ الحاج وراق أوضح بان السودان بلد معقد وعظيم، لا يمكن تحقيق الإستقرار فيه بصيغة حلول بسيطة، وهو ما يتطلب بداية جديدة بإستصحاب ضروري لمسألة النقد والنقد الذاتي؛ ولمدخل للشق المتعلق بالممارسة السياسية؛ فتحدث عن واقعة الإبادة الجماعية التي تمت في السودان، كواقعة مركزية لإعادة فحص كامل الثقافة والمؤسسات والممارسات التي أدت اليها ، وفق السؤال المهم لماذا حدث هذا!؟، وللإجابة عن هذا السؤال نجد بأننا مسؤلين جميعنا بدرجات متفاوتة ، سواء بالتحريض والتعبئة أو المشاركة أو بالتواطؤ والصمت ، أو بالغفلة والعجز. وقال ان الإبادة لا تقتصر على المسؤولية الجنائية وحسب وإنما تمتد إلى المسؤولية السياسية والمسؤوليات الأخلاقية والمعنوية ، والأخيرة أشار اليها الفيلسوف الالماني ياسبرز في مفهومه للذنب الجماعي . وأضاف انه بتحليل الإبادة فإن أفكار معينة ساهمت فيها بشكل أساسي ، مثل الأصولية ، والتي تختزل الحقوق الإنسانية لأصحاب دين معين ثم تختزل الدين في تأويل واحد مما يقود في النهاية إلى ان الحقوق لا يستحقها إلا المنضوين ل (الجماعة ) الأصولية ، وبهذه النظرة الاحادية وما يرتبط بها من نظرية مؤامرة يجري تبرير القتل والإنتهاكات . وهذا إضافة إلى العنصرية التي تخفض المرتبة الإنسانية للقوميات المهمشة لتسويغ غمط الحقوق والمظالم والمذابح . وكذلك الجهل الناتج عن الانعزال بفعل التخلف والذي يمكن إستغلاله وجرى استغلاله لزرع الخوف من الآخر وبالتالي تبرير الإنتهاكات بإعتبارها رداً لعدوان متوقع . وتساءل وراق عن كيف اتت وإستمرت السلطة الفاشية التي مارست الإبادة ؟! مجيباً بان أمراض الحركة السياسية السودانية هي التي قادت إلى ذلك ، ورد هذه الأمراض إلى نشأة الحركة السياسية في حضن جهاز الدولة الإستعماري وما ارتبط به من ثقافة الإستعلاء على الشعب والعزلة عنه والتمتع بالامتيازات بعيداً عنه في ( ميزات الموظفين). وقال ان العزلة قادت إلى المراهنة على استراتيجيات إختصار الطريق ، ومن ثم إلى تأييد الإنقلابات والإرتماء في أحضان الطائفية والرهان على الأجنبي . وأضاف بان الاستعلاء والعزلة والاسترخاء في (الميزات) فتح الطريق لمغامرة الفاشية . وقال ان مؤسسات مثل (الميزات) و(الداخليات) ساهمت في إشاعة عدم الإنضباط أو في إنضباط السمع والطاعة بغير رشد ، كما ساهمت في قمع حرية الإبداع والتجديد لانها ربطت ما بين التميز وبين التعرض للإنتهاكات . وأضاف وراق بان أحزاب القوى الحديثة ورثت إضافة إلى هذه الامراض إنغلاق المؤسسات القديمة كالقبيلة والطائفة وصارت هي نفسها قبائل بطلاء حديث ، والملاحظ سيادة نمط القيادي المشيخي ( شيخ القبيلة) في غالبية الأحزاب الحديثة . ورسخت الأحزاب الحديثة العقائدية خصوصاً رفض المجتمع التقليدي للتميز وحرية الإبداع كما رسخت بان معيار الخطأ والصواب ليس الضمير الشخصي وإنما الآخرين ( السترة) وبدلاً عن (السترة التقليدية) صار الحزب بديلاً عن القبيلة وأصبح معياراً للصواب والخطأ في عملية تشبه الإسترقاق النفسي والأخلاقي . وفي نهاية مداخلته، أشار الأستاذ وراق لبعض النقاط التي يمكن أن تكون حلولا تمضي بالحركة السياسية والمدنية قًدماً، مشيراً إلى أهمية مكافحة الإختراقات الأمنية ، وذلك بالتركيز على المهام وليس الهياكل وعلى مراكز التنوير والوعي وبالفحص والتحقيق والعمل بناء على نموذج الفوضى الخلاقة ببناء العديد من الأجسام حتى يتم إنهاك هؤلاء المخترقين، كما يجب أن تكون الحركات الجديدة حاضنة للقيم الجديدة قيم (الإنضباط – الإبداع – المساءلة– وقيم العمل والزمن ..الخ ) يتم كل هذا تحت سقف (النقد والنقد الذاتي) الذي هو مبدأ هام في التربية الديمقراطية وتحسين تكوين الأفراد، وهو أهم مقومات حياة السياسية والمدنية، كما هو المحرك الرئيسي لعملية التغيير ويحافظ على عافية الحِراك ومنظوماته وهو بدوره يقود إلى النقد الكلي الذي عبره يتم تجاوز أخطاء الماضي مستقبلاً، ويًعتبر جزءً أصيلاً من مبدأ الديمقراطية الذي يستند عليه العمل السياسي والمدني. *وقد أثرت مداخلات الحضور التي ضجت بها قاعة مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان الحوار والنقاش حول مادة الندوة المقدمة بشكل جيد.