عشية التشظي الوطني أخرجت “الإنقاذ” أثقالها، ولم يقل الإنسان السوداني مالها، ذلك أننا نعلم بالتجربة فرفرات المذبوح وطراقيع الخريف حينما يريد يفوت، و”يا رايح كتّر الفضايح” كما في أمثالنا و”الإنقاذ” قد لا تفوت ولا تروح، ولكن البلد نفسه هو الذي يتشظى يتسرب في رمالها المتحركة التي ابتلعت اليوم الجنوب وتقول هل من مزيد؟ وحتى لو بقيت “الإنقاذ: فإنها لن تبقى كما هي وكما نعرفها.. والاحتمالات أمام الإنقاذ خمسة:الأول أن تنهار وتسلم البلاد للفوضى، الثاني أن تنهار وتستطيع قوى حية وفاعلة في البلاد أن تنقذ الوطن من التفكك والانهيار، الثالث أن تتحول سلميا بالاستجابة لمطالب الحكومة القومية، الرابع أن تتجه يمينا طالبانيا (أي أن تشد)، والخامس أن تتجه وسطا أعقل من الحاضر يقودها نحو شمولية متراخية نوعا ما (أي أن ترخي).. المهم ومهما كانت النتيجة فإن: دوام الحال من المحال. كل المؤشرات تقول إن “الإنقاذ” تتجه حاليا نحو الاحتمال الرابع وهو أن تخرج سياسات يمينة طالبانية متشددة مع فرق واحد أن طالبان تؤمن بما تفعل و”الإنقاذ” ستكون في هذه الحالة مثل النميري حينما استخدم الشريعة الإسلامية لترويع الخصوم، قال النميري شفاهة بعد أن رفع رأسه من تلاوة خطابه المكتوب حول سماحة الشريعة إنه سيحكم السودانيين ليس بتلك الشريعة بل بالقانون البطال: سيتجسس ويتحسس ويقبض الناس ويبطش بالمعارضين الذين لا يستحقون الشريعة السمحة!.. من منا لم يتذكر تلك الأحداث والأقاويل حينما استمع للسيد عمر حسن أحمد البشير في خطاب (عيد الحصاد) الأحد 19/12 بالقضارف الذي تحول لمحارق وطنية ورماد آمال؟ قال السيد البشير إنه بعد الانفصال لن يكون هنالك كلام “مدغمس” حول التنوع الثقافي وسيحكم الناس بالشريعة وتكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية الوحيدة! أحاديث السيد البشير رفعت حواجب كثيرين بالدهشة، وذلك لأن الإنقاذ ظلت طوال 21 عاما تقول إنها تحكم البلاد بالشريعة الإسلامية. وحينما وقعوا نيفاشا قبل ست سنوات وقال بعض الناس إن تلك الاتفاقية فيها تخل عن الشريعة الإسلامية لوح الإنقاذيون ببروتوكول ميشاكوس الذي فيه نص واضح إن الشمال يحكم وفقا للشريعة الإسلامية بينما يحتكم الجنوب للعلمانية والعرف، وبالتالي بعد الانفصال لن يكون هنالك جديد، فلن يكون هنالك جنوب، إذ سيذهب مع الريح، وسيتبقى الشمال الذي بالأصل يحتكم لشريعة (الإنقاذ)، وكان كثير من أهل الملة المنادين بالتطبيق الإسلامي –وهم أكثرية في السودان- يعترضون على الشريعة بمنظار (الإنقاذ) باعتبارها أفرغت الشريعة الإسلامية من معناها وصيرتها مجرد شعار للتكسب وملء الجيوب وقهر الخصوم وسلب الموارد الوطنية وملء السجون.. أما القلة من العلمانيين في السودان فقد رأوا التطبيق الإنقاذي للشريعة دليلا على بوار الشعار الديني مجملا وسبب دعوة لل(توبة) منه. وقد علقت هيئة شئون الأنصار في بيان ضاف وقوي على هذه الجملة المدهشة بالقول: الشريعة الاسلامية هي مصدر التشريع لكل المسلمين في حياتهم الخاصة والعامة لأنها حكم الله الذي اختار لعباده” ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون” ومنذ انقلاب الانقاذ على السلطة الشرعية ظللنا نسمع شعارات ولم نر لها أثرا علي أرض الواقع! بل ما طبق يناقض ما أعلن عنه .. ففي ظل الشعار المرفوع مورست شتى أنواع الظلم : من سلب للحريات وهدر للعدالة وانتهاك للحرمات وتعد على المال العام …الخ ممارسات ينطبق عليها تماما قوله تعالى” ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعي في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد”. أحاديث السيد البشير حول حكم الشمال بالشريعة بعد الانفصال لم تقدم جديدا شرعيا وحينما يكتب الدستور الجديد لن يضاف له جديد ليطابق دعاوى السيد البشير فقط سيحذف ما يتعلق بالجنوب لأن الجنوب نفسه انحذف! ولكنها –أي الأحاديث- أضافت ما علق عليه كثيرون: “هنضبة” السودانيين بالشريعة- الشريعة كسوط أو كعكاز- الشريعة أو القانون “البطال” بتعبير النميري- الشريعة كبعبع- الشريعة ككرباج على ظهر الشعب ووجه ورأسه تماما كما فتاة الشريط.. وهذا أخوتي وأخواتي يحرق الوطن ويشوه ديباجة الدين، ويضيف دهشة أن ما قاله هو السيد البشير الذي كان قال قبل بضع أسابيع إنه سوف يتنازل عن كل البترول للجنوب ليرضى الرابطة الوطنية المتحدة وكان يقول قولا هينا لينا.. سؤال: لماذا لم يحل السيد البشير خطاب القضارف للدكتور نافع علي نافع، إنه سيسعده ويسره جدا أن يضيف لرصيد سعادته وسروره (بانفصال الجنوب)، سرورا جديدا أن تكون الشريعة معناها أن يكون الشعب السوداني (إنقاذيا) خاضعا وإلا…!! وطالما نحن في باحة الشريعة السمحاء فليعلم السيد البشير أن التنوع والتعدد الذي يراه محض (دغمسة) هو أحد آيات الله في الكون بل أحد أسباب خلقه له. قال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) وقال تعالى حول الاختلاف بين الناس (وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَن رّحِمَ رَبّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ). والسودان بلاد تجلت فيها آيات الله في خلقه من اختلاف الألسنة والألوان والآراء.. صحيح حينما يذهب الجنوب مأسوفا ومبكيا عليه بدموع حارات وقلوب تدق متحسرات فإن جزءا من هذا التنوع يبتر، ولكن التنوع في السودان سواء داخل شماله أو داخل جنوبه هو آية أفريقية جليه ولو أنكرها حديث الحصاد في القضارف.. في شمال السودان جماعات وأقوام يتبعون لسلالات مختلفة ويتحدثون لغات تتبع لعوائل لغوية مختلفة. فبالسودان ثلاثة من العوائل اللغوية الخمسة في إفريقيا (العائلة النيجر كنغولية- العائلة النايلو صحراوية- العائلة الآفروأسيوية- العائلة الخوسانية – والهندوأوروبية) تمثل الآفرواسيوية في السودان العربية، والعائلة النايلوصحراوية تمثلها مجموعات عديدة منها اللغات النيلية، والنوبية الشمالية ولغات في دارفور، والعائلة النيجر كونغولية تشمل فرع المجموعة الكردفانية وتمثلها لغات بجبال النوبة. وهذا يعني أنه إذا ذهب الجنوب ولغاته النيلية وغيرها من لغات المجموعات الزنجية الأخرى في الجنوب فإن التنوع اللغوي والإثني في الشمال يظل وتظل لدينا ثلاثة عوائل لغوية تمثلها عشرات اللغات بالشمال.. اللهم إلا إذا كان السيد البشير يقول لنا بالواضح غير الفاضح إن الأمر سيستتب بحيث يريح فقط سكان المثلث الشهير أو أقل منه (بذهاب دنقلا التي لا تتحدث العربية)، إذن طموح السيد الرئيس أقل حتى من طموح السيد عبد الرحيم حمدي صاحب المثلث. مثلث السيد البشير ربما يحد بالدامر شمالا.. فهل كنا نطمع من السيد الرئيس أن يطمئننا على أن السياسات التي جعلت الجنوب يفر منا فرار السليم من الأجرب سوف لن تتكرر وأنه سيكون هنالك احترام لحقوق الجميع الثقافية واحترام للتنوع واعتراف به، أم أن يقوم بالعكس تماما: أن يحرق الأمل الوطني في الإصلاح والعدل الثقافي؟ أما الحريقة الكبرى لأي أشواق للعدل عامة ولإنصاف النساء خاصة، وقبل ذلك وبعده لأي أشواق في ورع الدولة فكانت فيما قاله السيد البشير حول فيديو الفتاة المجلودة. أفتى السيد البشير بأن كل من انزعج من المشهد قد خرج من الملة. ووضع شروطا جديدة لعودة ملايين (المرتدين) بحسبه ممن شاهد الشريط أو سمع به وانزعج، وهذا أمر له ما بعده بالنسبة لنا –ضمن الملايين- ممن لا زال شريط الفيديو يؤرقنا وقد أفتى السيد الرئيس بكفرنا وردتنا مع وجود المادة 126 من القانون الجنائي التي تقول بقتل المرتد! ودعونا مرة أخرى نغرف من التاريخ القريب. فقد ورد في كتاب الإمام الصادق المهدي الأخير (ميزان المصير الوطني في السودان) نقد دقيق لتجربة مايو الإسلاموية، وتطرق لبعض القضايا الشهيرة التي (بالغ) فيها ذلك النظام في انتهاك العدالة باسم الشريعة. ووردت قضية بعض المواطنين سرقوا أسلاك كهربائية، وقدموا لمحكمة الطوارئ رقم 2 برئاسة القاضي فؤاد عبد الرحمن الأمين (أصدرت أحكاما متعددة في 20 مايو 1984، أهمها الحكم على المتهم الأول بالقطع من خلاف والغرامة ألفي جنيها أو السجن لمدة سنتين بالتتابع وعلى المتهم الثالث بنفس العقوبة ونفذت الأحكام في 21مايو 1984. ويلاحظ أن رئيس الجمهورية ألقى خطابا يوم 9/5/1984 أشار فيه لهذه القضية وكانت تحت نظر القضاة وقال إن الجناة يستحقون القطع من خلاف فأعلن الحكم عليهما من قبل المحكمة وطابق قرار المحكمة توجيهاته العلنية!!). أي بوار أن يعيد تاريخ الجور نفسه! فنحن الآن أمام التحقيق حول حادثة جلد غير منضبط لفتاة بلغ خمسين جلدة (أي أكثر من حد الخمر) في غير حد (لأنه لو كان حدا لكان 40 أو 80 أو 100 جلدة) والرسول (ص) يقول (مَن بَلَغ حَدًّا في غير حَدّ ؛ فهو مِن المعتدين)، ويقول: (لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) (متفق عليه) كذلك طريقة الجلد لا تتقيد بأي من القيود التي وضعها الفقهاء في موضع المجلودة ومواضع الجلد وطريقته بحيث يكون غير مؤذيا حتى قيل على الجالد أن يضع مصحفا تحت إبطه حتى لا يرفع يده ليؤلم.. ولكننا رأينا جلدا للفتاة وهي تتلوى وتصرخ (وتتبهدل) بما يؤذي الذوق العام والمشاعر السليمة .. تجلد تارة على رأسها ومرة على وجهها وعلى بطنها وعلى ركبتيها وعلى ظهرها. الإسلام يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، والشريط أنكرته الغالبية الساحقة من مشاهديه، وكتب الكتاب الصحافيون وعلق المعلقون وقبل ذلك كتبت وعلقت قلوبهم وانفعلوا مثلما لم ينفعلوا بحادثة أخرى منذ زمان ربما منذ غزو غزة الآثم بالأيدي الإسرائيلية وقبلها غزو بيروت. قيل: ألسنة الخلق أقلام الحق. لقد حكم الرأي العام السوداني على الحادثة وأدان المنظومة (العدلية) التي تسمح بإهانة النساء والفتيات السودانيات على هذا النحو، فنحن بلاد فيها النساء يكرمن ويفتخر بهن ولكن منظومة النظام العام تتعامل مع النساء باعتبارهن مصدر ريبة وشك كبيرين.. وبرغم أن الرأي العام قال قولته، وبرغم أن اللجان لا زالت تحقق، إلا أن التوجيه الرئاسي جاء بقول أظنه سيكون لدى الحاكمين فصلا، تساءل السيد البشير: ما هو داعي التحقيق أصلا؟ إذا كانت قد حوكمت وفقا للقانون (ويساوي الشريعة) فجلدها حق، ومستنكره مرتد! ولكننا لا نظن قانون النظام العام لولاية الخرطوم ولا منظومة النظام العام التي تقوم عليه من الشريعة في شيء، القانون نفسه لم يقل إنه شريعة. إنه قانون معيب ومن صاغه محدود الخيال قليل الخبرة القانونية والمقدرة اللغوية، وسوف نجعله موضوع مقالنا القادم بإذن الله. ولكننا اليوم نتحدث عن علاقة منظومة النظام العام (القانون والشرطة والقضاء) بالشريعة بإشارات فقط. هذا القانون مضطرب الصياغة، لا يؤصل لنفسه في الشريعة ولا يذكرها أصلا. وقد ذكر العقيدة في ثلاثة مواضع، مرتين كصنو (للأخلاق والآداب والذوق العام والوجدان السليم) ومرة كصنو للقيم والأعراف الصالحة. ومعلوم أن الأخلاق والذوق العام أشياء نسبية تختلف من ثقافة لأخرى والسودان بلد متنوع الثقافات والخرطوم تجمع أشتات السودانيين كلهم. وكذلك الأعراف فالنقاب مثلا يراه البعض حميدا ودليل تدين ويراه آخرون مقيتا ويرون إخفاء الهوية مظنة ارتكاب المنكرات، ونحن في بلاد كانت النساء اللائي يرتكبن الرذيلة في زمان ما يضعن البلامة وهن واقفات في الطريق حتى لا يتعرف الغاشي والماشي عليهم بينما يدرك أنهن واقفات للرذيلة! أما قراءة قانون النظام العام للمرأة فهي قراءة زرادشتية للقرآن، مثلما وصفت كاتبة تفسيرات الإمام الغزالي للقرآن بإزاء المرأة.. وذلك إشارة منها لبقايا الأفكار الفارسية الحاطة للمرأة في مواقف الإمام الغزالي الدينية تجاه المرأة.. ولكننا احترنا بقايا أي ثقافة هذه التي تسربت للإنقاذ في قراءاتها الظالمة للنساء؟ فنحن في بلاد أكرمت النساء منذ زمان الكنداكات وحلقت بهن منذ أيام مروي وحتى قبل أن تأتي الإنقاذ.. إنني أصر على مغالطة الدكتور عبد الله بولا في قوله إن الغول لم يهبط من السماء.. قطعا إن غول الإنقاذ هذا لم يهبط منا نحن.. صحيح أنه لم يهبط من السماء، ولنا في أمر موضع هبوطه عودة علنا نفك الطلسم.. وجملة قولنا إن حصاد القضارف قد خلف لنا رماد وطن سدر هكذا نحو التشظي، ورماد آمال في إنصاف النساء.. ولا حول ولا قوة إلا بالله. وليبق ما بيننا