السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفاهيم دارفورية (1)
نشر في حريات يوم 25 - 09 - 2012


أبو البشر أبكر حسب النبي
……………..
عندما تُغفل أهمية تحديد المفاهيم وتعريف المصطلحات ، يكثر اللغط ويشيع الشطط ويعم الضلال ويفشو الجهل. كما رأيناها في كثير من المحطات التي طوِّحت بها قضية دارفور في السنوات الأخيرة .ولا شك أن بعضكم -على الأقل -قد رأى معنا كيف حل الجهل بكاهله على تلك المنابر عندما اعتلاها أناس لا يفقهون شيئا ؛ لا معاني المصطلحات ولا دلالات المفاهيم التي ينطقونها بها إظهارا لحرصهم المزعوم على قضية دارفور ،ولم يكن في جعبتهم أصلا إلا الجراءة على نشر سيل من الجهالات ؛ بتحريف هذه المفاهيم عن مدلولاتها والكلم عن مواضعه … وهو ما أثارنا في أن نحرر هذه السلسلة من المقالات.. نحاول – ما استطعنا- أن نحدد بعضا من تلكم المفاهيم التاريخية والثقافية المركزية.. مركزين على أكثرها شيوعا وذيوعا .. مبتدأين بفذلكة تاريخية حصتها أربع مقالات ( من 1– 4)، قوامها مساءلة البيانات التاريخية .. ومحاولة إحياءها وتحريرها من غشاوات الغُشم التي رانت عليها حينا من الدهر .. وليس سردها وهي صماء وبكماء وموات لا حياة فيها .. والقصد في المبتدأ والخبر ، أن نلم ببعض أطراف دلالات تلك المفاهيم التي استلت من عمقها التاريخي والثقافي الذي نبتت منه وألقيت على تلك المنابر وهي عارية من دثارها الدلالي .
عهد الازدهار (1752 – 1831 )
إذا قفزنا على البيانات المضطربة لبدايات تأسيس السلطنة أي الفترة من عام( 1640) حتى نهاية حكم السلطان أحمد بكر(1682-1722م) . فإن أهم شيء يمكن أن يستوقفنا هو دلالات الألقاب التي ارتضاها جل سلاطين دارفور أو رضوا بها عن يد وهم كارهون .. فهذا النمط من الأسماء المزدوجة أو الألقاب الملحقة بالأسماء الأصلية لم يكن مؤطراً ولا مؤسسياً في سلطنة دارفور كما كان الحال لدى خلفاء العباسيين ( خاصة بعد المعتصم ) أو الفاطميين الذين غالبا ما كانت تنتهي أسماؤهم ( بلله …على الله ..لدين الله..الخ)أو سلاطين آل عثمان ( الأول ..الثاني..الثالث..الخ) وإنما كانت تأتي تلقاء من المجتمع، معزوا إلى حادث سار أو مغم .. وفي أحيان قليلة أتت الألقاب من الخارج .. وثمة اسم سلطان واحد فقط كان مركبا في أصله وهو السلطان( أبو القاسم ). وإذا حاولنا إعادة كل لقب إلى مناسبة التصاقه باسم السلطان الأصلي ، سنجد مثلاً أن السلطان الأول سليمان سمي ب( سولونج ) أي ( العربي) لأنه كان كذلك حسب الرواية الأسطورية .. أما السلطان محمدا فقد لقب ب(درة ) والصحيح (ضرة) أو (ضُرّان ) وهو من يلحق الضرر بالآخرين من حيث لا يحتسبون وكان معروفا عنه بأنه صاحب مكر ودسائس ومقالب ..وقد لُقِّبَ ابنه عمر بن محمد(1739- 1752م ) ب(للي) -أي الحمار – لما اتصف به من عناد والتفرد بالرأي إذ كان لا يكف –رغم النصائح التي تقدم له- عن مهاجمة مملكة وداي إلى الغرب من دارفور سنة بعد سنة .. وكلما تجرع كأس الهزيمة تمادى في مزيد من العداوة وإشعال الحروب لا أمل في الانتصار فيها .. ولقد لقب السلطان محمد بن أحمد بكر (1752-1787) ب(تيراب) معزوا لحالة الرخاء وسعة العيش التي صادفت عهده .. حيث حصد الناس كل ما زرعوه أو (تيربوه) بلغه أهل دارفور طوال سنين حكمه ، فتفاءلوا به وكنوه ب(تيراب ) .أما السلطان عبد الرحمن الذي كان يلقب في صباه ب(اليتيم ) لأنه وحيد أمه التي توفيت وهو ما زال رضيعا .. وفي شبابه عرف ب(الفكي) لأنه أصبح من كبار فقهاء البلاد .. وقد حصل على لقب (الرشيد) من السلطان العثماني في الآستانة (سليم الثالث )عندما تسلم منه هدية ثمينة من عاج وعسل وريش النعام وخشب الأبنوس. وسمي السلطان إبراهيم ب(قرض)، و النطق الصحيح هو( قرج) وهو النوع الرديء من الضأن .. وذلك لهيئته الجسدية غير المتوافقة مع مطلوبات المُلك. .. وقد لقب السلطان علي بن زكريا ب(دينار)لحدة طبعه وتقلب مزاجه وقيل (علي دينه نار ) على أرجح الروايات، منها رواية احد أحفاده وهو السيد ربيع بحر الدين علي دينار الذي ذكر مرة أن جده سمي ب(دينار ) لأن والدته كانت تقول “علي ده نار خلوه ” ! كناية عن حدة طبعه . ولم نهتد إلى إي مرجع أو مصدر يدلنا إلى مناسبات الكنى والألقاب الأخرى مثل تسمية السلطان أحمد ب(بكر) و السلطان محمد ب( الفضل ) .
في هذا العهد الذي أسميناه بالمزدهر ؛ تسنم أربعة من أبناء السلطان أحمد بكر سدة الحكم .. وتوالوا عليها فترة طويلة . بخلاف مقتضيات بعض العادات السيئة التي درجت عليها عائلة الكيرا ..على رأسها عملية قتل الأخوان والأعمام أو أي عنصر يُشك فيه أنه طامع في الحكم من الورثة الشرعيين غيلة بالخنق . و إن كنا نرى أن القتل بهذه الطريقة كان (أكثر رحمة) ! من العادة التي كانت تمارس في مملكة وداي المجاورة.. حيث يقوم من تؤول إليه مقاليد الحكم ب( قدح أعين ) جميع الأحياء من أشقائه وأعمامه من الذكور .. ولذلك بتقريب الحديد المحمى من العينين حتى يفقد الضحية البصر تماما مع بقاء كتلة العين .
وقد وصلت سلطنة دارفور أوج مجدها وازدهارها في عهد السلطان محمد تيراب وأخيه غير شقيق السلطان عبد الرحمن الرشيد الذي خلفه في العرش . وقد تمثلت أهم إنجازات السلطان تبراب في وضعه حدا للخطر الذي يتهدد السلطنة دائما من الغرب ،بأن تمكن من إلحاق الهزيمة بمملكة وداي التي أنزلت بدارفور هزائم منكرة ومتتالية في عهد السلطانين محمد ضرة وابنه عمر للي . وثم التفت إلى الخطر الذي بات تشكله دويلة المسبعات إلى الشرق (كردفان).. و قضى عليها في هبة واحدة، وطارد ملكها الفار هاشم حتى ضفاف النيل حيث استجار بملوك الحلفاية من العبدلاب .. الذين قرعوا طبولهم وأطلقوا صيحات الحرب للدفاع عن هذا المستجير ..ولكن انتهى بهم الأمر إلى هزيمة مدوية ، وكان النصر المؤزر حليف جيوش دارفور ، التي غنمت نحاس العبدلاب الشهير (المنصورة).
وفي طريق عودته من هذه الحملة الطويلة والمرهقة مرض السلطان تيراب ، وتوفى عند بلدة بارا من أعمال كردفان عام 1787م . ومن غرائب ذلك الزمان أن استقر رأي أهل الشورى على تحنيط جثة الملك على الطريقة الفرعونية، وحملها على ظهر بعير حتى طرة في غرب جبل مرة ،حيث وري الثرى في الجبَّانة الملكية . ومن المعروف أن سلاطين دارفور – حتى هذا العهد - لم يألفوا الاستقرار في عاصمة واحدة .. وإنما كان لكل سلطان “فاشره” ، فكان فاشر تيراب أحيانا في (ريل) و أخرى في( شوبا) بالقرب من مدينة كبكابية الحالية ..
وكان ولي عهد السلطنة أو(الخليفة ) كما كانوا يسمونه عند وفاة السلطان تيراب هو الأمير اسحق بن محمد تيراب ..وكان أم إسحق هذا ابنة سلطان الزغاوة فرع الكوبي .. وكانت والدة تيراب نفسها من تلك العائلة ..وكان اسحق ينوب عن والده في حكم الجنوب(دار صعيد ) مقيماً في (جديد رأس الفيل) التي تسمى الآن (خزان جديد). ولكن يبدو أن القادة ارتأوا عدم إيلولة العرش إليه .. أو قل أنهم تآمروا على خلعه .. وكان يقود هذه المؤامرة الوزير الأول أو (أبو شيخ دالي ) وكان (خصيا) يدعى (محمد أب كرَا) وهو في نفس الوقت يشغل ما يشبه منصب رئيس هيئة الأركان أو وزير الدفاع.. ويقود أحد أهم الفرق في الجيش السلطاني .. وهي الفرقة المعروفة ب(كوركوا) التي يتكون أفرادها من الأرقاء المعتوقين ممن جلبوا من جبال التروج (النوبة ) ومن (الدادنقا ) المجلوبين من دار التاما – وليس من الجنوب كما يعتقد البعض لوجود قبيلة بنفس الاسم هناك – والفرتيت المصطادين من بحر الغزال ..وقد تمت تنشئة أفراد هذه الفرقة على قيم الجندية والولاء التام للسلطان - أي تماما كفرق الإنكشارية في الجيش العثماني . وكانوا مسلحين بالسيوف والرماح والحراب والسفاريك وما توفر من بنادق (أبوروحين ) ..وتكاد تكون الفرقة النظامية الوحيدة في السلطنة. وبعد أن عقدوا أمرهم ودبروا انقلابهم ..حارت بهم الوسيلة المُثلى للتخلص من ولي العهد ،لأنه ربما يكون منتبهاً ومستعداً لمثل هذا الانقلاب .. وفي النهاية استقر رأيهم على اغتياله .. ولكن من يقوم بتنفيذ هذه المهمة الصعبة؟.. طلب أب كرا أن يترك له الأمر ليتدبره ، بالفعل قام بتأجير قاتل محترف من العنصر المصري ليتولى كبر الاغتيال الأمير إسحق.. فقد قام الأجير بتنفيذ المهمة بكل دقة ، ولكن المفارقة أن أب كرا ألقى القبض على المصري القاتل وأعدمه! بتهمة اغتيال ولي العهد !.
ولكن رب ضارة نافعة ،كما يقولون ، حيث رست المشاورات على شخص وهو أهل للمُلك والرياسة ، ألا وهو الفكي عبد الرحمن(اليتيم ) بن أحمد بكر، ففضلا عن أنه عضو في العائلة الحاكمة ( أخ غير شقيق للسلطان تيراب وقد حاول قتله خنقاً عدة مرات إلا أن فراره واعتصامه بجبل مرة صان حياته) فقد كان فقيها من أكابر رجال الدين الذين يشار إليهم بالبنان ، وكان ذو هيبة وكلمة . وقد زهد عن المُلك ، واستنكف عن الصولجان، بعد أن نجاه الله من تلك المحاولات الغادرة من أخيه غير الشقيق، وظل منزوياً في أعالي جبل مرة .. يعلم تلاميذه (مهاجرينه) ، ويدير شئون خلاويه . وعندما نادي المنادي بأن الملك لله ومن بعده لعبد الرحمن بن بكر !.تردد وتمنع في بادئ الأمر،ولكنه لبى نداء المنادي في نهاية المطاف ..وقبل بالمُلك عن يد وهو كاره .. وكان ذلك فضل من الله عظيما ..ونعمة حلت بأهل دارفور من حيث لا يحتسبون.. إذ بتسنمه سدة الحكم شهدت دارفور عهداً من أزهى عصورها .وإذا كان أهل دارفور قد تمتعوا بالخصب والرخاء وسعة الأرزاق في عهد تيراب ؛ فأنهم شهدوا في عهد الرشيد ،عطفاً على الرخاء الاقتصادي، ازدهاراً فكرياً وانفتاحاً عالميا لم يسبق لهما مثيل . حيث حرص السلطان عبد الرحمن بتنمية العلائق بالمراكز المركزية للحضارة الإسلامية بشكل مباشر لأول مرة ، إلى حد أن أرسل السلطان عبد الرحمن سفارة إلى الآستانة موئل الدولة العلية ومقر الخلافة الإسلامية ..محملة بالهدايا الثمينة والنادرة حتى أنعم عليه الخلفية بلقب (الرشيد) مما يدل على مدى التقدير العظيم الذي أولاه خليفة المسلمين لسلطان دارفور .
وقد انعكست الخلفية الفكرية للفكي عبد الرحمن وتجلت على طبيعة إدارته للحكم .. حيث قام بأعمال جليلة قل نظيرها في تاريخ دارفور السابق واللاحق .. وبعضا من هذه الآثار ما زالت باقية حتى الآن .. ولعل أهمها تأسيس فاشره (عاصمته) في مكان دائم وثابت في (خور تندلتي) في شمال شرق جبل مرة .. منتقلاً من (قرلي) في غرب الجبل فور تتويجه.. و(الفاشر) معناها القصر الملكي أو مجلس السلطان . ولما كانت مجالس السلاطين تعقد عادة أمام القصر في ميدان عام ، فقد أطلق لفظ (الفاشر) على ذلك الميدان وعلى السوق الواقع فيه ، ومن ثم صار لفظ الفاشر يعني مقر الملك أو حاضرة البلاد . ويبدو أن هذا المصطلح كان شائعاً حتى في السودان النيلي حيث وردت في مخطوطة “كاتب الشونة عبارة” أن أولاد محمد ( من ملوك الفونج ) لما أخذوا الخيل ووقفوا بالفاشر …” وقد شرح المحقق لفظ (الفاشر) بأنه يعني كل فضاء يعقد فيه السوق الموسمي ويكون موضع هذه الفسحة أو الملقة على مقربة من قصر الوالي سواء كان سلطاناً أو أميراً أو ملكاً” .أي أن ( الفاشر) تعني القصر.
تعمقت الثقافة الإسلامية في دارفور وتجذرت في عهد السلطان عبد الرحمن الرشيد ، الذي جعل البلاد قبلة للعلماء والفقهاء ، وتدفقوا إليها من كل حدب وصوب ، حيث وفد من السودان النيلي أفراد قبائل المحس والدناقة والشايقية والجعليين بعضهم لأسباب اقتصادية وآخرون لدواعي فكرية ( صارت سياسية بعد الفتح التركي ) وكان من العلماء والفقهاء الفكي إدريس الدنقلاوي والفكي عز الدين الجامعي وغيرهما.. ومنهم التجار وأرباب المهن.. الذين أطلق عليهم في دارفور اسما جماعيا واحدا هو (الجلابة) أي الذين يجلبون السلع والبضائع . ونشط الحراك البشري في طريق الحج الغربي وتدفق العلماء مع سيل الحجاج والمهاجرين ومن تخلف منهم في دارفور وجد الفرصة أن يلعب أدواراً عظيمة مثل الفكي تمرو الفولاني والفكي مالك الفوتاوي.. حيث شغل الأول منصب (قاضي القضاة )والثاني (مفتي الديار)… و من مصر جاء الشيخ حسين ود عماري الأزهري ، وقد أشتهر بجلبه لبذور نبتة (التمباك )إلي دارفور .. والتي تعتبر حتى الآن من أهم الحاصلات النقدية لهذا الإقليم ، وهو الذي كتب الرسالة الشهيرة التي بعث بها السلطان محمد الفضل بن عبد الرحمن الرشيد إلى محمد بك الدفتردار عام 1820م والتي جاء فيها ” .. أما علمت إن عندنا العباد والزهاد والأقطاب والأولياء الصالحين من ظهرت لهم الكرامات في وقتنا هذا فهم بيننا يدفعون شر ناركم فتصير رماداً ويرجع إلى أهله والله يكفي شر الظالمين “ . وفي عهده جاء من الحجاز الشريف سرور بن مساعد من أشراف مكة المكرمة.، وجاء الشيخ محمد بن عمر التونسي برفقة والده من شمال أفريقيا . .وقد تجلى مبلغ اهتمام سلاطين دارفور بهؤلاء جميعاً في منحهم الامتيازات الهائلة التي تمثلت في الإقطاعيات المعروفة ب (الحواكير)ليعيشوا عليها وذريتهم من بعدهم .( سوف نقوم في المقالات اللاحقة بتحديد دقيق لمفهوم ” الحاكورة ” لتجدوا كيف أن دلالتها تتناقض طرديا مع التعريفين الواردين في اتفاقيتي “أبوجا “و”الدوحة “)..
ومن الآيات الدالة على حالة الانفتاح التي كانت تعيشها دارفور الاتصال بالعالم الغربي/ المسيحي لأول مرة ،عندما وصل الرحالة الانجليزي بروان إلى دارفور عام 1793م .وعندما بعث نابليون بونابرت برسالة إلى السلطان عبد الرحمن يطلب منه المساعدة تتمثل في إرسال (ثلاثة آلاف من أوسط عبيدكم ممن يصلحون للجندية ).
وفي هذا العهد انتشرت الطريقة الصوفية الوحيدة في دارفور وهي تلك التي أسسها سيدي أحمد بن محمد التيجاني المولود في الجزائر ونزيل فاس بالمغرب . ولعل الميزة الإضافية التي تميزت بها دارفور عن مثيلاتها من الممالك الإسلامية إلى الغرب منها ، هي أنها قد جعلت من اللغة العربية لغة الحكم والدواوين والتخاطب (Lingo Franca ) مع تأثير الوجود الديموغرافي المكثف للعنصر العربي في شكل سيل متدفق من العشائر العربية ووفود المثقفين.. وهو الأمر الذي مكُّنت لدارفور من أن تنوِّع مصادر ومناهل المثاقفة .. فلذلك نجد أن هذا المركب الثقافي،الإسلامي القائم على الفقه المالكي والطريقة التيجانية لم يمنع دارفور من أن تخلق علاقات ثقافية قوية ومباشرة مع مصر والمشرق عموماً… وقد ساهمت أربعة عوامل رئيسة على تمتين هذه العلاقة :
أولا : فتح رواق دارفور بالأزهر الشريف الذي أصبح المورد الإسلامي الأساسي للعلماء والفقهاء من ذوي المرتبة الأعلى في العلم بالمقارنة مع فئة الفكوا ( جمع فكي ) التقليدين.
ثانيا :تجهيز المحمل (الصُرُّة)إلى الحرمين الشريفين ، وكان ذلك أوضح دليل على أن دارفور سلطنة مستقلة لا تتبع لأي دولة ، و لو تبعية اسمية بدفع الجزية ، ما عدا الحرمين الشريفين تخدمهما بالمحمل (الصُرَّة) كل سنة .. فكان المحمل يأتي إلى مصر أولا في شكل سلع ومنتجات دارفورية مثل ريش النعام وسن الفيل والصمغ وغيرها من خيرات البلاد .. ويتم بيعها في مصر وتجهز الصرة نقدا وتحمل على بعير بطقوس معلومة وحراس بزي مميز يسيرون بها إلى الحرمين مع ركب المحمل المصري ( يتضمن كسوة الكعبة ) .. وتُصرف أموال الصرة في كثير من أوجه الخير .. مثل الإنفاق على شئون الحرمين الشريفين وشراء الأوقاف لهما ، وإعانة سدنة البيت العتيق .. ومجاوري مثوى النبي الأعظم (ص) من فقراء المدينة .
ثالثا : ساهم العلماء والفقهاء من خريجي الأزهر في تقنية و تنقيح قانون (دالي ) الشهير وأزالوا عنها كل ما يتنافى مع القواعد الشرعية الإسلامية .
ثالثا: ازدهار التجارة عن طريق (درب الأربعين) الذي يربط الفاشر بأسيوط . وقد ساهم هذا النشاط التجاري على انتقال كثير من أنماط القيم ومظاهر الحضارة إلى دارفور ، حيث أخذ بناء القصور والمساجد وبيوت الأثرياء وعلية القوم يحاكي الطرز المصرية بإدخال نمط البناء بالطوب المحروق ( بعيدا عن خزعبلات آركل ومن شايعه حول وجود كنسية مبنية بالطوب الأحمر في عين فرح !) .. فقد وصل التأثير حتى إلى بعض التقاليد الاجتماعية ؛ مثل الملابس والأزياء . وأصبحت مصر مصدراً أساسياً لجلب كثير من السلع والبضائع مثل الكتب وأدوات الكتابة والأسلحة والأثاث المنزلي ،خاصة أدوات الطبخ ، والتي انتقلت معها فنون الطبخ حتى كاد أهل دارفور أن يتفوقوا على المصريين في هذا المضمار إذ يقول محمود طلعت بهذا الصدد ” أهل دارفور يمتازون على جميع سكان السودان بتجويد طبخ الأطعمة ، ولهم أواني طبخ رائعة الأشكال تسهل رؤيتها على من يطلبها في القاهرة عند أعقاب ملوك دارفور المقيمين بها”. ( يقصد حاشية الأمير حسب الله المأسور الذي أُسكِنَ بالقرب من سوق السلاح في القاهرة ).
ومن الواضح أن حجم التجارة كان كبيراً إلى الحد الذي يجعلنا أن نقر بأن سلطنة دارفور قد بلغت شأواً من المدنية والرقي والثراء لا يضاهيها أياً من الممالك المعاصرة لها مثل سنار في الشرق ووداي في الغرب ، إذ يتأكد لنا ذلك مما ورد في مدونات الرحالة العرب والغربيين على حد سواء .. ممن زاروا السلطنة في العقد الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي .. و من خلال ضخامة القوافل والسلع التي تجلبها. إذ يقدر الرحالة الأنجليزي براون حجم القافلة التي رافقها من القاهرة إلى الفاشر عام (1797م) بخمسمائة جمل .. وقيمة البضائع المحمولة على ظهورها بمائة ألف جنيه انجليزي ، ويبدي دهشته لوصف رفاقه للقافلة بأنها صغيرة ، وأن القوافل الكبيرة عندهم تتكون من ألف إلى ألفي بعير. وأما السلع والبضائع المجلوبة من مصر فيعددها براون في قائمة طويلة أهمها الحلي الذهبية والفضية والنحاسية والخرز المرجانية والعود والمسك ومسابح العنبر والأحزمة والنعال الجلدية والسجاد الفارسي والعباءات الدمشقية والدروع النحاسية والألبسة القطنية المصرية والشالات الكشميرية والمآزر الحريرية والسيوف الألمانية والبنادق الإنجليزية والأدوات المنزلية الإيطالية والعطور والمرايا الفرنسية والورق والصابون الشامي والكحل …الخ وأغلبها- كما ترون- سلع كمالية لا يمكن تسويقها إلا في مجتمع فاحش الثراء .. تسري في أوصاله روح المدنية والتحضر . وكان يجلب من مصر عن طريق دنقلا نوعين من الحُمر المصرية الممتازة الأول ” الريفاوي” نسبة لريف مصر وهو أجود الأنواع لسرعتها والثاني (الداراوي ) نسبة لبلدة ( دراو) في صعيد مصر وهو أقل جودة من الأول ولكنه يتفوق في سرعته علي الحُمر الأهلية المحلية المعروفة ب(المكادي) ربما تحريف (مكاري)!.
أما القوافل القادمة من دارفور إلى مصر فتجلب معها الرقيق وسن الفيل (العاج) وخشب الأبنوس وعسل النحل وريش النعام والجلود الخامة والحيوانات الحية خاصة الإبل والحيوانات النادرة التي تستغل في الأنس والتسلية مثل القرود والنسانيس .
توفى السلطان العظيم عبد الرحمن عام 1801م .. وأطلت فتنة صراع الأخوة على العرش برأسها متمثلة هذه المرة بين الأمير محمد أبو مدين بن عبد الرحمن وأخيه غير شقيق محمد الفضل بن عبد الرحمن وأصبحت الغلبة للأخير بعد أن انحياز الوزير الأول وهو محمد كرا الذي ساعد والدهما لاعتلاء العرش - والغريب أن الفضل تخلص من أب كرا بقتله فيما بعد-.. وعندما علم الأمير أبو مدين بنية أخيه عازم على قتله تسلل لواذا في جنح الليل ويمم وجهه تلقاء سنار ..وبعد مطاردة حيثيثة ومعارك طاحنة دلت بأن أبا مدين كان صنديداً مغواراً أفلت من الخنق ..وجد السير حتى وصل النيل ومنها إلى مصر ، وأكرم الباشا الجديد (محمد علي ) وفادته وجهزه ضمن حملة ابنه إسماعيل وصهره محمد بك الدفتردار لضم دارفور أيضاً ..وليس سنار وكردفان فقط .. وكانت الخطة أن يعرج الأمير أبومدين على جنوب دارفور ويمر ببلاد عرب الرزيقات الغيورين على استقلالهم فطالما شن هؤلاء غارات جريئة وجشعة على أراضي الفور لأقل الأسباب والدوافع فكان من المتوقع إنهم سوف يرحبون بالأمير الطموح والمدعوم من الباشا.. ولكن مقتل إسماعيل في شندي حرقاً وتفرغ الدفتردار لحملاته الانتقامية حال دون التقدم نحو دارفور .
وبدأ التدهور والانحدار ( وهو موضوع المقال القادم )


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.