ناقش اللقاء التفاكري الثاني حول الأزمة السودانية، والذي أمه خمسون من المثقفين والمفكرين والأكاديميين السودانيين بالدوحة القطرية في الفترة 22-24 سبتمبر 2012م، العديد من الملفات، وصولا للصيغة الأجدى لتحقيق الإجماع الوطني، مناديا بمؤتمر للمائدة المستديرة يحضره الجميع بدون إقصاء. وكانت (حريات) نشرت أمس خبرا عن اللقاء وخلفيته واللجنة الثلاثية التي نظمته (د النور حمد , د عبد الله علي إبراهيم، ود عبد الله الفكي البشير)، كما نشرت البيان الصادر عنه بعنوان (نداء إلى أهل السودان). وسوف تواصل (حريات) نشر ما رشح من جلساته التي عقدت بعيدا عن الإعلام، وتمت الإشارة الي ان اللقاء ينعقد تحت قاعدة تشاتام هاوس، والتي تنص على الحرية في التداول على ألا تنشر التصريحات منسوبة لقائليها بالاسم بل مبنية للمجهول. وسوف تلتزم (حريات) بهذه القاعدة في نشر المداولات من جهة، كما سوف تنشر المداخلات التي سمح أصحابها بنشرها منسوبة إليهم من جهة أخرى. احتوى اللقاء الذي عقد على مدى ثلاثة أيام على جلسات خصصت لمناقشة ملفات مختلفة في تشخيص الأزمة السودانية، وفي تحديد مصطلحات الحلول، والنظر في التجارب العالمية والوطنية في الانتقال من الشمولية للديمقراطية ومن الحرب للسلام، وأخيرا في استعراض سيناريوهات الخروج من النفق، وصياغة مشروع الإجماع الوطني المبتغى. الأزمة في الاقتصاد والسياسة كانت أول جلسة عمل مخصصة لتشخيص الأزمة حول الاقتصاد والسياسة، تحت عناوين جانبية كالتالي: الديمقراطية، الدستور، التشارك في الموارد والسلطة، الهامش والمركز، البديل، الانتفاضة والثورة المسلحة. وقد أكدت على أبعاد الأزمة وأنه لا بد من إعادة بناء الوطن في منصة تكوين جديدة تحل دولة المواطنة محل دولة المظالم، وكان هناك تأكيد من البعض أنه ما لم ترى قوى الهامش نفسها في قمة السلطة فإن أي حل يعيد إنتاج الماضي كما هو سوف يؤدي إلى إعادة تولد الأزمة من جديد. وتمت الإشارة لتراجع الولاء للهوية الجامعة وصار الولاء للهويات الفرعية جهوية وقبلية ودينية، وفي وجود مفهومين للهوية: تواصلي يوفر بيئة مناسبة للاستقرار، واستبعادي بمعنى التركيز على الاختلاف عن الاخر والابتعاد عنه او اسبتعاده والتضييق عليه والسعي لتهميشه، ساد المفهوم الأخير والذي تشكل جريدة الانتباهة مثال له. مما ينتج الصراع والعنف والكراهية بدلا عن التسامح والتعايش. وتمت الإشارة لأن غياب التساكن الإيجابي المبدع أدى للجوء لأماكن آمنة كالقبيلة والجهة وغياب فكرة الوطن أدى لفضاء قادر عن التعبير عنك: هي القبيلة. وهذا بدوره أنتج فكرة الاسترضاء بإستبقاء الجماعة في الشرق ودارفور أن: ارجوكم ابقوا معنا. وأنه ما لم نصل لصيغة دولة المواطنة فإن جماعة أخرى ربما أدارت ظهرها للوطن كما حدث في الجنوب والشروط متوفرة في آخرين. وتحدث متداخلون عن وجود أساس نظري للتهميش كما في الدعوة الصريحة إليه في كلام وزير المالية الاسبق: مثلث حمدي الشهير. وطالب متحدث بإعطاء مناطق كالنيل الازرق وجبال النوبة الحكم الذاتي، مطالبا بنظام علماني في المنطقتين وهي مناطق لديها امكانيات وموارد ويمكن أن تكون مثالا جيدا جدا للسودان وعبارة عن تحد لو نجحت التجربة لتعمم. وتم نقاش لفكرة استعادة سلطة المثقفين كما في مؤتمر الخريجين، باعتبار أن هناك أساطير مؤسسة في السياسة السودانية منها مؤتمر الخريجين، فقد أثبت أن المثقفين أصيبوا منذ وقت باكر بداء الانقسامات وكانوا السبب في الأزمة الوطنية، وأن السؤال حول تثقيف النخبة السياسية السودانية هو كيف يمكن أن نضيف لها بعدا إنسانيا وأخلاقيا لتجاوز المفارقة بين الشعار وبين الممارسة والواقع. فالنخب السياسية تتحدث عن شعارات معينة والممارسة مفارقة للواقع واذا اردنا استعادة سلطة المثقف لا بد من مراجعة حقيقية لدور المثقف. وكانت هناك ملاحظة مبدئية حول نظرية الإنقاذ الاقتصادية وتناقضها مع الشعار، وطرح السؤال: لماذا لجأت دولة الخيار الحضاري للاقتصاد المتوحش وهي أكثر الاتجاهات المتطرفة في الرأسمالية الغربية أو ما يسمى بالليبرالية الجديدة. العجيب أن الليبرالية الجديدة المتطرفة بنت أكثر الاتجاهات الإلحادية في الفكر الغربي. فلماذا تاتي الدولة الحضارية وتتبنى أكثر الاتجاهات الالحادية في الفكر الاقتصادي العالمي؟ الأزمة في التعليم والصحة والخدمات وفي الجلسة الثانية تم نقاش الأزمة حول التعليم والصحة والخدمات العامة، وقد ظهرت مشاكل في مدى بؤس الصرف على الخدمات حيث أشير إلى ان نسبة الصرف على التعليم أقل من 1% من الموازنة وحددها البعض ب0,3% رجوعا للتقرير الأفريقي للصرف على رفاه الطفل لعام 2010م، وتمت المقارنة بما حدث في بلدان كماليزيا استطاعت ان تحدث نقلة بالصرف على التعليم بنسبة 20%. كما تطرقت الجلسة للاتجاه لتصفية العلاج المجاني وخصخصة العلاج والمدارس الحكومية المتمثل في بيع المستشفيات العامة والمدارس الحكومية، وكذلك الفساد في هذين القطاعين، وسوء المناهج التعليمية وحشوها بغير المفيد وبما يبلبل التلاميذ، وما تعج به من عناصر كراهية وتأليب ضد الآخر، ودونية للنساء وغيرها من مشاكل المناهج الحالية، وتم الاستشهاد بسقوط ثورة التعليم العالي والسوء البالغ الذي وصل إليه الحال في الجامعات، بل والسقوط والتردي المريع حتى في معرفة اللغة العربية ناهيك عن الإنجليزية. وأشار متحدثون في الجلسة لأن المناهج تغيب تاريخ مناطق بعينها وتعليل البعض بأن الحديث مثلا عن نوبية الأصل في الشمال سوف يتعارض مع ما يظنه الناس عن نفسهم، وتم الاتفاق على أن المناهج لا تعكس مرآة صادقة للتنوع الثقافي والتاريخي والجغرافي في السودان. وكان هناك تركيز على اللا مساواة الظاهرة في توزيع الخدمات على بؤسها العام، وقدم متداخلون أرقاما تفصيلية تظهر الفروقات الكبيرة في الحظوة بين الولايات المختلفة من ناحية التعليم والصحة، مثال لذلك أن هناك 66 طبيب لكل مائة الف شخص في الخرطوم و3 أطباء لكل مائة الف شخص في دارفور. مصطلح مشروع الإجماع في الجلسة الثالثة من اليوم الأول جرى الحديث عن المصطلح ومداولات حول مشروع الإجماع الوطني (وفاق وطني، تسوية وطنية، مساومة تاريخية، تراضي وطني، مصالحة وطنية، حل شامل)، وتمت الإشارة لأن بعض المصطلحات ارتبطت بتجارب فاشلة كما في المصالحة مع نميري في السبعينات أو اتخذت صبغات حزبية كما في مصطلح التراضي الذي نادى له حزب الأمة، وانتقد البعض استناد المصطلح الى مواقف عاطفية (مثل عناق الآخر) الذي تمت مداولته في الندوة فيما بعد، وفي النهاية كان الاتفاق على أن مسمى الصيغة الإجماعية ليس المهم، بقدر ما تأتي الأهمية لوصف تلك الصيغة ومكوناتها وآلياتها وما تؤدي إليه. ومع أن هذه الجلسة علقت الحديث عن المصطلح، إلا أن الملتقى التفاكري غلّب في النهاية العودة لمسمى (مؤتمر المائدة المستديرة) باعتبار أنها كانت تجربة رائدة في التلاقي الوطني، لعب فيها المثقفون دورا مفتاحيا.