محجوب محمد صالح [email protected] الغارة التي شنتها المقاتلات الإسرائيلية على مصنع اليرموك العسكري في قلب العاصمة السودانية الخرطوم قبل عشرة أيام تمثل نقلة نوعية في الاستهداف العسكري للسودان لا يمكن –ولا ينبغي– الاستهانة بها أو بنتائجها وتداعياتها لأنها صعدت بهذه المواجهة إلى قمة خطيرة بعد أن بدأت بهجمات محدودة على مناطق صحراوية معزولة على سواحل البحر الأحمر عام 2009 ثم تحولت إلى هجوم على سيارة مدنية في مدينة بورسودان الساحلية، ثم تصاعدت الآن لتأخذ شكل عملية عسكرية كبرى محكمة التخطيط والتنفيذ وتم الإعداد لها على أعلى المستويات واستعملت فيها تقنيات متقدمة ونفذت بنجاح كامل، إذ لم يتعرض سرب الطائرات الذي نفذها إلى أي مواجهة أو مخاطر منذ أن غادر قاعدته في النقب على بعد ألفي كيلو متر من الخرطوم إلى أن عادت الطائرات إلى قواعدها سالمة بعد أن أنجزت مهمتها. وبحسب صحيفة صنداي تايمز اللندنية فإن التخطيط لهذه العملية أشرف عليه قائد سلاح الطيران الإسرائيلي عمير راسل ورئيس هيئة الأركان بين قانتر وشارك فيها سرب من الطائرات الحربية على النحو التالي: أربع طائرات من طراز (أف15) المقاتلة، كل منها يحمل قنبلتين زنة القنبلة طن من المواد المتفجرة. أربع طائرات من طراز (أف15 سي) لحماية المقاتلات الإسرائيلية من أي هجمات جوية يمكن أن تتعرض لها من سلاح الجو السوداني. طائرتان هيلوكبتر من طراز (باسور) تحملان قوات خاصة لإنقاذ أي مقاتلين تصاب طائراتهم وإجلائهم من الموقع. طائرة واحدة من طراز (قلف استريم) للتشويش الإلكتروني لأجهزة الرادار المصرية على سواحل البحر الأحمر وأجهزة الرادار في مركز التحكم الجوي الدولي في جيبوتي وأجهزة الرادار السودانية على سواحل البحر الأحمر ومطار الخرطوم. ولا أعتقد أن وقوع هذا الهجوم كان مفاجئاً لأولئك الذين ظلوا يراقبون ما يتردد حول السودان في الصحافة الإسرائيلية أو يتابعون التسريبات الاستخبارية الإسرائيلية المتعلقة بالسودان، فهي مافتئت تشير إلى أن السودان أصبح معبراً للسلاح الإيراني وللجماعات الجهادية المتجهة نحو غزة أو حزب الله، وقد زاد تكرار هذه الاتهامات مؤخراً بصورة توحي بأن محوراً جديداً قد تشكل من إيران وحزب الله وغزة والسودان، وأن ذلك المحور يستهدف إسرائيل وأن إسرائيل من حقها القيام بعمليات استباقية لحماية نفسها، وكان واضحاً أن الهدف من كل هذه (التسريبات) هو تهيئة الأجواء لمثل هذه العمليات العسكرية مستهدفة السودان الذي اعتبرته إسرائيل حلقة الوصل بين كافة هذه الأطراف. وقد كتبت قبل أكثر من شهرين (في 13، 16 أغسطس) الماضي في صحيفة الأيام، مشيراً لهذه الملاحظة بعد متابعة لصيقة للإعلام الإسرائيلي، إذ ردد إعلام إسرائيل آنذاك أنباء عن أن حكومة إسرائيل لفتت نظر الحكومة المصرية إلى خطورة الأوضاع على حدودها الجنوبية مع السودان وأوحت لمصر أن كل ما تعانيه من مشاكل أمنية في سيناء، إنما يأتي من السودان وأن ذلك الخطر يتسرب من مصر إلى قطاع غزة، ومن هناك يستهدف إسرائيل ثم نشر مركز أميث العالمي للإرهاب والاستخبارات تقريراً قال فيه إن مجموعة إرهابية توجد جذورها في السودان ودول أخرى بدأت تتسرب إلى سيناء لتمارس نشاطاً إرهابياً ضد إسرائيل. يومها كنت أطالب الحكومة في الخرطوم أن تأخذ هذه التسريبات مأخذ الجد وأن تتوقع هجمات إسرائيلية على ضوء هذه (المبررات)، وطالبت بتحرك (دبلوماسي) لاحتواء هذا التهديد وقد ركزت آنذاك على الجهد الدبلوماسي لإفشال المخطط لأن ميزان القوى العسكري ثابت لصالح إسرائيل، وهي تملك من التفوق التكنولوجي ما يتيح لها أن تنفذ مخططاتها العسكرية ضد السودان بل ضد معظم الدول العربية، وأنه ليس هناك من وسيلة لإحباط تلك المخططات سوى المواجهة (الدبلوماسية) التي تكشف أبعادها والتي تستنفر العالم للوقوف ضد هذه الانتهاكات. ولكن المواجهة (الدبلوماسية) لا يمكن أن تنجح إلا إذا استغلت (القوة الناعمة) للدولة السودانية وهي قوة لا تتوافر لأي دولة ما لم تتحقق اشتراطات معينة في مقدمتها أن تكون هناك استراتيجية قومية للأمن القومي، فالأمن القومي ليس شأناً (حكومياً) إنما هو قضية دولة تهم كل أهل الوطن، وليس مجرد قواعد تحددها حكومة ما، كما أن نجاح الاستراتيجية القومية يحتاج لجبهة داخلية موحدة ولا يتحقق ذلك في بلد يعيش في حروب داخلية واحتقان سياسي واجتماعي واقتصادي يمزق نسيجه الاجتماعي، وتحتاج الاستراتيجية القومية –ثالثاً– لتحالفات ذكية مع الدول الأخرى تقوم على مبدأ (المصالح والمنافع المتبادلة) لا على أساس (المحاور المغلقة) التي لا تستهدي بمصالح كل أهل السودان، والسودان يعاني من خلل على المستويات الثلاثة مما يضعف تماماً قدرته على الحراك السياسي الدولي الناجح، وهو فوق هذا وذاك يعاني عزلة ومن تعدد مراكز صنع القرار ومن الخطاب غير المنضبط ومن الارتباك في السياسات– وليس أدل على ذلك أن التصريح الأول الذي صدر عن هذه الغارة الجوية لم يصدر من الجهة المسؤولة عن المصنع والمالكة له وهي القوات المسلحة، ولا عن قوات الدفاع المدني التي كانت أول من دخل الموقع وعرف أبعاد الهجوم، إنما من والي ولاية الخرطوم الذي جاء بيانه خاطئاً في كل محتوياته، إذ أكد أن الانفجارات ناتجة عن (احتكاك) في المتفجرات المخزنة، وأنه ليس هناك أي مؤثر خارجي في هذه الواقعة، وأنه ليس هناك ضحايا، وظل ذلك هو الموقف الرسمي لمدى خمس عشرة ساعة إلى أن جاء بيان مجلس الوزراء، ليؤكد أنه عدوان خارجي شنته إسرائيل وأن هناك ضحايا، وهناك دمار مما خلق حالة من الارتباك في تعامل الإعلام العالمي مع الواقعة. هناك دول كثيرة أصغر من السودان حجماً وإمكانات تعيش في سلام لأنها استطاعت أن تحدد استراتيجية أمنها القومي وتبني مرتكزاته على مصالح شعبها بكامله لا مصالح ومواقف وأفكار نخبها الحاكمة، ولأنها تعتمد على تحالفات ذكية لا على محاور مغلقة وتتخاطب مع الجميع بخطاب منضبط وعلى جبهة داخلية موحدة حول أمنها القومي، وبالتالي توفر الحماية لشعبها بهذه القوة الناعمة لأنها تدرك أنها لا تملك من أسباب القوة المادية ما يحميها من العدوان الخارجي– وهي تدرك أن هذا يتحقق عندما تكون جبهتها الداخلية متماسكة عن رضا وقبول ومشاركة، لأن ذلك هو الوضع السليم لاستراتيجية قومية تحمي الأمن وتوحد الأمة في مواجهة التحديات، أما إذا حدث خلل في هذه المعادلة فإن الأمن الخارجي لن يستقيم، إذ كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟