[email protected] تفاءل الكثيرون بتوقيع مجموعة من الاتفاقات بين حكومتي السودان وجنوب السودان مؤخراً في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا لمعالجة القضايا العالقة بين البلدين منذ انفصال الجنوب؛ إذ كان الخلاف حول بعض هذه القضايا العالقة -وفي مقدمتها الإجراءات الأمنية والنفط- يهدد بعودة البلدين لمربع الحرب مرة أخرى، ولكن رغم هذا التفاؤل فقد كان البعض على قناعة بأن الاتفاق لن يصمد طويلاً لأن شيطان التفاصيل سيطل برأسه حينما تبدأ مرحلة التنفيذ؛ ولذلك جاء ذلك التفاؤل مشوباً بكثير من الحذر. ولقد كانت ولادة الاتفاق في البداية عسيرة, وما كان الوصول للاتفاق ممكناً لولا ضغوط عديدة مارسها المجتمع الإقليمي ممثلاً في الاتحاد الإفريقي والمجتمع الدولي ممثلاً في مجلس الأمن, الذي أصدر القرار 2046 تحت البند السابع من ميثاق الأممالمتحدة, حاملاً تهديداً واضحاً وصريحاً بإنزال عقوبات دولية على الطرف الذي يتسبب في عرقلة الوصول إلى الاتفاق, وقد جاء التوقيع على الاتفاقات تحت سيف هذا التهديد, مما جعل كثيراً من المراقبين يتوقعون أن تظهر الخلافات من جديد حالما تبدأ مرحلة التنفيذ. وللأسف فإن هذا هو ما حدث بالضبط الأسبوع الماضي عندما أكمل الجنوب استعداداته لضخ النفط عبر خط الأنابيب الشمالي الذي ينقل نفط الجنوب إلى ميناء التصدير على البحر الأحمر, وحدد الجنوب اليوم الخامس عشر من هذا الشهر موعداً لعودة ضخ النفط من آبار الجنوب ودخوله الخط الشمالي الناقل, وإذا بالجنوب يفاجأ بقرار الخرطوم بعدم استقبال نفط الجنوب في الخط الناقل ما لم يحسم الملف الأمني أولاً, فاضطر الجنوب لأن يؤجل ضخ النفط إلى موعد آخر يحدد بعد أن يحسم هذا الخلاف الجديد بين البلدين. هذا التطور يعد مؤشراً إلى أن (النفط) سيظل عنصراً أساسياً في العلاقة الثنائية, ورغم أنه يشكل مورداً هاماً للحكومتين فإن الجنوب أكثر حاجة لمورده المالي الذي يشكل %98 من دخل حكومة الجنوب, ولذلك فهو شريان حياتها الوحيد, وهي أكثر اعتماداً عليه من الشمال, وليس في إمكان الجنوب بحكم أنه دولة داخلية مغلقة أن يصدر برميلاً واحداً من النفط الآن ولعدة سنوات قادمة إلا عبر الشمال. الخرطوم تدرك أن هذا الواقع يوفر لها قوة ضغط على الجنوب تريد أن تستثمرها في معالجة ملف يثير قلقها هو ملف الحرب الدائرة في ولايتين من ولايات السودان -النيل الأزرق وجنوب كردفان- حيث تدور حرب شرسة يديرها ضد الحكومة قطاع الشمال من الحركة الشعبية والحكومة السودانية ما زالت تتهم حكومة الجنوب بأنها تدعم هذا القطاع في حربه ضدها بحكم أنهم كانوا قبل الانفصال جزءاً من جيش الحركة, والخرطوم لا تريد من حكومة الجنوب فك الارتباط مع قطاع الشمال فحسب, بل تريد تحالفاً بينها وبين الحركة لاحتواء قطاع الشمال على غرار التحالف الذي أنشأته مع دولة تشاد ورئيسها إدريس دبي لمحاصرة حركة العدل والمساواة في دارفور, وهو مطلب عصي التحقيق بالنسبة لحكومة الجنوب, وغاية ما يمكن أن يطرحه الجنوب هو (فك الارتباط) العضوي مع قطاع الشمال. المواجهة بين الطرفين في هذا الإطار ستعود بهما إلى سيناريو الحرب بالوكالة والوقوف على حافة الهاوية -والضغط بسلاح البترول ما عاد مجدياً بعد أن أثبت الجنوب أنه بمحض اختياره قادر على وقف الضخ رغم الضرر البالغ لذلك القرار على اقتصاده- بالإضافة إلى أن هذا الصراع الحالي آخذ شكلاً إقليمياً ودولياً, وأصبح مجلس الأمن في موقف يسمح له أن يتدخل مباشرة في فرض الحلول ما لم يغادر الطرفان هذه المحطة باعتماد استراتيجية جديدة, تدرك أن النفط في هذه المعادلة سلاح ذو حدين فهو يمكن أن يكون مدخلاً لصراع انتحاري من ناحية كما يمكن من ناحية أخرى أن يكون عنصراً هاماً من عناصر التكامل الاقتصادي لمصلحة الشعبين, وقد آن الأوان للانتقال من استراتيجية المواجهة إلى استراتيجية التكامل بعيداً عن سيناريو عض الأصابع الحالي. قضية الولايتين في نهاية المطاف قضية سودانية داخلية بحتة يمكن علاجها بسياسات جديدة, وهي قضية سياسية لن يحسمها السلاح, والمدخل إلى علاجها لن يوفره الجنوب إنما يوفره نظام حكم سوداني يبني الوحدة الوطنية على التراضي لا على القمع وإدارة الحوار الرشيد والوصول إلى المعادلة الديمقراطية الصحيحة التي تلبي تطلعات المواطنين, وما لم يتوفر حكم ديمقراطي راشد قادر على الاستجابة لكافة المطالب والتطلعات المشروعة لكل أقاليم السودان فإن سيناريو التمرد والاحتراب وحمل السلاح لن يتوقف, وسيظل السودان يعاني من كوارثه التي تهدد وحدة البلاد, وعلى أية حال فإن قضية الولايتين واردة كبند منفصل في القرار 2046, الذي يطالب بمفاوضات مباشرة بين حكومة الخرطوم وقطاع الشمال بوساطة إفريقية، وعلى ضوء اتفاق سابق كان المؤتمر الوطني قد رفضه. فلماذا الخلط بين قضية النفط وقضية الولايتين التي سيبدأ الحوار حولها لاحقاً؟ إذا استطاع الطرفان أن ينفذا قرار إنشاء منطقة حدودية منزوعة السلاح وضخ النفط عبر خط الأنابيب فإن الأجواء ستتهيأ لحوار أفضل, ونتوقع أن يطالب مجلس الأمن بذلك، وفي نهاية المطاف ستجد مطالب مجلس الأمن موافقة الطرفين تحت تهديد المادة (41). فلماذا لا يفعلون ذلك الآن وبمحض اختيارهم قبل أن يطالب به المجلس؟ أزمة الولايتين لن يحلها إلا تغيير جذري في الشمال يقود إلى حكم ديمقراطي راشد, يجد فيه كل أهل السودان أنفسهم!.