محمد ناجي الأصم منذ قدومه على صدر الأمة السودانية في غياهب يونيو 89 ظل نظام التفرقة العنصرية والتقتيل الجماعي يطور من أساليبه يوما بعد يوم في إحباط وتثبيط نضالات الشعب الساعية في فترات متواصلة عبر الحقبة السوداء للحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية . الأمة السودانية التي تمكنت بكل عزة وشموخ من إسقاط دكتاتوريات سابقة كانت الأوضاع في فترات حكمها أفضل بكثير من المأزق الحالي وفي كل النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، تبدو اليوم وكأنها تقف على الرصيف وتتابع في فيلم طويل وممل جدا لا يد لها في تغيير تسلسل أحداثه . وفي خضم كل ذلك كان لابد علينا نحن الذين نريد زوال هذا النظام اليوم قبل الغد كان لابد علينا أن نقيم النظام بقيمته الحقيقية وأن نكف عن عمليات التطمين السالبة التي نمارسها على أنفسنا وعلى الشعب السوداني بمقولات تطغى عليها الحماسة أكثر بكثير من المنطق والواقعية ، فلا فائدة حقيقية ترجى من حديث بملء الفم عن نظام ضعيف ولكن نفس هذا النظام حكم شعوب السودان لقرابة الربع قرن ، ولانتيجة نرجوها من اندفاع غير محسوب العواقب مبني على فرضية أن مثل هذا النظام يسقط بخروج 100 شخص فقط إلى الشارع أو بشهيد أو … ، فكل ذلك قد حدث فعلا وبجرعات مضاعفة ومازال نفس النظام الضعيف يجثم على صدورنا نحن الأقوياء . إذا أولى الخطوات نحو إسقاط النظام تبدأ بالبحث عن العوامل التي أبقت عليه كل هذه الفترة متحكما في مصير الأمة السودانية ومعرفة الوسائل المختلفة التي تمكن عبرها من تجاوز أزمات عويصة وتحديات جمة ظن الكثيرون أنها ستسقطه لا محالة ، ثم لابد علينا أن نلتفت إلى مسألة في غاية الأهمية وهو السؤال المحوري الذي يجب علينا أن نجيبه توافقيا ، وهو(( لماذا نريد إسقاط هذا النظام ؟؟ )).. الإجابة عن السؤال أعلاه يمكن أن نعتبرها المحور الذي وجب أن تدور حوله تحركاتنا وخططنا الساعية لوطن أفضل ، وربما هذه هي الإجابة نفسها ( وطن أفضل ) ولكن وطن أفضل لمن؟ وكيف يكون الوطن أفضل ؟، المقصود هنا هو الإشارة إلى التباين الشاسع في المقاصد التي تدفعنا نحو التفكير في إسقاط النظام ، فبينما يرى العديد من الناس الوطن أفضل إذا تمكنوا من إيجاد فرص للعمل واستطاعوا تحمل اقتصاديات تحفظ لهم أدنى متطلبات العيش الكريم ، هناك الكثيرون من أبناء هذا الوطن المأزوم سيعتبرون الوطن أفضل إذا وفر لهم الصحة والتعليم والمياه النظيفة ، وبالتأكيد هنالك من سيرونه أفضل إذا لم يقتلهم أو يشردهم …إذا هو ترتيب لأولوياتنا في الحراك نحو الوطن الأفضل ، فلا يستقيم أن نطالب بوضع معيشي أفضل ونتناسى الموت المزمن في أطراف البلد ، أو أن ننادي بأداء رياضي متقدم متجاهلين أمنا جليلة وأمثالها الكثر المظلومون داخل زنازين العصبة ذات البأس ، فلابد وحتى يصبح صوتنا أقوى أن نرتب أولوياتنا ونوحد النداء … كل ذلك يتماشى مع التغيير اللازم حدوثه في طريقتنا كشعب سوداني في التعامل مع الأحداث المختلفة التي تمر بها الأمة السودانية ، فالحوجة الآن إلى تفاعل أكبر مع الأحداث بلغت الحد الذي لم تبلغه في أي وقت سابق ، فلا يصح بأي وضع كان أن يكون اهتمام غير السودانيين بالقضايا السودانية أكثر من السودانيين أنفسهم ، فمثلا أحداث مجزرة شاوا التي كانت في بداية نوفمبر وأسفرت عن عشرات الضحايا والمفقودين والتي خرجت من بعدها الجموع غاضبة في الفاشر ؛ضعيف جدا كان صداها في الشارع السوداني العام في الحين الذي نجدها متداولة في وسائل الإعلام العالمية، فخبث هذا النظام يتضح جليا في هذه النقطة بالتحديد فلقد تمكن عبر السنين الطوال من تفتيت عرى النسيج الاجتماعي ونجح في عمليات العزل والتفرقة كما لم ينجح ربما حتى المستعمرين أنفسهم وأوصلنا اليوم إلى مجتمع بدائي قبلي فرداني يبحث كل مكون فيه عن نجاح محدود أنوي يتدرج من رئاسة الجمهورية إلى الولاية فاتحاد الجامعة وربما لاينتهي عند المنزل أو السيارة ، باختصار نحتاج لعملية إنعاش عاجلة للضمير السوداني ، الضمير الجمعي الذي يوحد كل السودانيين مع بعضهم البعض ويخرج الشعوب السودانية من حالتها الفردانية إلى رحاب الإحساس والتفاعل الجماعي . ونظل نحلم ليس فقط بإسقاط نظام هو زائل لا محالة ولكن بثورة شاملة تزيل الكثير من الخطايا التي تقبع في متاهات عقولنا ومجتمعنا ، ثورة نؤمن فيها بأن الديمقراطية والمزيد من الديمقراطية هي السبيل الوحيد لأمة متقدمة ، ثورة تساوي بين جميع أبناء الوطن ، ثورة لاتعفو عن من أخطأ بل تحاسبه بكل عدل وأمانة ، وإن غدا لناظره لقريب