الخالة/ فضيلة تيّة كوفي كنت أعمل، كنت أزرع، لكنّني الآن أحبو..! (2) {ثمّة علمانيّات بلا ديمقراطيّة، لكن ليس ثمّة ديمقراطيّة واحدة بلا علمانيّة} محمد عابد الجابري إذا كانت الخالة/ فضيلة قد صارت تحبو، بفعلة الطائرات، فما الذي أقعد أحزاب الشمال التقليديّة التي ما فتئت تحبو منذ عشرين عام..؟!! إذا صدق الصادق المهدي هذه المرّة (أعلن أنّه سيترك الزعامة والإمامة، ليتفرّغ للبحوث والدراسات) فسيكون قد قدّم خدمةً جليلة لحزبه، ولشعوب السودان قاطبة. وسينال قصب السبق كأوّل زعيم حزبي وروحي يتخلّى عن هذه المناصب طوعا وإختيارا، ليفسح المجال لقيادات جديدة. فما أقعد بهذه الأحزاب التليدة سوى التشبّث، بلا منطق أو رويّة، من قِبل زعمائها بأن يظلّوا زعماء للأبد! فليس من المعقول أن يظل خطاب هذه الأحزاب هو هو، منذ ما قبل الإستقلال وإلى الآن؛ وبعد إنتفاضتيْن، والتحوّل العالمي من قطبيْن إلى القطب الواحد؛ ومن بعد إنقلاب البشير/الترابي والكوارث التي تلت ذلك؛ وبعد أن رفعت شعوب الشرق والغرب والجنوب السلاح في وجه نظام فاشي وفاسد! وزعامات هذي الأحزاب لا تزل تلوك خطابها الذي لا يتبدّل أو يتحوّل برغم تبدّل السودان، و العالم من حولنا. ومن العجب العجاب لهذه الأحزاب، أنها وافقت و وقّعت مع “الحركة الشعبيّة" على “حق تقرير المصير" ومن ثمّ أتت تنوح، بعد الإنفصال، وتتهم “الحركة" بالخيانة. فمن خان مَن؟!! كتب د/ سلمان محمد أحمد سلمان: {تعود بداية الحقبة الطويلة من الحرب بين الشمال والجنوب، والتي ظلت ملأى بالمرارات والموت والدمار ونقض العهود وإهدار فرص السلام، إلى عام 1955. ففي أغسطس من ذاك العام تمرّدت كتيبة الاستوائية بمدينة توريت إثر قرار نقل أفرادها إلى الشمال. غذّت هذه الحرب إخفاقاتٌ كبيرة من الشمال تمثّلت في نتائج السودنة التي أعطت الجنوبيين ست وظائف فقط من ثمانمائة وظيفة، وفي تمثيل الجنوبيين في حكومة السيد اسماعيل الأزهري الأولى في يناير عام 1954 بثلاثة وزراء دولة جنوبيين بلا أعباء (وهم السادة سانتينو دينق وبولين ألير وداك داي) – أكرر وزراء دولة بلا أعباء (وهي الوظيفة التي أسماها السياسي الجنوبي المخضرم السيد كلمنت أمبورو ساخراً “نصف وزير ما عندو مكتب.”) وقد كانت تلك أول وآخر مرة نسمع فيها بوظيفة وزير دولة بلا أعباء. لقد عكس ذاك التمثيل استخفاف السيد اسماعيل الأزهري وحزبه بالإخوة الجنوبيين. غذّت هذه الحربَ أيضاً ردةُ الفعل غير المسؤولة وغير المناسبة لتمرّد توريت حيث تمّت محاكمات ميدانية عاجلة حكمت بالإعدام والسجن لفتراتٍ طويلة على عددٍ كبير من الجنوبيين، مما ساهم في هروب الآلاف منهم ليكوّنوا نواة حركة التمرد الأولى. ولا بد من الإشارة هنا إلى تقرير السيد القاضي توفيق قطران عن أحداث توريت، وظروف تأخير نشر التقرير، ثم نشره. ولكن الفشل الأكبر لقيادات الشمال السياسية كان الرفض القاطع لمطلب النظام الفيدرالي الذي اتفق عليه الجنوبيون عام 1954. فقد أجاز البرلمان في الخرطوم في 19 ديسمبر عام 1955 قراراً تضمّن إعطاء مطلب النظام الفيدرالي الاعتبار الكافي. وكان ذاك جزءاً من اتفاقٍ صوّت بموجبه الجنوبيون في البرلمان على استقلال السودان. تراجع السياسيون الشماليون عن وعدهم ورفضوا قبول النظام الفيدرالي وكانت الهتافات تتعالى “لا نظام فيدرالي لأمةٍ واحدة (نو فيدريشن فور ون نيشن)” هل كنا فعلاً أمةً واحدة؟ وكأن ذلك لم يكفِ فقد بدأ قادة الأحزاب الشمالية في الإعداد عام 1958 للدستور الاسلامي. استلم عبود ولواءاته السلطة بناءاً على أوامر رئيس الوزراء السيد عبد الله خليل في 17 نوفمبر عام 1958، وقاموا بشن حربٍ قاسية على الجنوب قضوا فيها على الأخضر واليابس. قُتل في تلك الفترة مئات الآلاف وفرّ إلى دول الجوار وإلى الشمال أعدادٌ أكبر من ذلك. لم يكن هناك جنوبيٌ واحد في المجلس العسكري الحاكم، وظل السيد سانتينو دينق الوزير الجنوبي الوحيد في حكومة عبود على مدى ستة أعوام، ولوزارة الثروة الحيوانية. تمّ طرد كل جمعيات التبشير في الجنوب وحلّ محلها الدعاة الاسلاميون وأُرغم الجنوبيون على تغيير أسمائهم المسيحية إلى أخرى عربية/إسلامية، وأُعلنت اللغة العربية اللغة الرسمية للعمل بالجنوب، وتحولت العطلة في الجنوب من يوم الأحد إلى يوم الجمعة. هل هناك استعلاءٌ وإقصاءٌ أكثر من هذا يا صديقي محمد؟؟؟} [email protected] نقض العهود، وإهدار فرص السلام.. هي السمة البارزة لزعامات تلك الأحزاب الثلاث رابعهم في تلك الفترة الأخوان المسلمون (بمسمّياتهم التاريخيّة: جبهة الميثاق/الأخوان المسلمون/ الجبهة الإسلاميّة/ المؤتمريْن الوطني والشعبي) فهم لا يعطون أيّ تقدير لإختلاف العرق والدين والثقافة للجنوبيين عن الشمال النيلي، فكان ديدنهم هو الإستعلاء والإستخفاف بهم. ففي عشيّة الإستقلال، دعت الأحزاب الشماليّة أحزاب الجنوب إلى أن تقف بجانبهم في البرلمان من أجل الحصول عليه؛ ووعدتهم بأن ينالوا ما كانوا يطلبون به: الفيدراليّة.. ولكنّهم حنثوا..! (وعندها قال السيد/ عبد الرحمن المهدي: يا أخوانا ما تشوفوا الجنوبيين ديل عايزين شنو.. وأدوهم ليهو) وتصاعدت مطالب الجنوبيين من فيدراليّة إلى كونفيدراليّة، وفي عهد ما يُسمى “التجمّع الوطني" طالت المطالب “حق تقرير المصير" بما فيه حق الإنفصال..! ومن من الواضح تماما أنّ هذا المطلب/ الشرط الأخير، تبلور لعدم الثقةالتي دأبت أحزاب الشمال على زرعها في نفوس الجنوبيين. فما الذي حدى بالحركة الشعبيّة إلى النفور من التجمّع، والذهاب بعيدا لإبرام اتفاقيّة السلام مع النظام البغيض، سوى عدم الثقة المغروس منذ ما قبل خروج الإنقليز، عابرا كل حكومات العساكر والأحزاب.. وإلى يومنا الحاضر؟!! وليس من دليل على عدم جديّة هذه الأحزاب سوى المواثيق التي ظلّت تبرمها، منذ سجن كوبر إلى القاهرة ولندن وأسمرا والخرطوم وجوبا، لتذهب كلها في خبر كان. وما أبرمته قبل شهور، وأيام، وما ستبرمه لاحقا، سيلحق بالأسلاف! وفي الحقيقة (كما قالها د/ حيدر إبراهيم) نحن مصابون بآفة النسيان. فالسيد/ الصادق زعيم حزب الأمة، كان واضحا منذ أن صار رئيسا للوزراء بعد الإنتفاضة، فقد رفض التوقيع على “ميثاق الديمقراطيّة" الذي يقطع مع الإنقلابات العسكرية والتي كانت معلنة من قِبل “الجبهة الإسلامية" بزعامة الترابي. مثلما أنّه رفض إلغاء “قوانين سبتمبر" وحين ذكّروه بما كان يقول به قبل الإنتخابات (من أنّها لا تسوى الحبر الذي كتبت به) قال قولته الشهيرة: كان ذاك زمان وهذا زمان..! وهنا مربط الفرس كما يقال؛ فحزب الأمّة والحزب الإتحادي لا بديل لهم سوى الشريعة. فالمسألة بالنسبة لهم وثاق يربطهم “بنظام البشير" وليس تقاعسا وجبنا، كما يردّد البعض هنا وهناك. أمّا المتقاعس فهو الحزب الشيوعي، وليس سواه. فنكفّ عن ترديد ذلك، وبعدها سيكون من الواضح، من يجب أن يتحالف مع من. فمسألة الفزورة اتضحت منذ زمان: منذ “تهتدون، تزهجون فترجعون" منذ أن جلس رئيس الوزراء السابق مع أطراف التجمّع في مؤتمر القضايا المصيريّة بأسمرا ثمّ عرّج من هناك إلى جيبوتي ليجلس مع البشير وزمرته. ومنذ أن دخل الحزب الشيوعي، مع من دخل البرلمان، ليلتئم شمل أبناء الجلد الواحد. وهذا ما يذكّرنا بعدم الثقة من قبل الساسة الجنوبيّون في أحزاب الشمال النيلي؛ فمنذ “الجبهة المعادية للإستعمار" ظلّ الحزب الشيوعي يصوّت إلى جانب الأحزاب الطائفيّة ضدّ كلّ المقترحات المقدّمة من الأحزاب الجنوبيّة. أمّا في فترة “التجمّع الوطني" وما نالته “الحركة الشعبيّة" فحدّث ولا حرج: فميثاق التجمّع، وجميع مواثيقه، التي لجد حظّها من النشر الذي تستحق، ومؤتمر القضايا المصيريّة واتفاقاته، ما هي سوى ما نبحث عنه الآن! فمسودّة الدستور، كانت تؤسّس لدولة مدنيّة تفصل الدين عن الدولة. وكان من الواضح أن الأحزاب الطائفيّة لم توقّع إلا بغرض التكتيك، إلى أن تجد ما تتخارج به مستقبلا. ولذا كانت تسوّف في مسألة “الكفاح المسلّح" وعملت كلّ جهدها من أجل فركشة “القيادة الشرعيّة" المنوط بها قيادة العمل العسكري، ونجحت في مسعاها البغيض. وبع ذهابهم إلى أسمرا عملوا سابع المستحيلات كي لا ينسقوا، إن لم نقل يتحالفوا مع “الحركة" في العمل العسكري. أما الشيوعيّون فمانت لهم أجندة أخرى. وهي “عقدة" لازمت الحزب منذ انقسام “شامي ويوسف عبد المجيد: وهي محاربة، ومحاربة بلا هوادة، لمل من يخرج عن الحزب ويكوّن تنظيمه الخاص، أو كل من يطرح طرحا ماركسيّا أو يساريّا مخالف لخط الحزب.. وهذا هو الذنب الذي جنته الحركة الشعبية لتحرير السودان. فوضعهم الحزب في خانة منافسيه؛ بمثل ما كان “يناضل" من أجل أن لا تدخل “حق" بزعامة المناضل الخاتم عدلان، حوش التجمّع. وقالوا في الخاتم الأقاويل، وبلا حياء، إلى أن انبرى نفر من أعضاء الحزب ليوقفوا من كانوا يقودون تلك الحملة الكريهة، من قادة الحزب بالقاهرة. وهذا غيض من فيض، من أفاعيل أحزاب الشمال العقائديّة شيوعيّة وطائفيّة. فمرض الهيمنة الذي ابتلت به تلم الأحزاب، لهو مرض عضال. وأسّه العنصريّة التي ينكرونها، بالعين القويّة. فناس الخالة/ فضيلة ليس لهم من ينصرهم سوى أبناءهم الذين يحملون السلاح، وليس لهم من ينصرهم من أبناء الشمال سوى الأحزاب والقوى الحديثة.. وهذا هو الحد الأدنى للتحالف: كلّ من له مصلحة في دولة المواطنة التي يتساوى فيها الجميع؛ وكما قال محمد عابد الجابري: ليس ثمّة ديمقراطيّة واحدة بلا علمانيّة.. وليس في مستطاع أحد أن يطعن في إسلامه