(ميدل ايست أونلاين – د. قاسم حسين صالح) كان الرأي الشائع عن الضمير أنه “صوت الله في الإنسان”، ولمّا كثرت ذنوب الناس وخطاياهم وصاروا أكثر قسوة من الوحوش التي لا تعرف الله، تراجع لصالح رأي آخر يقول بأن الضمير “انعكاس العادة في عقل الفرد” أي ما اعتاد عليه في تكوين أحكامه الأخلاقية. وتراجع أيضا لصالح رأي ثالث يرى أنه “الإحساس الخاص الذي يميز بين الخير والشر “ويكون على نوعين:إحساس مباشر بالصالح والطالح ناجم عن الفطرة،وإحساس يميز بين الصح والخطأ ناجم عن التعليم والتهذيب. والكارثة الأخلاقية التي أصابت مجتمعاً بكامله، والكل عنها ساهون،أن الضمير لدينا تعرض على مدى ثلاثين سنة إلى قصف من ثلاثة مصادر: النظام السابق، والاحتلال، والحكومات “الديمقراطية” التي تهرأت في أزمنتها الخيوط المتبقية من نسيج الضمير الأخلاقي بالرشا والفساد ونهب المال العام. والمفارقة أن أحزاب الإسلام السياسي التي تعتمد الإسلام عقيدة ومنهجا وسلوكاً، فاقت جرائم الفساد في زمن توليها السلطة أضعاف ما كانت عليه زمن الأنظمة الدكتاتورية، وأن “في الحكومة حيتانا ولصوصا “بحسب المرجعية الموقرة. وأن “كبار الفسدة في دولتنا يرتبطون بالأحزاب والجماعات الدينية” بحسب الكاتب عدنان حسين، حتى صار العراقيون يتداولون بسخرية مرّة: كان لدينا علي بابا واحد وأربعين حرامي، فيما الآن صاروا أربعين علي بابا وآلاف الحرامية. والمحيّر لكثيرين أن المدّ الديني الذي اكتسح البلدان العربية بعد ثورات ربيع العرب تراجع فيه الضمير الأخلاقي. بعكس ما هو متوقع!. فبرغم أن الكويت يوجد فيها “1500 مسجد ومئات مراكز الدعوة والهداية الدينية وتحفيظ القرآن، ومئات البرامج الدينية والصحف والمنشورات التي تحث على حسن الخلق والاستقامة والزهد في الدنيا، وقيام مئات الآلاف سنويا بزيارات دينية، فإنها لم تؤد إلى التحلّي بمكارم الأخلاق، بل زادت في ارتكاب المعاصي وجرائم الفساد والرشوة” بحسب الكاتب الكويتي أحمد الصراف. ومع أن العراق فيه ما لا يعد ويحصى من المساجد والجوامع، وبلغ عدد الزائرين إلى كربلاء هذا العام(2013) والذي قبله قيل: أكثر من (14)مليونا، ومئات البرامج والخطب والمواعظ والتعاليم الدينية، لدرجة أن مجلس محافظة بغداد ملأ ساحات العاصمة بلافتات عملاقة تطالب سكان بغداد بالكف عن شرب الخمور وارتياد النوادي، بحسب الكاتب علي حسين، فإن الناس صاروا في حال وكأنهم قرأوا السلام على الضمير والأخلاق. فما التحليل السيكولوجي لهذا الخراب الأخلاقي الأفدح من خراب الوطن؟ سئل أردوغان: كيف جعلت تركيا تصل إلى الدرجة التاسعة بين أغنى دول العالم بعد أن كانت في المرتبة 111؟ أجاب بكلمتين: لا أسرق. هذا يعني أن الرعية تنمذج سلوكها على سلوك راعيها. فحين يكون الحاكم قدوة في النزاهة ونقاء الضمير ينتعش الضمير الأخلاقي لدى الموظفين والعامة، لا سيما وأن الاقتداء بأنموذج الخير أسهل للناس وأريح لهم سيكولوجياً من تقليد أنموذج الشرّ. لكن الأنموذج غير النزيه في السلطة يستقطب المجرمين والمغامرين وذوي الضمائر الضعيفة ويكون حالهم كحال ما جرى للناس في شهر السقوط.فالذي حصل في نيسان 2003 أن أفرادا قليلين، معظمهم مجرمون أطلق سراحهم في تشرين 2011،هم الذين بدأوا عمليات نهب مؤسسات الدولة، ثم تزايد العدد تدريجياً، حتى أصبحت جموعا. والتحليل السيكولوجي يفسّره (فتوى الشارع)،وهو مصطلح طرحناه في حينه يقوم على معيار ” الحلال والحرام” الذي يكون محكوما ب(قانون) في الظروف العادية،فيما يكون محكوما بالضمير الأخلاقي للفرد في الظروف التي ينعدم فيها القانون.فالشخص الملتزم دينيا لا يرتكب الحرام “السرقة مثلا” حتى في حالة انعدام القانون، بمعنى انه لا يمتنع عن فعل السرقة خوفا من عقوبة يرتبها عليه القانون ،بل لأن ضميره الأخلاقي يمنعه عن فعل الحرام. ولأن الناس يتوزعون على نقاط في بعد معيار (الحلال والحرام) بين طرفين:قوي متصلّب لم يقترب أصحابه من الحرام، وضعيف هش بدأ أصحابه عمليات النهب ،فإن المترددين كانوا في وضع محرج مع أنفسهم:ينهبون أم لا ينهبون؟! وبما أن المنهوبات كانت مغرية، من أكياس من الدنانير، شاهدتها بعيني يسحبونها من مصرف شارع حيفا،ودفاتر من الدولارات تنقل الفرد من الحضيض إلى القمة ومواد وأجهزة ثمينة..فان المترددين وجدوا لها تخريجا في ما اصطلحنا على تسميته (فتوى الشارع) بأن قلّبها الواحد منهم في رأسه على النحو الآتي:ما دام الناس كلّهم،(هكذا بصيغة التعميم)،يقومون بهذا العمل، فهذا يعني أن هذا العمل ليس حراما. فتكاثروا تدريجيا بالعدوى النفسية لفتوى الشارع التي من خصائصها أنها تنتشر بشكل سريع في السلوك الجمعي ،وتكون محملة بتبريرات صريحة أو ضمنية تبدو لمن يصاب بها مقنعة تماما. فلما سألت أحدهم: لماذا تأخذ هذه الأشياء؟ “وكانت كراسي جاء بها من جهة الإذاعة والتلفزيون” أجابني بأنها “حصته من النفط”. بمعنى أن ما يأخذه هو تعويض عن حق كان مغتصباً ولسنين! والمفارقة أن ما هو حاصل الآن من فساد مشابه في فعله السيكولوجي لما حدث من عمليات النهب في شهر السقوط. مع اختلافين: إن ما يسرق الآن من ثروات البلد هي أضعاف ما نهب منه زمن السقوط “سبعة مليارات دولار سرقت من وزارة الكهرباء بحسب رئيس لجنة النزاهة البرلمانية”، وأن الذين نهبوا كانوا لصوصا وفقراء، فيما الفسدة الآن سياسيون وموظفون. وكلا الحالتين تقومان على فتوى نفسية محملة بتبريرات تبيح أخذ الملكية العامة وتضعف الشعور أو تلغيه بأن هذا الفعل حرام. وتلك أقبح سوءات الإسلام السياسي، ذلك أن الوطن يمكن إعادة أعماره بعشر سنين فيما تحتاج إلى عمر جيل كي تعيد إعمار الضمير الأخلاقي للناس.