(فاروق يوسف- ميدل ايست أونلاين) تعيش دول ما سمي ب”الربيع العربي” فوضى سياسية، غير مسبوقة. باب الديمقراطية الذي انفتح عن طريق الانتخابات الحرة النزيهة لم يفض إلا إلى مزيد من النزاعات الداخلية. وإذا ما كان النفخ الاعلامي قد غلب عليه نوع من التضليل في محاولة لتوجيه الانظار إلى بقايا ورموز الانظمة السابقة، فان الفئات السياسية الجديدة لم تستطع أن تخفي رغبتها في التناحر. حتى أن الشرعية نفسها صارت محل تشكيك وتفاوض وتنازع. في مصر تقف اليوم جبهة الانقاذ التي تضم الاحزاب المدنية في جهة فيما تقف في الجهة الأخرى جماعة الاخوان المسلمين ومعها التيارات الدينية المتشددة التي تعتقد أن لها الحق، كل الحق في تغيير شكل الدولة ومضمون المجتمع وفق ما تراه دينيا. في تونس وصل الصراع بين القوى الدينية والمدنية إلى مرحلة الاغتيال السياسي، بمقتل شكري بلعيد، احد وجوه المعارضة التقدمية وعجز الجبالي (رئيس الوزراء) عن التقدم خطوة واحدة في اقامة حكومة كفاءات غير خاضعة لحركة النهضة التي هو أمينها العام فقدم استقالته. حركة النهضة الحاكمة لم تتخل (لن تفعل) عما تعتقد أنه حقها الشرعي ادارة المجتمع بالطريقة التي تضمن أسلمته. إن فشلَ سياسيوها فلابد أن ينجح دعاتها. وإذا ما كانت اليمن قد تخلصت من عبء علي عبدالله صالح وارتاحت من ظله الثقيل من خلال دفن فكرة التوريث، غير المستساغة قبليا، فانها ستظل مقيمة في مكانها الحرج والقلق، بين مطرقة القاعدة وسندان الحوثيين، حيث تشعل الطوائف نار الصراع بحطب الدولة المدنية المتخيلة. ولإن اليمن، استنادا إلى تركيبتها القبلية المكرسة اجتماعيا وتاريخيا لا تنبيء بقيام أي نوع من أنواع الحكم المدني، إلا شكليا فإنها ستظل دائما بيئة خصبة لنمو التيارات الدينية المتشددة، التي من شأن وجودها أن يؤدي إلى استمرار الصراع إلى ما لا نهاية (هناك طبعا الحراك الجنوبي الذي لا يرضى بأقل من الانفصال والعودة إلى زمن ما قبل الوحدة). وأما في ليبيا، حيث كان التخلص من العقيد القذافي أمرا جيدا، فان اربعة عقود من حكمه الذي تميز بعبثية مشروعه الذي تميز بطوباوية شخصية، كان من شأن تلك عقود العزلة تلك أن تترك شعبا جاهلا بأي شكل من أشكال الدولة. كانت جماهيرية القذافي الخضراء هي النقيض تماما لأي شكل من أشكال للدولة الحديثة. ولهذا فمن غير المتوقع أن تشهد ليبيا قيام دولة على أسس حديثة في وقت قريب، هذا إذا لم تُصعد التيارات الدينية المتشددة من مطالبها المدعومة بالسلاح المباح والمشاع وبثقافة العزلة التي هي الأخرى واحدة من أخطر تركات النظام السابق. حينها تكون ليبيا قد انتقلت من فوضى الدولة إلى فوضى الشريعة. في سوريا وهي آخر العنقود (قد لا تكون الأخيرة)، حيث لم تنجل الصورة بعد، كانت الأمور قد فلتت من سيطرة القوى المدنية المتصارعة في وقت مبكر. قوة الأخوان المسلمين في سوريا لا يُستهان بها. بالرغم من أن تلك الجماعة قد تلقت عبر العقود التي حكم فيها الأسد الأب ضربات قاصمة، غير أنها كما يبدو استفادت من الهدنة التي حملها معه الاسد الابن فصارت تستعد للمنازلة. ومع ذلك فإن هناك قوى دينية متشددة ظهرت على الأرض، في ميدان القتال، قوى شابة جاءت من وراء الحدود لتقيم أماراتها على الارض السورية، لا يملك الأخوان أمامها سوى الخضوع والسماح لها بالمرور صاغرين. ألا تشير كل هذه المعطيات إلى أن صعود تيارات الاسلام الاسلامي إلى الحكم قد يؤدي تدريجيا إلى الغاء مقومات وشروط النظام الجمهوري الذي كان قائما في تلك البلدان، حيث يكون نظام الامارة هو البديل وإن بقيت هناك جمهورية صورية. ولكن لمَ الحديث عن نظام الامارة وليس نظام الخلافة؟ هنا بالضبط نصل إلى الكارثة الحقيقية التي ينبفي أن نستعد لها جيدا. فتيارات الإسلام السياسي كما تبين في غير مكان من العالم العربي لا تملك مشروعا سياسيا يوحدها ويوحد الناس من حولها، بل هي تيارات تسعى إلى تمزيق نسيج المجتمع، من خلال بث الفرقة بين مكوناته المتآخية. كل واحد من تلك التيارات يزعم أنه الأكثر هداية وتقوى ومن ثم قربا إلى الله وما من شيء يتعلق ببناء الحياة وتطوير سبل العيش لمجتمع يعيش فيه الافراد متساويين في الحقوق والواجبات، يرعى قانون موحد شؤونهم. لذلك سيذهب كل فريق بأهله إلى جهة ليعلن فيها امارته. وهو ما يعني تهديدا مباشرا بدفن الأوطان التي تجمعنا. علينا أن نتذكر دائما أن تيارات الاسلام السياسي لا تؤمن بفكرة الوطن في حدوده الجغرافية المتفق عليها سياسيا. إنها تعتبره بدعة غربية ليس إلا.