مسامرات (عيوشة) في شارع المطار..!! محمد ابراهيم الحاج { نشر الليل رداءه الأسود على كل معالم العاصمة الخرطوم.. وبسط عليها وحشته وسكونه في تلك الأمسية باردة النسمات.. وقد تعدّت الساعة الواحدة صباحاً ببضع دقائق.. تسلل النعاس بخدره اللذيذ إلى الأجفان.. فأسبل كثيراً منها.. وداعب أخرى.. فيما كانت السيارات تنهب الأرض نهباً.. ليلحق أغلب الناس بفراشهم الوثير. { كانت السيارات بشارع المطار في تلك الليلة تصدر صريراً عالياً أمام شارة مرور (لفة الجريف) كأن إطاراتها تعلن سخطاً جاهراً على تلكؤ لوحة الإشارات في إنارة علامة المرور الخضراء.. إلا أن الأمر كان واقعاً، فقد توقفت في تلك الأثناء كثير من السيارات في ذلك (الاستوب) الذي تتقاطع فيه ثلاثة طرق.. وكنت وقتها عائداً من (مقابر البنداري).. في العام الماضي.. بعد أن (قبرنا) الشاعر الواقعي "محمد الحسن سالم حميد".. الذي انسل من بيننا ذات صباح قاتم النسمات.. وظننت وقتها أن البؤس يكسو معالم الخرطوم.. وأن أزقتها وحواريها قد أعلنت الحداد جهراً وسراً للراحل الذي ما سكت صوته للتنبيه والإشارة لواقع معظم حال الناس. {إشارة المرور الحمراء أجبرت كثيراً من السيارات على التوقف لثوانٍ.. فرميت بنظري للرصيف المقابل.. وفار الدم في رأسي لبرهة.. واحتقن عقلي وقتها بجيوش من التناقضات الإنسانية التي تكالبت عليه وكادت تزفه ليصير (معتوهاً) أو (مجذوباً).. فقد رأيت بأُم عيني إحدى بطلات قصائد الشاعر "حميد" تسعى بين السيارات.. نعم رأيت (عيوشة) بطلة قصيدته الصادمة وهي تلهث من سيارة لأخرى.. رأيتها بتفاصيلها الدقيقة التي صوّرها "حميد" في قصيدته الواقعية.. (شعراتها منفوشة.. الليل هديماتا.. وشمش الله برطوشة.. تشرب من الشارع وتلقف من الكوشة)!! { رأيتها ورأيت (الشفع) الذين كانوا يتابعون خطواتها.. وسرعان ما عُدت مرة أخرى لأسترجع في ذهني تفاصيل البطلة (عيوشة) التي صوّرها "حميد".. كثير من ملامح البؤس مرسومة على محياها البريء.. فتاة في منتصف الصبا.. ترتدي أسمالاً بالية.. وخرقاً مهترئة تستر بها عورات جسدها – رغم أنه تكشف عن عورات المجتمع برمّته – وعيناها زائغة النظرات.. تتلفت يمنة ويسرى.. ويتابعها كثير من الأطفال الذين يماثلونها في العُمر أو أقل منها.. إلا أن ما رأيته في تلك الأمسية كانت فيه (شافعة) تفوق (شافعة) "حميد" في البؤس.. صمت عقلي برهة وجالت بخاطري أبيات "حميد" وهو يصف (عيوشة:( عيوشة.. عيوشة على قدر ما كاست عينيك ما لاقت غير مطبقة وبصلة المطبقة انهردت.. والبصلة مقروشة ما قلنا مقشوشة يا الحاضر الغايب في الدنيا ما جايب خبر المديني الكان على رغم ما فيها من فاقة من حرمان مرات أياديها تعطف على الإنسان بي فكة بي قروشا بي كلمتاً طيبي بي فضلة من مطعم أو برتكانايتاً.. ضرباني في كوشة والليلي باتت زي.. بيتاً في آخر الحي ناساتو منبوشة يا جرحنا الهايم طول النهار حايم يلبد إذا ما شاف صحبانو مكشوشة { تزاحمت في رأسي عدة متناقضات وقتها.. ثم نكصت ببصري إلى الخلف حيث كانت تسطع أضواء مطاعم شارع المطار التي تمور ترفاً.. وثراءً.. كانت تلك المطاعم المعروفة بوجباتها الشهية.. وثمنها الغالي تتزاحم في رأسي خلسة.. إلا أن منظر (عيوشة شارع إفريقيا) سرعان ما يطردها من أمام نظري.. وتعود تحتل تلك الصبية بكل ملامحها المقهورة والمسحولة لتمكث فيه.. وعقلي يتنقل وقتها بين فقد "حميد" الذي ما عرف طعماً لراحة البال والسعادة.. ولا خانت حروفه قضايا المهمشين.. تمازجت صورة (قبر) "حميد".. ورصيف شارع المطار.. ومطاعم الخرطوم المخملية وشوارعه التي تبرق صباحاً ومساءً.. مما سحق في عقلي بذرات من أمل كنت قد سقيتها صبراً وتجلداً بعدالة اجتماعية قادمة لا محالة.. إلا أنها (قبرت) ساعة أن قبرنا "حميد" في البنداري.. أدركت وقتها أي شخص دفناه وعدنا.. دفنّا معه أحلاماً بالتغيير إلى الأفضل.. سكت عقلي برهة وقد تكالبت أمام بصري كل الصُوَر وتناوشت وتدافعت كما السيل للتصارع عن أيهما سيمكث في ذهني وقتاً أطول.. حزمة متناقضات.. وتقاطعات.. إلا أن مقطع "حميد" الصادم كان هو الأكثر قدرة على البقاء.. الفارة بأحجاره .. البومة بأوكاره .. الطير بعشوشة وولد البلد داك تاه ضاقتبو أرض الله .. غير مجرى أو كوشة .. يفقش صديرك آه .. والدنيا مفقوشة .. من كشة.. لي كوشة