*في البداية نرجع قليلاً لأيام (الدستور).. *ليس دستور السودان الذي يُوضع – في كل مرة – (تحفةً) جميلة على رف تاريخنا.. *ثم لا يُنفض عنه الغبار إلا حين توشك (الولاية) على الانقضاء.. *وذلك من أجل (مصلحة البلاد العليا)… ثم يُعاد إلى الرف… (زينة وعاجباني).. *وإنما أعني دورية (الدستور) التي كنت رئيس تحريرها حيناً.. *كانت مجلةً أسبوعية… فجعلناها (الجريدة المجلة)… لتصدر يومياً في (16) صفحة.. *وسعرها كان ضعف سعر الصحيفة آنذاك.. *ورغم ذلك كان متوسط توزيعها اليومي نحو (2500) في العاصمة… دون الولايات.. *وكالعادة ؛ حُورب ناشرها محجوب عروة… فاحتجبت.. *وكان من بين أفراد طاقمها (الفنان) الرائع محمد الحلو… ويقيم بفرنسا الآن.. *كنا نعقد جلسة تفاكر يومية ؛ هو بريشته… وأنا بفكرتي.. *فيتمخض عن ذلك كاريكاتور ساخر… يحتل موقعه أعلى يسار الصفحة الأولى.. *ونهار يوم رأينا أن نجسد ظاهرة العرب الصوتية… رسماً.. *كان ضجيج الصوت – يومها – من القوة بحيث لفت انتباهنا إلى (البراميل الفارغة).. *إلى الجعجعة التي لا نرى لها طحناً أبداً… على أرض فلسطين.. *إلى الصراخ الذي ينطلق بحده (الأقصى) – منذ سبعين – عاماً صوب (الأقصى).. *ثم يتلاشى في الهواء حتى قبل أن يتجاوز حدود إسرائيل.. *فكانت الفكرة : عربي خلف منصة… عليها ميكرفونات… أمامه (سلك) الحدود.. *ومن وراء السلك الشائك يهودي… وعلى مقربة منه حمام.. *وتندلق من المنصة ورقة طويلة تتمدد… وتتلوى… وتتكور ؛ تحت قدمي اليهودي.. *واليهودي ينتظر بفارغ الصبر ؛ وبيده مقص.. *ثم يقطع جانباً من هذا (الأدب) الغزير ؛ ويتوجه به إلى (بيت الأدب).. *وهذا (أقصى) ما يفعله العرب… تجاه القدس و(الأقصى).. *والبارحة رأيت رسماً كاريكاتورياً ساخراً ذكَّرني برسمنا هذا… وأيام (الدستور).. *فالعربي يقف أمام اليهودي فاغراً فاه للحد (الأقصى).. *ويصيح بقضية (الأقصى) ؛ واليهودي يضع مسطرة على فمه يقيس بها اتساعه.. *ثم يقول له ساخراً : أهذا (أقصى) ما عندك ؟!.. *بل هو أقصى ما لدى العرب عموماً… سواءً حيال (الأقصى)… أو أي قضية أخرى.. *فقد اشتهروا بأدب الخطابة… الذي مصيره بيت أدب اليهود.. *يبددون وقتهم في الكلام ؛ بينما تبدده إسرائيل في العمل… والعلم.. *فهذه الدويلة تخصص للتعليم ما يعادل كل الذي تصرفه دول العرب على الأمن.. *فتأمين كراسي السلطة هو كل ما يهم الحكام العرب.. *أما التعليم فلا تصرف عليه إلا ما يساوي بضعاً في المئة من ميزانياتها.. *ولذلك تقول إسرائيل : العرب لا يقرؤون… فإن قرأوا لا يفهمون.. *ولكنهم يفهمون جيداً في (الأدب) الذي يجيدونه.. *أدب الصراخ بالصوت (الأقصى !!!).