كان اكثر ما يرجوه الناس من الانفصال، هو توافر عنصر السلاسة، بحيث لا تحف بالانفصال تلك الدماء القانية، ولا يتضرر منه الجنوبيون في الشمال ،ولا الشماليون في الجنوب، ولا يحدث فيه تعويق لحركة الناس والأنعام والبضائع. الى اكثر من هذا طمع آخرون، ان توظف الدولتان في الشمال والجنوب كافة جهودهما للتعاون بدلا عن التربص والتوتر، وعوضا عن كيل الاتهامات الصحيحة والباطلة بخرق اتفاق او النكوث عن عهد. ليست هذه امنيات أو أحلاما، بل هو حديث العقل قبل العاطفة، ومنطق السياسة المبني على المصلحة، لا منطق الغاب القائم على التربص والتوجس، او منطق التخلف الذي لن يبارحه صاحبه اذا ظل يبحث عن المشاكل بدلا من البحث عن الحلول. لماذا يبدو على الطرفين الرهق والأعياء إذا تعلق الامر بلحظات تفكير لحل الموضوعات الخلافية، لكنه سرعان ما يذهب عنهم وتعلوهم الهمة والنشاط إذا وردت كلمة حرب في سياق عابر؟ هل تحتاج الخرطوم وجوبا الى وسيط تحت عباءة الآلية الأفريقية رفيعة المستوى ، حتى يسعى بينهما راجيا التوقيع على اتفاق عدم اعتداء ؟ أليست سنوات الحرب الخمسين أكبر درس وأصدق تجربة، من ثامبو امبيكي على دربته وحنكته؟ اذا كانت اتفاقية السلام الشاملة بتقرير مصيرها ومشورتها الشعبية هي الثمن الذي دفعته الحكومة من اجل السلام، وقبلت به الحركة الشعبية مقابل إلقاء السلاح، فإنه من العبث ان تنشب حرب اخرى، لأنه لن يكون هناك ثمن آخر يمكن أن يُدفع، وربما لن يكون هناك شخص آخر لديه القدرة على العرض، ولا آخر لديه الرغبة في القبول. من المناسب بعد صفقة السلام، أن يتعافى الطرفان من أية مرارات وإحتقانات، وينطلقا الى الأمام لتحسين فرص الشعبين في حياة كريمة، من حق أي جنوبي أو شمالي أن يعيشها، ومن واجب الساسة هنا وهناك أن يوفروها. كل ما يتناهى الى الاسماع أن هناك توترات حول الحدود، وتهديدات قد ترمي بشرر، وكيداً في الخفاء من أجل اضعاف الخصم، يتأكد أن أصحاب هذه البطولات الصغيرة ،يعيشون بعقلية ليست قديمة جدا، ولكنها على كل حال ترجع الى ما قبل بروتكول ميشاكوس الاطاري بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، او إلى ما قبل توقيع اتفاقية نيفاشا على أحسن الفروض. الساسة الاذكياء و(الشطّار) والشجعان هم الذين يجنبون شعوبهم الويلات والحروب، إلا اذا فرضت عليهم فرضا لا معدى عنه ولا تراجع، وهم اولئك الذين يبحثون عن أفضل سبل العيش فيسلكونها، ويتنكبون في ذات الوقت طريق المكاره والمشقة، لأنهم ان سلكوه فيسقط كثيرون من أول الطريق. الشجاعة ليست في الصبر (على) الحرب فقط، ولكنها قد توجد ايضا في الصبر (عن) خوض الحرب، القيادة الصينية مثلا لا يمكن اتهامها بعدم الشجاعة لأنها لم تخض الحرب ضد تايوان بغرض اخضاعها الى السيطرة الصينية، أو لأنها تقيم علاقات اقتصادية مع هذه الجزيرة ،رغم انها في عرف الصينيين جزيرة مارقة. اذا اندلعت الحرب بين الشمال والجنوب، فماذا سيقول الساسة للشعب؟ وعن أي مبرر سيتحدثون؟