كنت في الصين الاسبوع الماضي مرافقا لوفد خبراء من هيئة المواصفات المشارك في الاجتماع رقم (40) للجنة دستور الاغذية حول مضافات الاغذية، وكان اجتماعا محضورا، ابرز علاماته جدية الطرح وعلمية التداول. وتلك قصة تتابعون تفاصيلها في مكان آخر في الصحيفة، في شكل حلقات. لمحة عابرة للعاصمة بكين كفيلة بتاكد صدق المراقبين والاستراتيجيين حين يصفون بانها الدولة الصاعدة بقوة الى مقدمة « كبينة» قيادة العالم. نعم بكين تأكل من ذاكرة تخص طبعتها بجدارة الانسان الصيني عبر قرون على ارض الواقع، وسوقت لتلك الذكرة عبر عقود حتى قربت مسافات التخيل لمن لم ير هذا البلد الكونفيشوسي ذى الباع الطويل. كان المشهد الطاغي لأية صورة او لقطة متحركة على الشاشة البلورية او ثابتة على كتب الاعلام والدعاية الصينية او حتى في وسائل الاعلام الاخرى خارج نطاق الصين، تقدم لك هذه الدولة في صحن حضارتها الخاصة.حضارة لها طعم خاص وصوت خاص وفرادة لا تضاهى في الخصوصية، يأتيك في المشهد: المبنى الهرمي المدبب بطوابقه القليلة الزاهية، والزي الصيني بطابعه الصارم، والدراجة البخارية الصينية الواسعة الانتشار، والموسيقى الصينية بابعادها الجرسية الرقيقة، وما ينطوى عليها من نبرات حنين. ولكن الحقيقة التي تغطي عين الشمس، وتخطف عين الزائر من اول وهلة، تختلف، لحد كبير،عن ذلك المشهد التقليدي الراسخ عن الصين.العاصمة بكين، لولا هذا الصيني قصير القامة، خفيف الحركة، بعيونه المدببة، التي تشير بقوة الى اصراره وجدارته وشجاعته وغموضه، لولا هذا الانسان، فقط ، فلا فرق بينها وبين سياتل او نيويورك او سان فرنسيسكو، كل المدن الغربية التي اختارت ان ترتاد السماء ببنايات شاهقة، قبل ان تطلق جدائلها للريح، وتساوي بين الليل والنهار، بعد ان الغت الحد الفاصل بينهما.الحقيقة هي ان بكين تتغير وتمضي في اتجاه الغرب وليس الشرق، تخلع « البردلوبة» وترتدي الجينز، انحسر الارز والخضروات عن موائدها، لصالح البيرقر والفراخ المشوي او المحمر على طريقة مطاعم الماكدونالد وكنتاكي الشهيرة، تقص شعرها كارلويس والمارينز، وترقص الراب، ولها مزاج الهيب هوب. كل هذا يطرح سؤالا قوياً: هل هذا التغيير البائن مخطط له من الدولة الصينية باعادة تكييف الحالة الصينية الخاصة، بما يسمح بحدوث ما يحدث ام انه تسلل في الملعب الصيني فرضته قوة العولمة ومرحلة ما بعد الحداثة، كسطوة يعيشها العالم رضي أم أبى. فالنظام الشيوعي الصيني سعى، بتخطيط خلال العشرين سنة الاخيرة الى تخفيف «الحمرة» الناقعة للشيوعية، وذلك تحت نظرية: (ليس المهم لون القطة بيضاء ام سوداء ام رقطاء طالما هي ماهرة في قبض الفار)، وهو ينسب الترويج للنظرية الى الرئيس السباق يان زمين، وهي النظرية التي احدثت ثغرات على جدار مؤسس الدولة الصينية الحديثة ماو تسي تونغ . بذلك انفتحت الصين على العالم لحد كبير او هي التي جعلت العالم ينفتح عليها لحد اكبر، خاصة على الجانبين الاقتصادي والتجاري، جنت الصين من النظرية حالة النهوض التي تلازم اقتصادها، والثمن في المقابل، هذا التغيير غربا وليس شرقا، في الاوضاع الاجتماعية الثقافية، على وجه الخصوص.سرعة تنامي الاقتصاد الصيني تماثله سرعة في انسلاخ الصين عن نفسها القديمة ومحيطها وواقعها الاجتماعي والثقافي العتيق المعروف، منذ الازل.ليس لدى الصينيين، الى اللحظة، اية كوابح مقترحة للجم هذه السرعة.هكذا يقول الاكاديميون والمنظرون في الصين.