كلفت الرحلة من الخرطوم الى بكين ركاب الطائرة اكثر من 16 ساعة متصلة، ظلوا خلالها موزعين بين اجراءات المطارات، وهي تتراوح بين السهولة والتعقيد، الى الطيران في الجو، لساعات، الى الانتظار بين الرحلة والرحلة الاخرى، لساعات، ولكن الدهشة لابد انها كانت قد بددت تعب السفر لمن سلك هذا الطريق، لاول مرة، لبلوغ بلاد الصين. وهي بلاد يضرب بها المثل في قطع الفيافي،» البعاد». وعندما هيأت طائرة الخطوط الاماراتية الانيقة محركاتها للهبوط في مطار بكين الدولي، كانت الرؤية غير مكتملة، بما يعين العين المجردة على النظر الى حدود الافق البعيد، وكان لعاب الفضول يتدفق ويسيل. ---------------- كانت بكين تبدو من السماء عمشاء: تراها ولا تراها، تتحسس معالمها تارة وتفلت منك الصورة تارة اخرى، ولكن الطائرة، التي كانت تحمل من بين ركابها وفد هيئة المواصفات السودانية للمشاركة في الاجتماع رقم «40» للجنة دستور الاغذية المعروفة اختصارا ب « كودكس» في العاصمة الصينية هبطت بسلام، ولابد ان الركاب كانوا مشمولين في تلك اللحظة بشعور من رافقته السلامة في رحلة عبرت فوق جبال التبت: واحدة من اعلى القمم في العالم. دخل الركاب صالة المطار، وعرفنا عاجلا ان هذا المكان، المموسق الجميل، هو المدرج او «التيرمنل» الثالث لمطار بكين، وعرفنا ان هذا الامتداد تم افتتاحه قبل شهرين، لا اكثر، وانه مشروع يأتي ضمن قائمة من المشروعات نفذتها وتنفذها الصين من اجل انجاح دورة الالعاب الاولمبية في اغسطس المقبل. والصين تتعامل الآن مع تحضيراتها للاولمبياد باعتبارها امام تحد قومي، لابد من عبور مطباته،او قل معركة قومية رهانها المطروح حتى الآن هو انجاح الدورة، وتقديم الصين لافضل ما لديها من خلال الدورة. وتلك قصة طويلة اخرى، لها متون وحواش وبدايات وخواتيم. وصلنا الى مكان امتعتنا داخل المطار بقطار داخلي بدون سائق، اي يعمل بنظام التحكم من بعد «الريموت كنترول»صنع خصيصا للمطار الجديد، وكان القطار الجديد مثار تعليق الركاب، فضلا عن دهشة كانت تملأ العيون للحالة الالكترونية التي ترتب امور المطار حركته وسكونه: كل الخطوات رقمية، وكل الاجراءات مبرمجة. في نهاية ممر الخروج من صالة الوصول كان في استقبالنا بحرارة ودأب، كل من صلاح الدين الحاج الوزير المفوض في السفارة السودانية ببكين، ومحمد ميرغني السكرتير الثاني في السفارة. خارج المطار، وحين كانت الحافلة تقلنا الى داخل المدينة، كان الربيع قد بدأ ينثر الخضرة وفوح الزهور في المدينة، وكانت اشجار السرو المرتبة على الجنبات بما فيه الكفاية تتنفس ملء صدرها، هواء اول الربيع، وكأن المدينة كلها تتلقى جرعة «مساج» صيني، بعد بيات شتوى طويل، ومع ذلك كان اول ما لفت نظر احدنا هو عدم وضوح رؤية افق المدينة، فسأل ان كانت بكين ايضا مثل المدن السودانية مصابة ب «الكتاحة».جاءه الرد من احد سكان المدينة :(ان ما تراه ليس هو الضباب المتعارف عليه او هو غيم يسبق المطر او يعقبه، بل ان هذا تلوث في الجو ناتج عن مداخن المصانع وحركة السيارات، وكل فعل منتج في شتى بقاع الصين)، واضاف:( ولكن عندما تهطل الامطار يصبح الجو صحوا والسماء صافية)، ومضى يقول إن (الضباب الذي تشاهده الآن يغطي الجو). وهذه ايضا قصة اخرى. بشكل منساب، اكتملت اجراءات دخولنا الى مقر اقامتنا في فندق«بولي بلازا» في حي السفارات في بكين، وكان على ما يبدو ان ترتيباً مسبقاً بين هيئة المواصفات والسفارة قد حدث، مما سهل الامر، وكان ذلك مع اول الليل، لم يتجاوزه الوفد كثيرا حتى دخل في نوم عميق بدد تعب السفر الطويل من الخرطوم الى بكين، ليبدأ الوفد ، وهو وفد خبراء ومختصين من الهيئة برئاسة الزين حسن ابراهيم مدير الادارة الفنية بالهيئة، في اليوم التالي كان يوما ممطرا في ترتيب اوضاعه و «يسجل نفسه» لاجتماع لجنة دستور الاغذية الخاصة بمضافات الاغذية» الكودكس»، في قاعة فندق آسيا في منتصف العاصمة الصينية، يفضل رئيس الوفد الزين تسمية الاجتماع بالجمعية العمومية ل « كودكس»، ويقول ان كل ما يدور في اجتماعات كودكس ينطبق على طريقة انعقاد واعمال الجمعيات العمومية. لجان متعددة وتعنى لجنة كودكس وهي لجنة مشتركة من منظمتي: الزراعة والاغذية العالمية» الفاو» والصحة العالمية، بمشاركة دول اعضاء، تعنى اللجنة في الاساس بتخطيط ودراسة ووضع المواصفات للاغذية، وتحتوى عدة لجان، من اهم اللجان الفرعية للجنة كودكس، وهي تعمل تحت مظلتها لاجازة مواصفات الاغذية: لجنة مضافات الاغذية، ولجنة ملوثات الاغذية، ولجنة بقايا المبيدات في الاغذية، ولجنة الزيوت والدهون، ولجنة منتجات الالبان، ولجنة طرق اخذ العينة، ولجنة تصنيع الخضروات والفواكه، وغيرها من اللجان الاخرى الخاصة بالاغذية في شتى مراحل التعامل معها. ويذكر ان مجالي مضافات الاغذية وملوثات الاغذية كانا موضوعين في لجنة واحدة، غير انه قبل ثلاثة اعوام تم فصل المجالين عن بعضهما في لجنتين، واحدة لمضافات الاغذية والثانية لملوثات الاغذية، ويقول عماد الدين شريف خبير المواصفات ومدير المواصفات بسوبا وأحد المشاركين في اجتماعات بكين ان سبب فصل المجالين هو ضخامة العمل فيهما، ويضيف: لقد حدثت توسعات كبيرة في مجال مضافات الاغذية نتيجة للتطور البحثي والعلمي في العالم في مجال تصنيع الاغذية ومضافاتها، كما صارت ملوثات الاغذية هاجساً يؤرق دول العالم بوتائر متصاعدة ، على حد قول الخبير عماد الدين. عمل إليكتروني وتعمل لجنة كودكس خلال العام عبر لجان فرعية من الدول الاعضاء والمنظمات المختصة المشاركة في اللجنة، تديرها لجنة خبراء من الفاو ومنظمة الصحة العالمية تعرف باسم»جكفا»، حيث تقدم اللجنة البحوث والمقترحات للمواصفة المحددة ويتم تداولها عبر البريد الالكتروني خلال العام حتى تتوصل اللجان الى مقترحات مواصفات تعرض للنقاش في الجمعية العمومية، على شاكلة اجتماع الصين الذي انتهى، لترفع توصياتها الى اللجنة التنفيذية لكودكس لاجازتها لتصبح من بعد دستوراً عالمياً ملزماً لدول العالم بشأن مواصفات الاغذية، من حيث نوع الانتاج والتصنيع والتداول والاستيراد والتصدير. وقد انضم السودان الى كودكس منذ اوائل التسعينات، وظل يواظب على اجتماعاتها السنوية، التي ركزت في العاصمة الصينية بكين في الاعوام الاخيرة ، كما تعتبر هولندا من اكثر الدول التي تستضيف اجتماعات اللجنة، وظل السودان يحرص على ان تبقى المنتجات الغذائية السودانية حاضرة في قوائم المواصفات النهائية، من مضافات الى غيرها. عبر ممر طويل في فندق آسيا، دخل» 262 «خبيرا يمثلون» 65 « دولة مشاركة في عضوية كودكس، و» 107 « منظمات مختصة في مجال المواصفات وخبراء مواصفات وبيوت خبرة في المجال، دخل كل هذا الحشد الى القاعة المختصة لاعمال اللجنة واخذت الوفود مواقعها، في التاسعة من صباح 21 ابريل الجاري. وضم الوفد السوداني للاجتماعات الى جانب رئيس الوفد خبراء من هيئة المواصفات وهم: عماد الدين شريف محمد مدير المواصفات في سوبا، وابتهاج التوم المصطفى، من الادارة الفنية بهيئة المواصفات، وميادة عوض الكريم من الادارة الفنية، وهيثم حسن من ادارة الاعلام في الهيئة، وانضم الى وفد السودان في بكين الدكتور فضل محمد على من ادارة الرقابة على الاغذية بوزارة الصحة المركزية، ورافق الوفد مندوبان من صحيفتي: «الراي العام»، و«الاحداث». نالت دول العالم الاول خاصة اوروبا وامريكا الشمالية نصيب الاسد من المشاركة، حيث انحصر الغياب في(6 ) دول فقط ، وجاءت دول شرق آسيا في المرتبة الثانية، ثم امريكا الجنوبية، ثم افريقيا، ومشاركة ضئيلة من الدول العربية، حيث شاركت اربع دول عربية فقط من بينها السودان ومصر، فيما سجلت دول الخليج غيايا تاما. أوراق علمية رأس الجلسة الافتتاحية البروفيسور جن جنشي مدير المركز الصيني، واستهل الجلسة باعطاء الفرصة لنائب وزير الصحة الصيني تشن شياو هونغ ليخاطب افتتاح الاجتماع، وقال الاخير إن الصين تعتزم تعزيز اعمال تقييم احتمال خطر المواد المضافة للأغذية ومراقبة أحوال إستخدام هذه المواد، وأضاف المسؤول الصيني إن بلاده عملت خلال السنتين الماضيتين على تعديل المعايير الصحية لاستخدام المواد المضافة للأغذية استناداً إلى المعايير الدولية المعنية ومن المقرر بدء تنفيذها في يونيو القادم، إضافة إلى توحيد المقاييس الخاصة بتنمية قطاع المواد المضافة للأغذية من خلال القيام بحملات تفتيش خاصة وغيره من السبل القانونية ووسائل المراقبة، وذكر تشن شياو هونغ أن الحكومة الصينية تولي اهتماما بالغا لمشكلة سلامة الأغذية، وقال إن الصين مستعدة لإقامة منبر تبادل في هذا المجال مع دول العالم كافة لإظهار دورها الإيجابي في دفع تجارة الأغذية الدولية والتعاون التقني .بعد فترة استراحة قصيرة عقب الجلسة الافتتاحية، دخل الاجتماع بثقله في جدول اعماله، حيث خصصت( 9 ) ساعات يوميا، بمعدل جلستين يوميا تتخللهما استراحتان لتناول القهوة، وذلك على مدى ستة ايام متصلة، لمناقشة اوراق العمل، وعددها في اجتماع بكين» 11 « ورقة ، جاءت في نحو» 800 « صفحة على ورقة ال « A4 »، وهي عبارة عن مقترحات مواصفات علمية وضعتها لجان خبراء كودكس خلال عام، عبر مناقشات الكترونية، واجتماعات مباشرة لتبادل المعلومات والتجارب والبحوث الجديدة في مجال المضافات. في الحلقة القادمة: - محتويات الأوراق -أساليب النقاش، وكيف تنسج للوبيات - كيف يتم تمرير المواصفات عبر اللوبيات و المساومات - العالم الاول اكثر خبرة واكثر هيمنة والكرة بين رجليه