الصديق القاص والناقد البروفيسور محمد المهدي بشري طالعنا له من قبل على الغلاف الأخير لكتابيه (الفولكلور في ابداع الطيب صالح 2004م) و(الشمعة والظلام - ايضاً 2004م). - طالعنا ان له تحت الطبع كتاباً بعنوان: (أجمل القصص السوداني): مختارات من القصة القصيرة السودانية) وها نحن نطالع له هذه المختارات بعد اعوام اربعة من ذاك التنويه صادرة عن (كتاب في جريدة) الذي تصدره منظمة اليونسكو - مايو 2008م - وقد اتخذ له عنواناً: (المقاعد الأمامية - مختارات من القصة القصيرة السودانية) من اعداده وتقديمه. احتوى الكتاب على «29» قصة قصيرة توزعت على «29» كاتباً منهم ثمانية رحلوا عن هذه الفانية. غطت القصص الفترة الزمنية من ثلاثينيات القرن الماضي وحتى مطلع الألفية الثالثة، وحسب متابعتنا لمسار القصة القصيرة السودانية فقد رصدنا في هذا الكتاب - المختارات، ان عشرين قصة قصيرة منها تنتمي إلى حقبتي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، أما القصص التسع المتبقية فتدين ببنوتها للثلاثينيات والاربعينيات والخمسينيات والتسعينيات من القرن المنصرم اضافة الى مطلع النصف الثاني من العقد الأول في قرننا الجديد مما يعني ان كفة الميزان في المختارات رجحت في الستينيات والسبعينيات. أشار الأديب محمد المهدي بشرى في مقدمته إلى ان القصة القصيرة السودانية هي: «ابنة الطباعة، ويلاحظ تلازم تطور القصة القصيرة وازدهارها مع تطور الصحافة، لذا لم يكن غريباً ميلاد القصة الحديثة في السودان في ثلاثينيات القرن الماضي مع ظهور مجلتي (الفجر) و(النهضة) ويمكن القول ان أول من كتب قصة قصيرة سودانية مكتملة هو معاوية نور» وقد ذهب مهدي بشرى إلى القول بإن (عقد الستينيات شهد اخصب مراحل القصة السودانية اذ تطورت القصة كماً وكيفاً على يد كتاب قصة مرموقين مثل الطيب صالح وإبراهيم اسحق وابن خلدون) هنا خلط غير موفق ومعلومة غير دقيقة في تقديرنا اذ ان الشامخ الطيب صالح تطورت على يديه الرواية وليست القصة القصيرة، أما المبدع إبراهيم اسحق فهو من جيل السبعينيات ولم تنشر له أية قصة قصيرة في الستينيات. ويؤكد مهدي بشرى أن الستينيات شهدت (ظهور العشرات من المجموعات القصصية) ومن جانبنا نؤكد له ان الستينيات شهدت صدور عشرين مجموعة قصصية تقريباً.. فأين هذه العشرات؟! بيد أننا نتفق معه في قوله (فما أكثر كتاب القصة الموهوبين الذين عجزوا عن اصدار مجموعاتهم القصصية مثل عثمان الحوري الذي ظل واحداً من اميز كتاب القصة طوال نصف قرن). ويستطرد مهدي بشرى في اضاءاته قائلاً: «وفي السبعينيات ظهرت تيارات اخرى مثل القصة الممعنة في رمزيتها كما عند محجوب الشعراني وبشرى الفاضل وأحمد الملك» وهنا خطأ فادح وقع فيه الناقد مهدي بشرى حينما زجَّ باسم أحمد الملك في تيار السبعينيات وهو المولود عام 1967م!! ان القاص أحمد الملك من كتاب حقبة التسعينيات. لم يفصح لنا الاديب مهدي بشري عن سبب اختياره (المقاعد الأمامية) عنواناً لهذه المختارات، هل هو نوع من استحسان عنوان مجموعة الزبير علي القصصية؟ أم هي اشارة بأن القصة القصيرة السودانية قد احتلت المقاعد الأمامية في السرديات السودانية؟!. تجدر الملاحظة ايضاً بأن هناك قصصاً قصيرة وردت في مختارات سابقة وهي (كلاب القرية) و(المقاعد الأمامية) و(المخزن) و(ماذا فعلت الوردة؟) و(رسالة الغفران) وقد تضمنتهم مختارات عجوبة وعلي المك في كتابيهما (نماذج من القصة السودانية) و(مختارات من الأدب السوداني) فما هي الحكمة في ان (يختار) مهدي بشرى تلك القصص التي (اختارها) آخرون؟! هل تلك القصص هي بيضة الديك عند كل من: أبي بكر خالد والزبير علي وعثمان الحوري وعيسى الحلو وفؤاد أحمد عبد العظيم؟!. وإذا تأملنا الاسماء المختارة والقصص المختارة لهم نجد ان بعضهم وجد مقعداً له فيها بالصدفة وحدها إذ لا تأثير له كماً وكيفاً في مسار القصة القصيرة السودانية والبعض الآخر كانت النماذج المختارة لهم لا تمثل الباهر لديهم قصصياً وهنا نزعم بأن القاص الناقد مهدي بشرى قد وفق الى حد ما في اختيار اسماء بيد انه لم يوفق في اختيار نصوص قصصية فارعة لهم اذ هناك نصوص لهم كانت أولى واجدر بالانتقاء. ونتساءل: لماذا لم يضِّمن القاص مهدي بشري قصة له في هذه المختارات وهو حق مشروع له اذ فعلها من قبل كل من مختار عجوبة وعلي المك في مختاراتهما؟! ويمتد التساؤل: لماذا اغفل مهدي بشرى هذه الاسماء والتي نعتقد انها (وفد مقدمة) ولا يمكن لأي كان ان يدير ظهره لهم في أي مختارات قصصية سودانية معاصرة تجاوزاً لضلالات الذائفة الذاتية وبعيداً عن منطق الوصاية وهم: (بشير الطيب ويوسف خليل ومحمود محمد مدني وأحمد محمد الأمين وفيصل مصطفى ومبارك الصادق وعبد العزيز بركة ساكن وعبد الغني كرم الله وأحمد ابو حازم ومحمد خلف الله سليمان)، لأن المختارات حسب اعتقادنا ليست حشداً لنماذج تمثل فترة زمنية تراهن فيها على جيل او جيلين - مثلما فعل بشرى - بقدر ما هي تمثل المنجز القصصي السوداني الحقيقي في بانوراما. وحتى يخرج مهدي بشرى من مأزق اختياراته الذي تم على اساس المفاضلة لأسماء معينة في تركيزه على حقبتي الستينيات والسبعينيات فاتكأ على ذريعة انها (إضاءة) لأهم ملامح مسيرة القصة السودانية لأكثر من نصف قرن (وهي بالطبع مسيرة طويلة وشاقة لا يلم بها مجلد واحد محدود). كان على مهدي بشرى ان يوضح المعيار الملموس في اختياره لتلك القصص و(الاضاءة) هنا على حد علمنا وعاء معلومات مقتضب يلتصق بالنصوص والاحصائيات الموثقة. لم يطلعنا الناقد مهدي بشرى عن (كم) الاصدارات القصصية السودانية طوال «54» عاماً أي منذ صدور أول مجموعة قصصية سودانية تقريباً - والمعلومة بطرفنا حسب الببليوغرافيا التي قمنا باعدادها - و(كم) الاصدارات النسوية فيها وهي معلومة مهمة جداً بالنسبة للقارئ العربي عامة والسوداني على وجه الخصوص. لماذا اغفل مهدي بشرى ذكر معلومة عن رسالة الناقد الدكتور هاشم ميرغني في القصة القصيرة؟ ولماذا لم يلتفت إلى ذكر الجهد الذي قام به استاذنا الباحث الدكتور قاسم عثمان نور في كتابه (دليل القصة السودانية)، كما أن بشرى لم يشر إلى رسالة الماجستير للباحثة ابتسام أحمد الحسن عن القصة السودانية القصيرة.. أغفل أيضاً الاشارة إلى موقع (مقصد) الالكتروني والى البرنامج الاذاعي. ان ورود مثل هذه المعلومات بعمق درايتنا نحن الذين داخل الوطن بما هو معروف ويكشف للقراء في وطننا العربي، عما هو مجهول. لاحظنا انه في التعريف بما صدر في المختارات لمبدعنا إبراهيم اسحق ورد عنوان: (حكايات المدرسة القديمة) والصحيح بالطبع (مهرجان المدرسة القديمة)، كما سقط عنوانان لقصتين لكل من اسماء بنت الشمالية التي ورد اسمها غفلاً عن أي سطور تنويرية عنها وأمير تاج السر، أما هاشم محجوب فسقطت عنه ايضاً أي سطور تنويرية. ان ما أثار إنتباهنا حقيقة هو تلك المفاضلة في تركيز مهدي بشرى بهذه المختارات على حقبتي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فان جاءت المفاضلة على اساس (الكم) الصادر من المجموعات القصصية في الحقبتين الآنفتين فإننا نؤكد ان ما صدر من مجموعات قصصية في حقبة التسعينيات وحدها يفوق ما صدر في الحقبتين المذكورتين، وان اتت مفاضلته بناءً على الاسماء الموهوبة في تلك الحقبتين فان هناك ايضاً اسماء موهوبة في التسعينيات لا يمكن ان نستخف بها ونزدريها اضافة الى الاسماء التي تواصل عطاؤها من فترتي الستينيات والسبعينيات. ان حقبة التسعينيات لها جانب دلالي اذ تعطي الناقد والقارئ فكرة رحبة عن مجمل ما وصل إليه انتاجنا القصصي من تطور سواء في المضمون أو التقنيات الفنية. كنا نأمل في فرص مثل هذه والتي لا تتكرر كثيراً وقريباً - نأمل ممن يقع عليه التكليف باعداد مختارات في الشعر أو القصة أو سواهما ان يعقد ورشة من بعض العاملين في الحقل المعني ولهم باع طويل فيه حتى تخرج المختارات وهي اقرب إلى ما هو أمثل وخاصة انها بحجم وطن. ان الذي اغرانا بتقديم هذه الملاحظات العابرة حول هذه المختارات ان من اختارها وقدم لها البروفيسور محمد المهدي بشرى هو كاتب قصة في المقام الأول وناقد له اسهاماته النقدية المواكبة لمنعطفات القصة القصيرة السودانية منذ السبعينيات من القرن الماضي وحتى الآن من ثم لا نملك بعد ذلك إلاَّ ان نقدر الجهد الذي بذله في الوطن العربي الفقير الى هذا النوع من المختارات القصصية السودانية بما يضئ مسيرتنا الابداعية القصصية التي نالها تعتيم كبير خارج الوطن. وان اختلفنا في غير قليل مما أورده في مقدمته وفي الاختيار فإن ذلك لا يجعلنا نجحد ان هذه المختارات جسر تواصل أكثر فاعلية مما ينشر من ابداعنا السوداني عبر الشبكة العنكبوتية.