أمس الأوّل قدّمت معديّة توتى و محرّكاتها فاصلا بكائيا فسمع الركّاب نحيبها الشجىّ و رصدوا تساقط قطرات الماء على سطحها ... بل أصدرت المعديّة أوامرها لهياكل جسر توتى الخرصانية لتشاطر (التوتيّين) فقدهم فتصايحت الآليات و الأوناش ! الموت لا يضرب ميعادا مع أحد ممّن يزورهم ... ربما لذلك نستشعر بأنّ معظم الموتى رحلوا قبل الأوان ... لكن الموت فى حالات (نادرة) يأتى فى أوانه ... وأوانه هو أن يكون للانسان أعمال على قيد الحياة وهو على قيد الموت ... ولذلك فوفاة بروفسيور داوود مصطفى حالة من هذه الحالات (النادرة) ! الأعمال الصالحة النافعة لبروفسيور داوود هى سيرته الذاتيّة ... فقد عمل فى خطواته الطبيّة الأولى طبيبا فى اتجاهات السودان الأربع ... وأسّس قسم الباطنية على أسس المهنة وأخلاقها ... وتولّى عمادة كلية الطب مرّات ... و عكف على عدد من الأبحاث فتحوّلت الى وسائل تشخيصية و علاجية ... وطوال حياته الباطنية لم يفتتح عيادة تجارية ... لكنّه حوّل مكتبه فى مستشفى الخرطوم الى عيادة يستقبل فيها أهالى توتى ... ولذلك فقد كان اسم الشهرة لمكتبه : عيادة توتى ! أمّا أبناؤه فليس هم الذين من صلبه فقط ... فلبروفسيور داوود أبناء يشكّلون صفّا طويلا لأساتذة كبار و مصفوفة من أطباء ذوى مقامات علمية رفيعة بالداخل و الخارج ! عملت مع بروفسيورداوود وقتا قصيرا بقسم أمراض الأعصاب فى سنواتى الأولى بالطب ... وكان المرور معه على مرضاه شاقا ... فهو يبحث عن الألياف العصبية بين كوم من المرضى ... و بعد أسابيع تسرّب اليه خبر بانّنى ذو نوازع صحفية فأزعجه ذلك فقد كان من المعتقدين بصرامة بأنّ الطب لا يقترن بأعمال أخرى ... فأخضعنى بعدها لامتحان خاص ليطمئنّ بأنّنى أستطيع التشخيص التفريقى بين التقرير الصحفى والتقرير الطبّى! المرحوم البروفسيور داوود نال الجوائز و الأوسمة من المحافل العلمية ومن الدو لة ... لكن الجائزة الأكبر هى التى نالها من عامة السودانيين وخاصتهم ... أمّا جائزة الابداع الباطنى فقد نالها من مرضاه الذين رفعوا أيديهم للسماء دعاءا لأستاذ (الباطنية) داوود مصطفى فى ظاهرهم و(باطنهم) !!