قبل بضعة أيام كنت في طريقي إلى "زيارة أسرية" عندما حانت منِّي التفاتة نحو مبنى "إسكان الطالبات" التابع ل "جمعية المغتربين" و المطل على شارع المعرض .. فعدت بذاكرتي إلى نحو عقد من الزمان عندما كنت أسكن ذلك المكان، و أقبع فيه طوال الوقت بانعزالية ? أبناء المغتربين - الذين يعيشون على هامش الواقع ! .. وبعد أن تشبعت روحي بطاقة من الحنين فكرت في أن ثراء الأحداث و التفاصيل التي شهدتها في ذلك المكان تصلح بامتياز لأن تكون (نواة) رواية تُصوِّر إشكالية العلاقة و مزالق الامتزاج بين التركيبة الاجتماعية و الثقافية لأبناء المغتربين و مثيلتها عند نظرائهم من المقيمين في البلد!.. أعادتني بصمات عوامل التعرية في الشكل الخارجي للمبنى والتي التقطها بصري في تلك النظرة العجلى إلى حكاية قيام ذلك المكان و إلى سبابتي المرفوعة بحماس في إحدى جلسات مؤتمر المغتربين الثالث .. و إلى حديثي يومها عن ضرورة إشراف الآباء المباشر على سكن خاص لبناتهن تتوافر فيه شروط البيت المحافظ البديل بعد أن كثر اللغط حول بعض الداخليات الاستثمارية .. كان ذلك عندما كنت السكرتير الثقافي لرابطة طلاب الشهادة العربية في أيام دراستي بجامعة الخرطوم، و بطبيعة الحال لم تكن تلك الصفة الإدارية الطوعوية مبعث فخر بمقاييس باترون شخصية الطالب الجامعي المحلي في ذلك الوقت، و الذي كان يرى الطلبة الوافدين من الخارج كالقذى في عين جامعاته السودانية العريقة ! .. في تلك الفترة كانت مشاكل - التأقلم أو - العودة إلى طبيعة العلاقات الاجتماعية في مرحلة ما قبل الهجرة والتي تواجه المغترب الوافد إلى البلد أكبر و أعمق تأثيراً مما هي عليه الآن .. وكان تطبيع العلاقات بين المقيم و المغترب أكثر صعوبة لأن المجتمع المحلي كان أكثر انغلاقاً وأقل تسامحاً مع الثقافات الاجتماعية الوافدة التي تلون سلوكيات الجيل الأول من المغتربين، و تطغى على قناعات أبناءهم الذي يمثلون الجيل الثاني ! .. مشكلة توفير سكن مريح لطالبات الجامعات من بنات المغتربين بمواصفات تناسب ثقافتهن الوافدة مع الإبقاء على إطار الأعراف المحلية كانت تتطلب موازنة مرهقة بين ثقافة الاقتصار على الانصهار في الاسرة (النواة) التي يتبناها المغترب و ثقافة الانصهار في الأسرة (الممتدة) التي يتبناها المقيم في البلد .. فالعم أو الخال الذي نشأ على ثقافة مجتمعية مفادها أن إقامة الطالبات القادمات إلى العاصمة من الأقاليم القريبة أو البعيدة في بيوت أقرباءهن أمر مفروغ منه بحكم العرف و العادة لن يستطيع هضم أو ابتلاع سلوكيات المغتربين الوافدة و القائمة على مبدأ تقديس خصوصية سكن و معيشة بناتهم ! .. وبناتهم اللاتي يمثلن الجيل الثاني من المغتربين الذي تربى على اتساع هامش الفردية و الخصوصية الاجتماعية لن يستطعن بأي حال أن يتقبلن فكرة الحياة في بيت متكظ بأقارب من الدرجة العاشرة الأمر الذي لا يتناسب مع ثقافتهن الوافدة التي تكره الأجواء المشبعة بثاني أكسيد الكربون و القائمة على روح القطيع ! .. ف الفتاة التي تربت خارج البلاد تواجه صعوبة في الرقص على إيقاع العادات و الأعراف المحلية .. الأمر الذي لم يفرز مشاكل السكن و التأقلم فحسب بل أفرز مشكلة أعمق هي مشكلة تعامل الفتاة ذات الثقافة الوافدة و النسيج الاجتماعي المغاير مع مؤسسة الزواج بشروطها المحلية .. كل هذه الأفكار دارت بخلدي بعد أن أثارتها تلك الالتفاتة، وبرصيد وافر من الذكريات و التفاصيل السلبية و الإيجابية في حياة الكثيرات من زميلاتي و صديقاتي اللاتي عاصرتهن في ذلك المكان انبثق من داخلي سؤال عن مدى مقدرة بنات المغتربين على إدارة دفة علاقات الزواج مع أزواج بنشأة وتربية وقناعات محلية ؟!