تطرق رائد علم الاجتماع بن خلدون في مقدمته الشهيرة عن تأثير البيئة على الإنسان حيث قال: إن للمناخ أو البيئة أثر في سلوك الإنسان وتصرفاته والبيئة هي المحيط أو الوسط الذي يعيش فيه الإنسان يتطبَّع بطباعه ويتخصل بخصاله، فالبيئة أيًا كانت تؤثر في الفرد فيصبح البيت في تلك البيئة نموذجًا مصغرًا لتلك البيئة.. ما أردت الإشارة إليه من خلال تلك المقدمة هو الصعوبة التي يجدها أبناء المغتربين السودانيين عند قدومهم لقضاء الإجازات بالسودان؛ فيصعب عليهم التأقلم مع أجواء السودان وعاداته وتقاليده والأسر الممتدة والزيارات التي لا تتقيد بتوقيت و«الحالة واحدة».. حاولنا عبر «نافذة مهاجر» تناول عدد من النماذج لتحدثنا عن رأيها في هذا الاختلاف المجتمعي والكيفية التي اتخذتها للتعود عليه.. الزيارة بمواعيد!! بداية كان لقاؤنا بالحاجة محاسن النقر والتي قصت عن سلوكيات أحفادها القادمين من المهجر في إجازة قصيرة بقولها: أبناء ابنتي يستغربون جدًا من الزيارات الصباحية وعبارات «كيف أصبحتو» ويعلقون بقولهم «حبوبة ديل كل يوم بقولوا ليكم كيف أصبحتو ليه؟؟ وليه بجو بدري كدا»؟ وهذا يعود لأنهم في المهجر لاتوجد لديهم مثل هذه السلوكيات الجميلة، بل الزيارات تكون وفق اتصال مسبق وحقيقة في كثير من الأحيان «بحرقو روحي» بأسئلتهم التي لا تنتهي!! يحسبونها فوضى أحمد آدم الطاهر أبناء أخيه قدموا إليه في إجازة بعد غياب دام عن السودان قرابة السنوات العشر، أشار بقوله إن أبناء أخيه يجعلونه يشعر كأنهم قادمون من كوكب آخر! فتساؤلاتهم لا تنتهي عن كل شيء، يستغربون للمصطلحات السودانية ويتستغربون جدًا لنوم «الحوش» والزيارات الصباحية من جارات زوجتي اللأئي يأتين وهن في طريقهن لجلب الخضار واللحمة ويصبحن علينا وهن يتبادلن الأحاديث بأصوات عالية ويعلق أبناء أخي على ذلك بقولهم هذه «فوضى»! الإصرار على الخطأ أما وليد هاشم من أبناء المغتربين ويقضي حاليًا فترة إجازته بالسودان يقول: نحن تربينا بالمهجر على الديمقراطية وإبداء الرأي الآخر لكن عند حضوري للسودان لاحظت شبه ديكتاتورية في الكلام! فعندما يقول الشخص الكبير كلامًا ولو كان خاطئًا يجب علينا عدم مجادلته وفي ذات مرة تناقشت مع جدي في موضوع ما وكان رأيه خاطئاً فما كان من الجميع إلا وأن أشاروا عليّ بالسكوت فسكت على مضض ولكن هذا أسلوب تربوي خاطئ!. حب السيطرة محمد الحسن مقيم بالمهجر منذ «15» سنة وعندما آن أوان دخول أبنائه للجامعات ووفقًا للمتبع عليه جاء بهم للتقديم للجامعات السودانية يقول الحسن: في البداية اختلف إخواتي وأخوات زوجتي في إقامة أبنائي كل منهم يريد أن يقيموا معهم فآثر أبنائي أهل والدتهم، وقد كان ولكن وقبل مغادرتي السودان للمهجر لاحظت التأفف وعدم الرضا باديًا على بنتي الكبيرة، وعندما سألتها عن السبب أجابت بأن كل فرد من العائلة يعتبر نفسه وصيًا عليها وتكثر الانتقادات في طريقة اللبس والتحدث في الموبايل فما كان مني إلا أن سحبت أوراق تقديمها لتلك الجامعة العريقة وعدنا أدراجنا وهي الآن تدرس بذات الدولة التي نقيم بها وتحت رعايتنا وتوجيهنا رغم قناعتي بمكانة الجامعات السودانية وعراقتها لكن «بتي قربت تجيها نفسيات» من الجو الذي كانت تعيش فيه بالسودان.. الاهتمام المفرط تقييد!! «م ع» طالب شهادة عربية قال في إفادته له: إن كل الذي كان يربطنا بالسودان مكالمات هاتفية صوتية سلّم على جدو وعلى حبوبة وخالتو وعمتو وهكذا وعبر الهاتف يطلبون منا مثلاً قراءة نشيد و«أدوكم شنو في المدرسة» أسئلة متكررة وخاوية! وأهلنا بالسودان هم الذين يشعروننا بأننا «غير» من خلال تعاملهم معنا والاهتمام المفرط لدرجة تصل لتقييد الحرية الشخصية.. والدي شخص مقتدر ماليًا والكل يسعى لإرضائه.. افتقاد قيمنا.. خطر نفسي في ختام جولتنا التقينا الاختصاصي النفسي عادل محمد بشير للنظر في الموضوع من زاوية علم النفس فأفادنا قائلاً: إن الأطفال الذين ينشأون في دول المهجر عند حضورهم للسودان يستغربون جدًا من عاداتنا وتقاليدنا ولا يستطيعون التأقلم مع المجتمع السوداني لعدة أسباب منها أن السكن هناك يختلف تمامًا عن السكن هنا فهنالك يسكنون في شقق مغلقة وحتى داخل الشقة تكون هنالك غرفة خاصة للفتاة، وغرفة خاصة للولد أو غرفة للأبناء وغرفة للبنات، ونظام الزيارات لا يتم دون اتصال هاتفي مسبق حتى الشخص يتأكد من الشخص الزائر من وجوده وإمكانية استقباله له.. ولكن هنا في السودان تختلف ثقافتنا وتربيتنا تمامًا، وحقيقة للآباء دور كبير في الذي يحدث لأبنائهم فعلى الأم أو الأب أن يحكيا لأبنائهم عن الثقافة السودانية والعادات والتقاليد وشكل الحياة بالسودان حتى لايتفاجأ الأبناء بواقع مختلف غير البيئة التي نشأ بها وبالتالي لا يستطيع التأقلم معها ويكون ذلك بالحرص على الإجازات السنوية والعمل على غرس قيم المجتمع السوداني في دواخلهم حتى يكونوا على ارتباط وثيق بها، لكن من غير المعقول أن آتي بابني للسودان مثلاً وهو في سن «16» أو «17» ولم يكن قد زار السودان من قبل إلا في فترات متقطعة وأطلب منه الإقامة في بيئة تختلف تمامًا عن البيئة التي نشأ بها دون أن تكون له خلفية ثقافية عنها فعلى الأب أن يحكي لأبنائه عن تربيته قديمًا وعن الجيران وعن لعب الشارع والزيارات كلما سحنت لهم الفرصة لأنه عادة في دولة المهجر يكون الأب مشغولاً لدوامين في اليوم والوقت الذي يقضيه مع أبنائه محدود فيجب عليه استغلاله لتعريفه بثقافة بلده وعاداته وتقاليده، لكن نجد أن كثيرًا من أبناء المغتربين يكونوا قد شُبّعوا إذا جاز لي التعبير بكراهية الوضع في السودان بسبب معاناة الأهل قبل الاغتراب فينشأوا على أن السودان مثلاً دولة طاردة! وحينما تفرض عليهم الإقامة الجبرية به «للدراسة» يكون ذلك على مضض وبالتالي يؤثر ذلك على نفسياتهم وينعكس ذلك سلبًا على تحصيله الدراسي ونجده يفضل أن يكون خارج المنزل لفترات طويلة هربًا من عادات وتقاليد يجهل عنها الكثير وهنا يسهل عليه الوقوع فريسة للشلليات وأصدقاء السوء.. والحل لتلافي أي أثار سالبة على أبناء المغتربين حال إقامتهم بالسودان يكمن في تعريفهم بهويتهم وثقافتهم السودانية الجميلة.