مثلما يتوق الكثيرون الى أدب الاستقالة في العمل العام والعمل التنفيذي، فثمة أشواق اخرى للإلتزام بها في العمل السياسي لدى الأحزاب، حيث أن التنحي عن القيادة فيها أصبح مربوطاً بالظروف الطبيعية كالموت مثلاً.. عدا ذلك فإن كراسي القيادة الحزبية مقيدة ومفصلة خصيصاً لمن يجلسون عليها، وما عداهم «حيران» مهما بلغوا من العلم والكسب.. والشواهد تقول إن غالبية زعماء الأحزاب الحاليين في السودان جلسوا على كراسيهم بعد أن قال الموت كلمته على من قبلهم، فقد أمسك الصادق المهدي بزعامة الأمة بعد «استشهاد» عمه الإمام الهادي المهدي على خلفية أحداث الجزيرة أبا الشهيرة العام 1970، وجاء نقد زعيم الحزب الشيوعي بعد «إعدام» عبدالخالق محجوب الأمين العام في أعقاب إنقلاب هاشم العطا العام 1971م. وكذلك رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي مولانا محمد عثمان الميرغني جاء للرئاسة بعد انتقال السيد إسماعيل الأزهري للرفيق الأعلى في معتقله بسجن كوبر العام 1969م. ليصبح د. حسن الترابي زعيم المؤتمر الشعبي وحده الذي تسلم القيادة عبر مؤتمر عام بعد استقالة من سبقه «الرشيد الطاهر بكر»، ويقول خبراء إن العمل السياسي داخل الأحزاب السودانية مهما تطور فهو يرجع الى جذور الشخصية السودانية التي تسيطر عليها الفكرة الأبوية وتتعداها الى شيخ القبيلة ثم زعيم الطائفة.. وتلقي مرجعيات الحياة السودانية بظلالها على العمل السياسي الحزبي على مستوى قيادته بحيث صارت «كاريزما» الفكر الأبوي ترفض كل تجديد، وصارت تكرس لفكرة التوريث. وبعد سيرة مليئة بالنضال، يظل السيد الصادق المهدي رئىس حزب الأمة القومي وإمام الأنصار امتداداً للزعامات الحزبية التي لم يطلها التغيير، إلا أنه أخيراً وبحسب مصادر أحس في قرارة نفسه بضرورة الترجل، ووصفت مصادر مقربة للإمام إتفاق التراضي الوطني بمباراة الاعتزال.. حيث قال الإمام في جو يغلب عليه الطابع الأسري.. كما ذكرت المصادر ل «الرأي العام» (إني جاوزت السبعين من عمري واتفاق التراضي هو بالنسبة لي.. مباراة اعتزال فإما أن يؤتى أكله ويخرج البلاد من مآزقها السياسية.. أو خرجت أنا من الساحة السياسية كما خرج اللاعب الفرنسي زين الدين زيدان في نهائي كأس العالم «مباراة اعتزاله» بالكرت الأحمر!!). وحزب الأمة مثله مثل الحزب الاتحادي الديمقراطي، حزب طائفي ويزيد عنه بأنه أسري.. والاعتماد على الطائفة جعل وراثة زعامة الحزب أمراً جائزاً.. خاصة أن الزعامة لم تفارق آل المهدي.. وبعد وفاة السيد الإمام الصديق في العام 1961م ولمدة ثلاث سنوات من بعده كان الأمير عبدالله عبدالرحمن نقد الله أميناً عاماً للحزب ليأتي بعده السيد الصادق المهدي بقرار أسري زعيماً لحزب الأمة بعد ثورة أكتوبر 1964م، وتم انتخاب الصادق كرئيس لحزب الأمة خلال مؤتمرات عدة عقدها الحزب أحدثها في منتصف الثمانينات بعد الانتفاضة ثم العام 2003، ويبدو أن الديمقراطية في الأحزاب التقليدية في إنحياز دائم للطائفية التي تعتمد على الأسرة وكاريزما الزعيم.. ومن هذا المنطلق يرى إبراهيم علي إبراهيم مدير مكتب الصادق ومرافقه لأكثر من أربعين عاماً.. إن السيد الصادق المهدي أمامه الكثير ليفعله، فهو لن يتنحى قبل أن ينفذ مبادراته وهو لا يسعى لمصلحة حزب الأمة فقط، ولكنه لعامة الشعب بدليل دعوته للتراضي الوطني وكذلك دعوته للمؤتمر الجامع لحل مشاكل السودان، لكن هناك من لم يستبعد تنحي الصادق المهدي لأحد أبنائه لا سيما عبدالرحمن، وكذلك ابنه الصديق، ويؤيد المهندس عبدالله مسار مستشار رئيس الجمهورية هذا الإتجاه، باعتبار أن خيارات الصادق لا تخرج من د. مريم أو ابنه عبدالرحمن.. فهو يرى أن والدهم أعدهم وأصبح لديهم من التجارب والخبرات ما يؤهلهم.. خصوصاً وأنهم أصبحوا معروفين كأسماء بارزة، واستبعد مسار أي أحقية بخلاف أبناء الصادق، حيث أن آل المهدي الآخرين توزعوا على أحزاب أخرى باسم الأمة، وأشار الى أن مبارك الفاضل مهما يجتهد فسيظل لا تأثير له في وجود الصادق، ويتفق ناشط سياسي مطلع مع وجهة النظر تلك.. موضحاً ان الصادق فتح الأبواب أمام أبنائه لينافسوا وليس هناك ما يحول بين د. مريم وبين الرئاسة حتى ولو «كونها إمرأة..؟!!» فهي مؤهلة وبالتالي لا يخصم منها أي عامل آخر ولا يضيف لها، ومن قبل انتخبت المرحومة سارة الفاضل «في المكتب السياسي هي وأخريات» لجهدها ونشاطها، ورغم ان عبدالرسول النور الناشط السياسي استرسل في الوقوف على البديل إلا أنه عاد للقول إن السيد الصادق المهدي لن يعتزل لأنه صاحب رسالة، والرسالة ليس لديها عمر محدد.. صمت وأضاف: أن يتحول من شخصية تنفيذية الى شخصية أبوية راعية «لسه» فهو أمامه الكثير ليفعله.. وآخرها إنزال النقاط السبع التي جاءت في وثيقة التراضي من الورق على الأرض. ويتقاطع د. الطيب زين العابدين أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم مع هذا القول، حيث يرى صعوبة فوز أحد أمام الصادق بأية صورة من الصور، خاصة وأن هناك مؤتمراً عاماً لحزب الأمة.. إلا أن يتنازل طوعاً أو يكون عاجزاً عن العمل، وحالياً لا يوجد خليفة ظاهر قريباً من القيادة يجتمع حوله الناس عدا أولاده وخصوصاً د. مريم ورباح حيث لهما مساهمة سياسية جيدة جعلتهما معروفين، إلا أنه عاد الى استنكار وغرابة الزعامة السياسية للمرأة، وأوضح حتى في الجنوب الذي ينتمي للثقافة الغربية لم ترث زوجة د. قرنق زعامة الحزب. حيث رأى الحزب أنها غير مناسبة، وفي مجتمعنا عموماً غير متعارفة، فكيف يقبلها حزب له خلفية دينية جهادية؟ ويرى د. الطيب زين العابدين أن السيد الصادق المهدي سيبقى لعدم جاهزية من يخلفه أولاً، ولطبيعة ثقافة الشعب الذي لا يتحمل الديمقراطية وأصبحت ثقافة المجتمع تكرس للبقاء طويل الأجل..! ولا يبدو مسار متفائلاً من حدوث تغيير في رئاسة حزب الأمة، حيث يرى أنه ليس من السهل التغيير، وأن السيطرة على الأحزاب للشخص الذي يمول الحزب ويمده فكرياً ويكون معروفاً داخلياً وخارجياً ويحوذ على التأييد بالعاطفة الأبوية والدينية، ولتلك الأسباب فإن الصادق باق، وإن طال الأمد.. ولو غادر فإن بديله من الأسرة. وحزب الأمة كغيره من الأحزاب تعرض لإنشقاقات أو إنسلاخات وأشهرها إنسلاخ مبارك الفاضل.. ويقول د. الطيب زين العابدين إن الانسلاخ يضعف الحزب كله لكنه لا يسحب القيادة الرسمية، وطالما أن رئيس الحزب المعترف به موجود فتصبح بقية الأصوات ضعيفة. ? تنويه ? ورد في الحلقة الماضية اسم عبدالرحمن المهدي في سياق الحديث عن أحداث الجزيرة أبا.. والمقصود هو الإمام الهادي.. ونعتذر لهذا الخطأ.