فتحت وثيقة أبيي التي تم توقيعها أخيراً بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية الباب واسعاً أمام التحكيم الدولي، فقد إتفق الطرفان على الإحتكام إلى هيئة دولية متخصصة بشأن الترسيم النهائي لحدود أبيي، وذكرت الوثيقة أنه في حال لم ينجح الطرفان في الإتفاق على التحكيم خلال شهر من التوقيع ستتولى محكمة لاهاي الأمر وتقوم بتعيين هيئة للتحكيم. وتردد في بعض الأوساط السياسية أن الطرفين سيحتكمان إلى محكمة العدل الدولية بلاهاي وهو الأمر الذي نفاه ل «الرأي العام» لوكا بيونق عضو اللجنة المشتركة، كما استبعده غازي سليمان المحامي إذ (أن محكمة العدل الدولية التي باشرت عملها العام 1946 لا تفصل إلاّ في النزاعات بين الدول وهي غير مختصة فيما يتعلق بالنزاعات بين مستويات حكم أدنى كما هو الحال في قضية أبيي). المحكمة الدائمة أما المحكمة المعنية فهي المحكمة الدائمة للتحكيم التي تتخذ من مدينة لاهاي الهولندية مقراً لها، وتضم في عضويتها «106» دول وتعتمد هذه المحكمة التي تأسست العام 9981على عدد من الإجراءات من بينها التحكيم والمصالحة وتقصي الحقائق في المنازعات التي يمكن أن تنشب بين الدول، أو بين الدولة ومستويات حكم أقل أو أفراد أو منظمات مجتمع مدني، وعادة تطلب الدول تحكيم هذه المحكمة في المنازعات التي تخص معاهدات قائمة أو تطلب منها العمل على حل الخلافات المتعلقة بالسيادة الوطنية أو غير ذلك حسبما ذكر الأمين العام للمحكمة السيد تاكو فاندن هاوت في محاضرة له بالإمارات العربية في فبراير الماضي. وسيلجأ الطرفان (الوطني والشعبية) في حال فشلهما في الوصول إلى إتفاق خلال شهر من التوقيع إلى السيد هاوت لأنه هو من سيقوم بتعيين لجنة التحكيم ووضع مرجعياتها وقواعدها، وقد سبق أن عملت المحكمة على قضايا كثيرة منها النزاع بين اليمن وأريتريا على جزر حنيش.. ونزاع بين باربادوس وترينيداد وتوباغو حول منطقة إقتصادية خاصة، وخلاف بين بلجيكا وهولندا على خط للسكة الحديد. والمحكمة ذات صبغة تعددية وتسمح بإنضمام أشخاص يختارهم المتخاصمان نفسهما إلى لجنة التحكيم وقد إتسع نطاق إختصاص المحكمة منذ تأسيسها وحازت قبولاً واسعاً. وينظر كثير من المراقبين إلى اتفاق أبيي الأخير بإعتباره مرحلة حاسمة في تطور القضية وذهب البعض منهم إلى وصفه بأنه ميلاد جديد لإتفاقية السلام، على أعتبار أنه سيقدم حلاً نهائياً للملف عبر بوابة التحكيم الدولي. والطريق إلى تلك البوابة يمر عبر مسارين محتملين، الأول أن تتفق الحركة الشعبية مع شريكها المؤتمر الوطني في غضون شهر على هيئة دولية متخصصة يسميانها ويرتضي الطرفان أن تبت في مصير المنطقة المتنازع عليها، وإلا فإن الموضوع برمته سيأخذ طريقه إلى أضابير المحكمة الدائمة للتحكيم بلاهاي الهولندية لتقوم بتعيين هيئة تحكيم للبت في الموضوع. وكان الدرديري محمد أحمد عضو اللجنة المشتركة قد ذكر أن هناك مشارطة للتحكيم ستوضح بشكل تفصيلي المسائل كافة المتعلقة بتقرير التحكيم. ويلقي حديث الدرديري الضوء على المنطقة المظلمة التي تسببت في عدم قبول المؤتمر الوطني لتقرير الخبراء السابق حول أبيي باعتبار أنهم تجاوزوا المهام المحددة لهم، مما أكد المقولة السائرة أن الإتفاق سهل ولكن الشيطان يكمن في التفاصيل. ووفقا للوكا بيونق عضو اللجنة المشتركة في حديث ل «الرأي العام» فإن الجانبين سيتفقان أولاً على شروط التحكيم، ويعني ذلك تحديد عدد المحكمين وكفاءتهم ومدى قبول الأطراف بهم، وحدود التكليف الممنوح لهم ليقوموا بالتحكيم في مسائل بعينها ضمن أطر محددة، والكيفية التي يجب أن تتم عبرها قرارات المحكمين واللوائح التي تحكم تلك العملية، يقول بيونق: ( لم نستطع نحن وشركاؤنا في المؤتمر الوطني إيجاد حل سياسي للموضوع، ونريد الآن أن نتفق على آلية للتحكيم، وإذا لم نتفق على تكوين لجنة التحكيم سنلجأ إلى المحكمة الدائمة للتحكيم لتساعدنا في إيجاد لجنة تحكيم جديدة). وكشف بيونق ل «الرأي العام» عن بعض المقترحات التي يتم طرحها حول اللجنة التي يسعى الجانبان للإتفاق عليها كي يتجنبا الوصول إلى المحكمة، مثل تكوين لجنة أجنبية يمثل فيها كل طرف بعضوين.. فيما يتم الإتفاق على رئيس للجنة يكون بمثابة الحكم بينهما. تخطى الدستورية وأبدى عدد من القانونيين دهشتهم لتخطي المحكمة الدستورية في مثل هذا الأمر إذ يرى هؤلاء أن المحكمة الدستورية مؤهلة لمعالجة مثل هذه القضية، يقول غازي سليمان (النزاع يمكن حله في المحكمة الدستورية وقد نصت المادة 121 من دستور السودان الإنتقالي على إختصاص المحكمة الدستورية للفصل في مثل هذه النزاعات). ولكن مراقبين يقولون إن المؤتمر الوطني يرغب هذه المرة في إيجاد حل نهائي للأزمة التي أدى تفجيرها أخيراً مع الحركة الشعبية إلى تقويض مباحثاته الأخيرة في الخرطوم مع المبعوث الأمريكي بغرض تطبيع العلاقات بين البلدين، كما أن الحكومة تريد الآن الفراغ من صداع أبيي لتتفرغ لأكبر القضايا التي تواجهها وهي قضية دارفور التي أصابت شظاياها حديثاً العاصمة الخرطوم، وهددت الأوضاع الدستورية القائمة في البلاد. وإذا صدقت عزيمة الشريكين هذه المرة فربما لا تصل قضية أبيي بالضرورة إلى لاهاي، إذ لا يستبعد أن يتفق الطرفان على آلية التحكيم وشروطه والأعضاء المحكمين خلال ما تبقى من مهلة الشهر. ولكن بعض المخاوف لا تزال تلوح، فحتى الآن لا توجد ضمانات لقبول الطرفين بنتائج التحكيم الذي سيكون فيه خاسر بالضرورة، كما أن تقرير التحكيم الذي سيصدر بواسطة خبراء أجانب من محكمة لاهاي أو أية هيئة أخرى يمكن أن يلاقي ذات مصير التقرير الذي سبقه، ويقول جوزيف قرنق القيادي بتحالف الجنوب الديمقراطي ل «الرأي العام»: (نقبل الإتفاق الأخير لأنه يحقن الدماء.. ولكننا نتذكر أن المصفوفة لم يكتب لها النزول من القصر الى ارض الواقع، وإذا أخذنا بالمؤشرات الحالية فإن مرحلة لاهاي ربما تمثل تمديداً للخلاف فحسب، لا توجد أي ضمانات لأن يتم قبول قرار لاهاي من كلا الطرفين). ويبدو الإتفاق هو القشة التي تعلق بها الجانبان كي لا يغرقا في نهر من الدم كاد يسيل بينهما مجدداً، ورغم أن المؤتمر الوطني والحركة لم ينجحا في تسوية هذه القضية معاً طيلة المرحلة الماضية إلا أن الإتفاق الجديد ربما كان جسراً نحو مرحلة مختلفة قد تحمل في ثناياها الحل ولو أتى بوجه قانوني. ويعود لوكا بيونق ليبدي ما يشبه الأسف حول أيلولة أمر أبيي في النهاية إلى جهات أجنبية وسجالات قانونية مقبلة إذ يقول: (هنالك أبعاد في القضايا الوطنية لا يدركها الأجنبي، وفي بعض الأحيان لا تكون الطرق القانونية أنجع السبل للحل لأنها تفرز رابحاً وخاسراً بخلاف الحل السياسي الذي يمكن أن يكسب الجميع عبره).