ما أشبه الليلة بالبارحة. مرة أخرى، وكما حدث لي خلال عدة مرات من قبل، أجد نفسي اردد المثل العربي الشهير البليغ» ما أشبه الليلة بالبارحة». ويبدو أنه لمن قدري، وأنا أمسك بقلمي وأكتب، أن بلدي السودان يمر بمنعطف، قد يكون أخطر ما شهد طوال تاريخه القديم والحديث. وفي مثل هذه الظروف يجابه الكاتب، أي كاتب، بأحد خيارين أحلاهما يفوق الآخر في مرارته. هذان الخياران هما: إما أن يتصدى لمعالجة القضايا الراهنة، بالصدق، والمسئولية، والموضوعية التي يتطلبها الموقف، وإما أن ينسحب من الميدان، بأية صورة من الصور المعروفة، موثراً السلامة، ويكون بذلك قد خان وظيفته، وارتكب جرماً لن يغفره له التاريخ. ولأن خيانة المواقف، والانسحاب من أمام المشاكل يولدان ألماَ هو أقسى من كل ألم سواه، فإن قدرنا هو الثبات والمواجهة مهما كانت العواقب. هل نحن جادون فيما نقول ؟ الأزمات التي تجابه السودان في الوقت الراهن ذوات طابعين أحدهما سياسي والآخر اقتصادي. ولأن الأزمة الاقتصادية هي الأخطر ، فإننا نبدأ بمعالجتها هي أولاَ. ولا نقصد بالمعالجة هنا أن نقدم نحن الحلول لها، وإنما فقط سنحاول الاتفاق على ماهيتها، وتاريخها، وأفضل السبل لعلاجها. ونترك أمر المعالجة الحقيقية لهذه المشاكل للخبراء، والمسئولين المنوط بهم القيام بتلك المهمة الشاقة. وأول سؤال يتبادر إلى الذهن هو: هل المسئولون جادون حقاً حين يتحدثون عن جهود يبذلونها، ومقترحات يقدمونها لحل الأزمة الاقتصادية التي تجابه السودان اليوم؟ من المؤسف أن نقول أن الإجابة عن هذا السؤال هي بالنفي. وأول ما يبرهن على ذلك هو أن المسئولين يتحدثون عن أزمة السودان الاقتصادية وكأنما هي بنت الأمس. إن عمر أزمة السودان الاقتصادية أطول من عمر الحكومة الحالية. وما يجب الاعتراف به هو أن هذه الحكومة لم تنجح في تقديم الحلول الناجعة لحل هذه الأزمة المزمنة وحسب، وإنما فاقمت منها بما انتهجته من سياسات خاطئة. ومن منا لا يذكر أن مصطلح إعادة الهيكلة الذي يتردد الحديث عنه هذه الأيام، ظهر أول ما ظهر مع بداية عهد هذه الحكومة. ففي السنوات الأولى من عمرها (1992) شرعت في تطبيق ما عرف ب (البرنامج الثلاثي للإنقاذ الإقتصادي)، وكان هدفه آنذاك تحريك جمود الاقتصاد ، وما خلفه من نتائج عانى منها الفرد السوداني كثيراً. واليوم، وبعد نحو ثلاثة وعشرين عاماً من عمر هذه الحكومة، نسمع حديثاً للمرة الثانية عن إعادة هيكلة الاقتصاد السوداني مصحوبة بهيكلة للدولة ذاتها، ومعها حزبها السياسي(حزب المؤتمر). ويجيء الحديث عن إعادة هيكلة الاقتصاد السوداني هذه المرة بعد الارتفاع المستمر في أسعار السلع الإستهلاكية، بسبب ارتفاع سعر الدولار، وزيادة معدلات التضخم التي بلغت( 30%)، وانتشار الفساد، وتهريب المنتجات الزراعية والصناعية إلى خارج البلاد، وتراجع الإيرادات، وزيادة الفجوة بين إيرادات الحكومة ومنصرفاتها ، وما يطلق عليه المال المهدر للإعاشة والإنفاق على حياة ترف الموظفين الدستوريين المنتشرين كالسرطان في جميع ولايات السودان، ومختلف الإدارات الحكومية. ومن الحقائق المأساوية التي تذكر هذه الأيام عن مدى التدهور الذي لحق بالاقتصاد السوداني، أن السودان يستورد حالياً الثوم والكركدي من الصين. انقشعت غفوة النفط فهل نعيش صحوة العقل؟ من الأسباب المسكوت عنها في السودان ، أن إنتاج النفط السوداني قد أسهم إلى حد كبير في تراخي دولة السودان الحالية في اتخاذ الإجراءات السليمة لمعالجة أزمة الاقتصاد السوداني التي كانت من بين أسباب نجاحها في قلب نظام الحكم السابق، وتولي إدارة البلاد. وقد اغرت مدخلات النفط السوداني الحكومة السودانية بالتراخي في اتخاذ الخطوات المطلوبة لمعالجة نواحي قصور الاقتصاد السوداني. ومن البديهيات التي لا يحتاج إدراكها إلى بذل كبير عناء، أن ثروة السودان الحقيقية ، والراسخة ، هي في أراضيه الزراعية الخصبة الشاسعة ، المستغلة وغير المستغلة ، والتي حباه الله بها، وكذلك في وفرة مياه الري فيه. وكان في السودان قبل الحكومة الحالية مشروعات صناعية، وزراعية واعدة في شتى المجالات. ومن بين هذه على سبيل المثال لا الحصر صناعة النسيج، والجلود، والنقل النهري والبري، وسكك حديدية، ومشاريع الزراعة في الجزيرة، وشرق السودان، وشماله، وغربه ووسطه. وعوضاً عن أن تسعى هذه الحكومة لتقصي الحقائق حول أسباب انهيار تلك المشاريع الصناعية والزراعية الرائدة وذائعة الصيت، ليس في أفريقيا وحسب، وإنما في كل أنحاء العالم، ومحاسبة من تسببوا في انهيارها، شغلت نفسها بما أنساها أهمية تلك المشاريع وهي تحلم بالاستفادة من الثروة النفطية التي هبطت عليها من السماء. ونسيت هذه الحكومة، أو تناست، أن ثروات السودان ومنشآته الزراعية والصناعية كانت أكثر رسوخاً، وتعد بالرخاء الذي لا يمكن تحقيقه بعائدات النفط وحده. وغاب عن المسئولين ان المشاكل التي اكتنفت صناعة وإنتاج النفط ، سياسية، أجنبية ومحلية، كانت مهددا خطيراً لها. وفي ما يشبه لمح البصر، وبعد انفصال الجنوب، وتكالب القوى الأمريكية والصهيونية على البلاد ، تقلصت عائدات النفط، وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا. . تشخيص الأزمة الاقتصادية قبل إقتراح حلولها لاتخاذ إجراءات لمجابهة الأزمة الاقتصادية الحالية في السودان والخروج منها ، ينبغي أولاَ ، وقبل كل شيء، تشخيصها بصورة صحيحة ، ومعرفة أسبابها. ينبغي في البداية الاعتراف بأن الأزمة الاقتصادية في السودان ليست طارئة، ولكنها مزمنة ويعود تاريخها إلى ما قبل عهد الحكومة الحالية. وكل ما طرأ ليس سوى ازدياد هذه الأزمة بسبب تصرفات خاطئة اتخذتها هذه الحكومة، ومن بينها إهمال القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد السوداني وأهمها الزراعة. وفي الآونة الأخيرة، وبعد انفصال الجنوب، ومحاولات حكومة الجنوب الوليدة الضغط على السودان اقتصادياً عن طريق النفط، وتشديد الحكومة الأمريكية من حصارها الاقتصادي المزمن على السودان والذي بدأ منذ العام 1997، أخذ السودان يعاني، وبشدة، من ارتفاع معدلات التضخم والتي وصلت نسبتها نحو( 30%). بلغ ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة( 9 وسبعة من عشرة). وانخفض الجنيه السوداني مقابل الدولار الأمريكي بعد أن فقد السودان( 75%) من إنتاج النفط الذي كان يبلغ( 480) ألف برميل يومياَ، وقد حدث ذلك بعد انفصال الجنوب في التاسع من شهر يوليو في العام 2011. ومما فاقم من أزمة السودان الاقتصادية، لجوء دولة الجنوب إلى إيقاف صادراته النفطية عبر السودان ، واحتلال منطقة هجليج الذي نتج عنه فقدان تصدير نحو( 150) ألف برميل في اليوم لمدة قاربت الأسبوعين في شهر مايو من العام 2012. (نواصل)