كتب البروفيسور عبد الله علي إبراهيم خطاباً مفتوحاً مهماً للرئيس عمر البشير يدعوه أن يعتني بمطالبات الشباب قائلاً: (أوصيك خيراً بالشباب الذين تداعوا للتعبير عن محبتهم لوطنهم ورأيهم في ولاة أمرهم) وذكّره باستماعه له من قبل ضمن حسن المجايلة (أرجو ان يكون تناديهم اليوم مناسبة لجلال الاستماع. ولقد حظيت مني بمثله مرة في 1990 كتبت يومها قلت إنكم حين قمتم بانقلابكم نظرت في سير ضباط الانقلاب الذاتية. فوجدتك تصغرني بأربع سنوات فأنت بمثابة الأخ الأصغر. ووجدت المرحوم شمس الدين بمثابة الابن. وسقت لكم المعاذير على خطورة ما قمتم به من خرق للدستور. وقلت ربما لم تعجبكم من جيلنا أشياء فخرجتم عن طوركم. وآمل أن تستصحب هذه «المواخاة» متى كبر الجيل الذي ولد وأنت في سدة الحكم، وعشق الوطن بطريقة لم تتفق للجيل السلف).أرسلت الخطاب المفتوح لنخبة مجموعة صحيفة (الأحداث) البريدية، وأثار ذلك تعليقات عديدة أحببت أن أحول بعضها للعلن مع تحوير لجعلها تناسب النشر العام، لأهمية الخطاب واللحظة الحرجة التي قيل فيها. (1) في كتابتي عن أي موضوع كنت أجد كلمات عبد الله ترن في رأسي، فلغته آسرة، ونعوته قوية، والتفاتاته دقيقة. وهذا الاعتراف بقوة كلمته منتشر أكثر بين النخبة والذين يقلونه منهم يركزون على اختلافهم مع محتوى كتابته ومغزاها أو ينتقدون مواقفه ولا ينفون دربته ومقدرته على خلق النعوت وتقليب الملفات ووطء أراضي الفكر البكر. هذا الجمع بين الإعجاب بالمبنى ورفض المعنى وافر تجاه عبد الله وقد صاغه خصيمه الدكتور منصور خالد من قبل في وصفه إياه بأنه كاتب (له حظ من الأدب، ومن قلته) وهو نعت جارح صدمنا، لكن عبد الله تصالح معه فاجتره في بعض كتاباته. أما بالنسبة لي فقد ظل دكتور إبراهيم كاتباً قديراً ينظر وينقّب ويبتدر ويبادر وينحت دروباً إبداعية في الفكر، وإن كان في بوصلته، برأيي، انجذاب شديد تجاه الدقيق والتفات أقل للكلي. (2) والحمد لله أن مجموعة (الأحداث) البريدية استطعمت منّ عبد الله علي إبراهيم وسلواه. وهذا يظهر فيما قاله الدكتور عبد الله الفكي البشير وما قاله الأستاذ أحمد عبد الوهاب جبارة الله، بل حتى ما قاله الأستاذان يسن حسن بشير وشوقي إبراهيم عثمان برغم إيمانهما بلا جدوى الخطاب، وذلك لأن الواحدة في منابر أخرى مضطرة لأن تشرح ما يشكله عبد الله في برج النخبة، وما لقلمه من قوة وصولجان. فما هي دلالة خطابه ولماذا احتفينا به واهتممنا بمآله؟ (3) نحن في بلاد انقسمت فسطاطين، فسطاط أهل السلطة الذين معهم المال والصولجان وقوات معدة وعديدة وتشبثوا بمقولاتهم وانفردوا وساموا الآخرين رهقاً، وصار مبلغ همهم أن يضموا إليهم من صف معارضيهم من يقف معهم في صفهم بدون أي تغيير ليثبتوا أنهم كانوا منذ البداية على حق وأن المعارضة على الباطل، وفي فسطاط المعارضة يئس الناس من النظام كما يئسوا من أهل القبور، وكثير منهم يجترون جراحهم وغبائنهم ويجعلون فشها أولوية. وبين هذا وذاك يضيع الوطن في كل ساعة وأي ضياع.الشباب ومن خلفهم من كهول وشيوخ دهمتهم الإجراءات الاقتصادية الأخيرة التي ستسوق الشعب إلى الجبّانات وما دونها من معاناة، وتضافر ذلك مع جراح وطنية عديدة في فصل الجنوب والحروب المتفجرة التي تنذر بمزيدٍ من التمزيق، وتفشي الفساد وتردي أحوال البلاد وما إليه مما ذكره الأستاذ شوقي إبراهيم من غياب الدولة الفعلية. وما ذكره شوقي ليس بدعاً من الحقائق، فقد ظلت بلادنا تقترب من دفة الدول الفاشلة في مؤشر الدول الفاشلة العالمي السنوي (المركز الثالث)، بل وفي مؤشرات الفساد، وقلة الصرف على الأطفال، والقيود على حرية الصحافة، والحكم الشمولي ..الخ. وصحيح كذلك كلام شوقي أن غياب النفط سوف يعجل بظهور هذه الحقائق التي كانت تخفيها أموال الريع النفطي بطلاءات كثيفة على جدار هار. (4) أنا مع أطروحة أستاذي عبد العزيز حسين الصاوي أن البناء الوطني رهين بثورة ثقافية تحرر الفكر وتحقق الإصلاح الديني، وهو ذاته ما قاله الإمام الصادق المهدي وإن كانت النخبة لا تهتم بكدحه الفكري اهتمامها بالسياسي، وان الديمقراطية ليست بناءً فوقياً تحققه ثورة بل هي عملية قاعدية لا بد أن تصحبها دقرطة وثقافة مدنية شائعة، ولكنني كذلك مع مقولة إن الشمولية تبعدنا عن هذه العملية أكثر، فنحن اليوم أبعد من خطواتنا التي بدأنا فيها من قبل، قال ذلك الإمام الصادق في مقارنته للأداء في كتاب (الديمقراطية في السودان راجحة وعائدة)، أما الدكتور عبد الوهاب الأفندي فقد أكد أن طول فترة انسداد شرايين السياسة بسبب الشمولية في الباكستان كان هو السبب في تمزق النسيج الديمقراطي أكثر، قاطعاً لدى تعليقه على الانقلاب الباكستاني بأن التداوي لا يكون بالتي كانت هي الداء (أي الشمولية).إذن نحتاج أن نبدأ بداية جديدة، وأن نستفيد من دروس الماضي لئلا نعيد إنتاج الأزمة. ومن يستطيع تأطير الدعوة لذلك وتحديد الأولويات وقيادة الرأي العام نحو الأفق الجديد غير النخبة؟ (5) ككاتبة صحفية، خاطبت الرئيس عمر البشير من قبل في خطاب مفتوح طالبة إياه أن يهتم بالوطن ويتفاهم هو ورهطه، مع إخوانهم وخصمائهم كلهم بدون إقصاء على الحل، وقلت له إننا نقبّل الأرض تحت رجليه لو أراد ليفعلها من أجل رقبة الوطن! وأنا بحسب التصنيفات الأمنية من عتاة المعارضين، وخاطبه كثيرون آخرون كلهم يقعون في خانة (الوقفة النبيلة) بعيداً عن الشمولية وبناءاتها. وكلنا لا يُسمع صوتهم في فسطاط الحكومة التي في أذنها من حديثنا وقر. (6) لكن عبد الله علي إبراهيم قدم للإنقاذ سبوتا كثيرة: كتاب (الإرهاق الخلاق) كان مرافعة تدفع الناس للتعاطف معها، وقد تحسرت منه كثيراً وقلت لأستاذي إنه بمثابة من يغني للمريخ في استاد الهلال، فنظّارته والذين يستطعمون كتابته معارضون في غالبيتهم ومعظم أولئك الذين يغني لحنهم لا يرونه إلاّ (شيوعي اهتدى)، أو ربما لم يهتد ولكن (قال الروب) وليست للسانهم ذائقة تجعلهم يتمطقون المن والسلوى الخارجين من بطن قلمه شراباً لذة للشاربين.ومن سبوته كذلك (الشريعة والحداثة) التي أظهر فيها تعاطفاً بالغاً مع تيار الإسلاموية السودانية الحديثة منذ نشأته ومع عرابه. قلت له يوم ناقشت (الصحافة) تحت قيادة الأستاذ عادل الباز الكتاب في ندوة فكرية: كتابك كله نظرة نقدية علمية وموضوعية لا تسلم بمقولة ولا تركن لدوغما، إلاّ في الفصل الخاص بمحاورة الدكتور حسن الترابي فلماذا كل هذا العطف الذي يحيد عن موضوعية العلم ونقديته؟ قال لي ما معناه إن الترابي ورهطه ما فتئوا يُنتقدون منذ أن ظهر في الساحة أمسية 21 أكتوبر 1964م وحتى اليوم ولذلك استحقوا لديه ذلك العطف.ومن سبوته ما قاله وأشار إليه في مقاله الأخير حول دعوته الباكرة لأن تعطى «الإنقاذ» فرصة باعتبارها مشيدة بيد جيل جديد.ومنها حملته المستمرة على (المعاريض) وخشيته أن يضيع السودان الشمالي وتضيع العروبة والإسلام بسبب تفريطهم. وهو خطاب نماه عبد الله ضمن تصالحه الفولكلوري مع حكمة الشعب، وكذلك ضمن نفوره المتزايد من فكرة (الوقفة النبيلة) كما شرح في بعض كتاباته، واحتفائه بموقف المصانعة لبناء الوطن، كموقف الشيخ أحمد هاشم وغيره ممن لم يرفعوا أيديهم عن البناء لاعتراضهم على الاحتلال أو على الشموليات.هي سبوت أثبتت أن عبد الله لا يحمل غلاً خاصاً ضد الإنقاذ، فصنف لديها ضمن الكتاب الموضوعيين، بينما نحن ومن لف لفنا من الموتورين وشذاذ الآفاق.ومع تلك السبوت، فإن ما كتبه اليوم ينتظر أن يجد من ورائه أحدا وأثنينا بالاستماع لنصحه، إن لم يكن من الرئيس عمر البشير شخصياًً فإنه سيكون له وقع لدى نخبة «الإنقاذ» المثقفة، وهؤلاء منهم من لا يزال يغالط ويعلك لبانة التبريرات التي من فرط علكها مسخت في لسانه قبل لسان نظارته. وها هو الدكتور خالد المبارك يرسل شاكراً أن وصله المقال في بريده ونحب أن يصل كذلك إلى وريده، ومنهم من لم يشكر ولكن نظنه أو نحبه أن يتدبر! وقيمة الخطابات المفتوحة يا أخي الأستاذ يسن حسن بشير، ليست في مظنة استماع المخاطب، بل في توجيه الرأي العام كله تجاه انتقاد موقف ما وتعريته. وكلما اتسعت قاعدة التعرية كلما عجّل ذلك بانهيار الجدار.وكلما كان المُعرّي أقرب كلما كانت خبطته أوجع وأدعى للانهيار. فمقال عبد الله هذا أقوى من كل ما كتبنا وما ينتظر أن نكتب ويكتب المعارضون، لمكانة الكاتب بين النخبة، ولموقفه الذي لم يصل حد القطيعة مع النظام.ويزيد عن قوة خبطة مقال إبراهيم ربما بيان الرابطة الشرعية التي انتقدت التصدي للتظاهرات بتعسف وقطعت بمشروعيتها، وهي الرابطة التي كانت تزين للنظام كثيراً بطشه بالرأي الآخر. (7) وأقول لأستاذي الجليل عبد الله علي إبراهيم الذي طالب بدعم الشباب وسد احتياجاتهم، إن هناك من دعا لصندوق لدعم الجرحى، وبحسب تجربتي الخاصة في جمعة (لحس الكوع)، بادر أطباء بتقديم خدمات التطبيب كافة وأحضروا معهم عربة (أمجاد) فيها أدوية وأدوات إسعاف، وحتى بعد أن صودرت قالوا إن ما أمد به الأهالي سد الثغرة، بل خرجوا بحصيلة وافرة فاضت عن حاجتهم وسوف تكون زاداً للأيام المقبلة بإذن الله. وفي نفس يوم الاعتصام جاءت جرادل (البليلة) من جهات لا يعرفها المعتصمون بمسجد الإمام عبد الرحمن بود نوباوي ولا طالبوها، وزجاجات الماء والخل والبيبسي والكمامات التي تقي شر الغاز البذئ بتعبير أستاذنا محمد المكي إبراهيم.صحيح أن الالتفات لحاجات المتظاهرين مهم ولكن لا ننسى أننا مجتمع نفيري فحينما تقوم حاجة يهب الجميع لسدها.وبرأيي أن ما يحتاجه هذا الشعب الحر من نخبته الآن هو أن يهبوا كلهم بصوت واحد يقول: حرية.. حرية.. حرية. وليبق ما بيننا