من العبارات المؤلمة التي تقع على النفس موقعاً سيئاً (عبارة استقلال الجنوب)، عوضاً عن (انفصال الجنوب)، فقد قفزت هذه العبارة غير المغسولة إلى صفحات صحف الخرطوم دون إعادة ضبطها لتتكيف مع واقع الحال، وأصبح سياسيون كبار يرددونها في إشارة غير ذكية لعملية البتر الموجعة التي حدثت لجزءٍ من بلادنا، وكأن علاقة السودان مع جنوبه في السابق ، كانت محض مستعمر بغيض. بالطبع، لم يكن السودان يوماً مستعمراً لبعضه.. صحيح ان الجنوب كان بمثابة شوكة في خاصرة الشمال لفترة طويلة، ولكن الشمال إحتمل كل آلامها وقدم لها فوق ما يستطيع لمداوتها، وقد بحث عن ذلك الدواء في أبوجا وفرانكفورت ومشاكوس ونيفاشا ومدن أخرى، ولما أعياه المرض لجأ إلى عملية بتر تحول في إعلامنا فجأة ، إلى (استقلال). في الذاكرة السياسية ، ارتبط الاستقلال بالإنعتاق من المستعمر ، أي مستعمر بعد طول نضال كالذي سطره يوماً الزعيم الأزهري عندما كانت بلادنا ترزح تحت وطأة المستعمر البريطاني المصري، أما ما حدث في جوبا التي كانت جزءاً من السودان الكبير فكانت أشبه بعملية فك الإرتباط ولن تفلح كل محاولات لى عنق الحقيقة لتصبح استقلالاً. فخروج الجنوب من عباءة الوطن الفسيح لا يعني وجود مستعمر ، فهناك فروق جلية ، والتجارب التاريخية الشبيهة شاهدة على ذلك. فعندما خرجت بنغلاديش من جلباب باكستان لم يتحدث أحد عن باكستان بوصفها مستعمراً. وكذلك الحال عندما انقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى الشيك والسلفاك، لم يتحدث أحد كذلك عن مستعمر واستقلال كما يحدث الآن بين السودان ودولة الجنوب السودان. من الآخر، فإن نصيب الجنوب من الاستقلال علم ونشيد ، بينما هنالك الكثير الذي يبرهن على أن ما تم انفصالاً لمجموعة سكانية شبه متجانسة قررت بمحض قواها العقلية أن يكون لها وطنها الخاص، وهذا حقهم بالطبع، لكن من غير الانصاف اختزالهم للعلاقات الطيبة التي كانت بين الشمال والجنوب في المسافة الفاصلة بين الدولة المُستعمِرة والمُستعمَرة، فهذا الأمر ينفيه عمق الصلات بين الشعبين وخصوصيتها حتى على أيام الحرب، وتفندها روابط الجغرافيا، وتكذبها حقائق التاريخ الناصعة.. فنحن لم نكن أبداً في يوم مُستعمِرين.