(لا عودة للوراء.. وسنرمي قدّام مع إخواننا الجنوبيين).. عبارة قد تعني الكثير في إستراتيجية ومستقبل العلاقة مع جنوب السودان عندما قالها الرئيس عمر البشير عقب عودته من أديس أبابا أمس، بعد التوقيع على اتفاق تعاون مع جوبا، وبعد أن بلغ التوتر مداه بين الخرطوموجوبا الفترة الماضية، وظنّ المراقبون أن شبح الحرب سيطل من جديد لا محالة، وأن الاتفاق لن يحدث بين فرقاء الأمس واليوم.. أتَت الرياح بما تشتهي مصالح البلدين، وبما لا يحقق مصالح (أبالسة) الشتات. أرضاً سلاح .. اتفاق أديس الذي أدخل (أرضاً سلاح) حيِّز النفاذ، قابلته الجماهير الخرطومية بعد طول ترقب وقلق بابتسامة واسعة حينما بعثت رحلة العائدين من جولة التوافق الأثيوبي أمس، روح الأمل في صفحة الفجر الجديد لشعبين عانيا المُر في غياب ذلك التوافق. هبوط إستراتيجي الطائرة التي هبطت بمطار الخرطوم بعد الرابعة والنصف من عصر أمس قادمةً من أرض النجاشي، دفعت بأجنحتها البيضاء روح الثقة وإمكانية الحلول السّياسيّة دون اللجوء إلى هدير الرصاص كإستراتيجية طويلة المدى مع جوبا. مع الجماهير الرئيس البشير لدى نزوله من الطائرة الرئاسية بدا عليه الشعور بالراحة بعد أن أدّى فرض الوطن كاملاً في ميقاته.. قابلته قيادات الدولة ومسؤولوها على رأسهم نائبه الأول علي عثمان محمد طه، بجانب لفيف من السياسيين ورموز المجتمع والطرق الصوفية، بالتصفيق والتكبير.. دلف البشير بعد وقتٍ قصيرٍ قضاه بقاعة المطار الرئاسي إلى الجماهير المتعطشة لسماع تفاصيل الاتفاق. البشير أكّد أنّ الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها مع جوبا ستكون نهائية للخلافات كافة بين البلدين، وأنّ الأيام القليلة المقبلة ستشهد تنزيل الاتفاقات وبداية التطبيق الفعلي لها. وفي خطوة تُعد من باب حُسن النية السودانية تجاه الجنوب، قال البشير: (حنرمي لي قدّام في تنفيذ الاتفاق)، لكنه نبّه إلى ما أسماهم ب (الشواطين وأبالسة الجن والإنس) الذين قال إنهم حاولوا تأجيج النزاع والتحريض على الاتفاق لقيام حرب شاملة بين الدولتين، لكنه أكد أن صبر الجانبين على التفاوض حقق السلام.. وعاد ليؤكد إنطلاق العلاقة بين جوباوالخرطوم نحو تبادل المنافع والتعاون والرأي وجعل الحدود مَرنةً لعبور الرعاة والعمال، وقال: لن تكون الحدود وسيلة لتبادل الأسلحة والذخائر. رغبة سلفا وبرغم مما تختزنه الذاكرة السودانية من غدر جنوبي، إلاّ أنّ البشير كان متفائلاً باللقاء الذي جمعه وسلفا كير عقب توقيع الاتفاق، وقال إنّه لمس رغبة أكيدة من رئيس جنوب السودان في تنفيذ ما تم عبر آليات محددة بغية التوصل لحل يرضي شعبي الدولتين، خاصة وأنّ السودان يهم بتحقيق السلام الذي وصفه بمفتاح القضايا السياسية والأمنية كافة. رجالة نيفاشا البشير الذي أكّد رغبة بلاده في إحلال السلام، قال إنّ الإنقاذ في بواكير حكمها عقدت مؤتمراً لقضايا السلام الذي اعتبره غاية وسيلتها الحكم لديهم لتحقيق الأمن والرفاهية، ومن ثمّ جلسنا للسلام في المنابر كافة وآخرها اتفاقية نيفاشا التي ظن البعض أننا لن ننفذها، وزاد: (اتفاق نيفاشا نفّذناهو وزدنا فيهو رجالة). جوارٌ آمنٌ السودان الذي يتوسط عدداً من الدول، يعتبر تأمين العلاقة معها إستراتيجيا للخرطوم، وأن الأخيرة سعت الفترة الماضية في عقد العديد من التفاهمات بالطرق الدبلوماسية كافة حتى تم التوافق مع غالبيتها على رؤى مشتركة تحفظ حقوق الخرطوم وتجنبها الاحتكاك، وآخرها دولة الجنوب التي تم التوقيع معها أمس الأول على اتفاق للتعاون وتبادل المصالح والمنافع. وأكد البشير أن الخرطوم ستسعى لحدود مرنة مع جوبا، وعلاقات لتبادل المنافع مع دول الجوار كافة. كواليس التفاوض الوفد الحكومي الذي حط برفقة الرئيس البشير بالخرطوم أمس، أبدى جميع أعضائه تفاؤلاً خالياً من الحذر والنكوص من جانب جنوب السودان عن العهود. وأكد الفريق أول ركن مهندس عبد الرحيم محمد حسين وزير الدفاع، رئيس اللجنة الأمنية بالوفد الحكومي المفاوض، أن قمة الرئيسين البشير وسلفاكير أسهمت في دفع المباحثات بصورة قوية ومكّنت وفدي التفاوض من الوصول إلى هذه النتائج المتقدمة، التي وقع عليها الرئيسان, وأضاف عقب وصول الوفد مطار الخرطوم أمس، أن القمة الرئاسية مكّنت الطرفين وزادتهما حرصاً في الاستمرار. ونقل عن البشير التزام سلفا بتنفيذ الاتفاقيات كافة، التي يستفيد منها شعبا البلدين، وأشاد بدور رئيس جنوب السودان في التوصل إلى اتفاق التعاون الحالي الذي يقوم على (8) اتفاقيات مُصنّفة تحت بنود الترتيبات الأمنية والاقتصادية والخاصة بأوضاع المواطنين في البلدين. وأوضح عبد الرحيم أنّ اتفاق الترتيبات الأمنية الذي شَابت قضاياه العديد من العقبات، تم تذليلها ونجحت المساعي حولها خاصةً في فك الارتباط والانسحاب الفوري غير المشروط من قِبل الطرفين، بجانب قضية المنطقة منزوعة السلاح التي حدد لها (10) كيلو مترات من كل جانب. تنفيذ فوري وزير الدفاع الذي وَصَفَ الاتفاق بالشامل، قال إن آليات تنفيذه ستبدأ فوراً لفتح علاقات قوية بين البلدين، وأبدى امله في الانتقال بالعلاقات إلى مرحلة التعاون والجوار الآمن ليكون الكاسب هو شعبا البلدين، وأن تكون تلك الاتفاقيات أساسا لسلام دائم. خصوم الأمس إدريس عبد القادر رئيس الجانب السوداني في التفاوض مع الجنوب، تحدث عن خصوم الأمس سلفا وباقان أموم بإيجابية، وقال إنهما أبديا روحاً طيبة ومرونة كبيرة حتّى تمّ التوصل إلى الاتفاق. تفاصيل مهمة الناس في الخرطوم طرقت أذن بعضهم أنه تم التوصل إلى اتفاق مع جنوب السودان حول عددٍ من القضايا ولكنهم لا يعقلون تفاصيله والفائدة منه؟ وهل سيمحو ذلك الاتفاق ما عُلق بذاكرة استعصى نسيان ماضيها؟.. أم أنه سيذهب أدراج الرياح قبل أن تجف مداد كلماته وتجني الخرطوم ثانية ثمار حُسن نيتها؟. لكن ادريس أبدى تفاؤلاً يخلو من (أحماض الماضي)، ويعتمد في حديثه على تفاصيل مهمة. وأوضح أن الاتفاقية الأولى خُصِّصت للترتيبات الأمنية التي حرصت الخرطوم على البدء بها لكونها مفتاحا لبقية الملفات، وأكد أن اللجنة الأمنية المشتركة من الخرطوموجوبا ستلتقي على وجه السرعة لتنفيذ الاتفاق فوراً، وأشار إلى أن الاتفاقية سيتم عرضها على برلمان الدولتين لإجازتها في غضون (40) يوماً. ضخ النفط مَلَف النفط الذي يسعى البلدان للبدء فيه على وجه السرعة لأهميته الاقتصادية، يقول إدريس إنّه تم توجيه الشركات العاملة بالجنوب والشمال على الفور للبدء في استعدادات ضخ النفط، وقال إنّ الجانبين أكملا اتفاقية النفط بكل تفاصيلها فيما يختص بأسعار رسوم العبور، وطريقة الدفع والضمانات، وأشار إلى أن الجانبين تجاوزا ديون النفط الماضية إبان الاتهامات المُتبادلة من قِبل الطرفين، وأن الجانبين كل منهما أعفى ديونه لدى الآخر. آليات تنفيذ خوف النكوص عن الاتفاقيات يستبعده إدريس عبد القادر من حلبة التنفيذ الفعلي للاتفاق، ويقول إن الطرفين اتفقا على آلية وزارية حسب التخصص خَاصةً في ملف التجارة التي سيلتقي وزيرا الدولتين للدفع بترتيباتها، بجانب الاتفاق على العلاقات المصرفية التي تشمل بنكي السودان المركزيين، والمصارف التجارية الأخرى لتسهيل الحركة التجارية بين البلدين، بجانب الاتفاق حول الديون التي قال إنّ الجانبين سيجتهدان مع المجتمع الدولي ليتم إعفاء الديون خلال عامين. بالإضافة إلى الاتفاقيات غير الحكومية، واتفاقية خاصة بالمعاشات، بجانب التوصل إلى اتفاق بشأن الأضرار التي أحدثها توقف النفط التي سيدفع الجنوب ثلثها المقدر ب (3.5) مليارات دولار، ومثلها من الدول العربية، والثلث الأخير من المجتمع الدولي. تجاوز الحدود ملف الحدود الذي ظل عصياً على الحل، بجانب تداخلات تضاريس المناطق الحدودية، إلا أن وجهات نظر الطرفين تقاربت حسب رئيس الوفد الحكومي، الذي قال إن طبيعة ملف الحدود تحتاج إلى فترةٍ زمنيةٍ ليست بالقصيرة، ولكننا نجحنا في التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود المتفق عليها بين البلدين على أن يتواصل التفاوض على المناطق المختلف حولها، وأوضح أنه تمت الاستعانة بخبراء أفارقة في الملف. عقبة أبيي منطقة أبيي التي ظلّت عقبة في التوصل إلى حلولٍ بين الطرفين الفترة الماضية، تجاوزها الاتفاق الحالي بغض الطرف عنها إلى حين جولة تفاوضية أخرى، وقال إدريس عبد القادر إنّ موقف الحكومة من أبيي هو الالتزام باتفاق السلام الشامل (بروتوكول أبيي)، والتمسك بالمعايير الخاصة بالتصويت حول بقاء المنطقة شمالاً أو جنوباً، لكنه قال إنّ الاستفتاء مثل كرة القدم لا يمكن التنبؤ بنتائجه، وأشار إلى قبولهم بالحل السياسي والتفاهمات المشتركة بشأن المنطقة، وإلاّ سَيتم اللجوء في نهاية الأمر إلى الاستفتاء. المواطنة... ملف المواطنة الذي يعتبره البعض مُزعجاً للشمال، إلاّ أنّه تمّ الاتفاق عليه وسيصبح حيز النفاذ قريباً، ويُؤكِّد إدريس أنه تمّ تشكيل لجنة وزارية لتنفيذ اتفاق المواطنة التي قال إنها تخلو من الحقوق السياسية فقط، وأوضح أن وزيري داخلية البلدين سيبحثان التنفيذ قريباً وفقاً للقوانين واللوائح لكل بلد.