عاش السودان موحداً طيلة الزمان الماضي محتملاً أذى الحروب الأهلية وحسد الأعداء في مساحته وامكاناته المتنوعة وتشتت نخبته المثقفة على مشاوير « الآيديولوجيا « ... وحين تراضى أهل السودان بعد عراك « مزمن « على اتفاق يمنح الجنوب حق تقرير المصير يزهد متحمس في الحرب وتآمر دولي متربص منذ قديم الزمان مع إهمال متعمد من الحكومات طيلة العهد الوطني . أخيراً انفصل الجنوب والمجال الحيّوي في الشريط الحدودي بين دولتي السودان يكتظ بالناس والأصالة والبداوة ... حيث يعتاش أكثر من ( 8 ملايين نسمة ) على حدود تمتد أكثر من ألفي كيلومتر ... الثقافة السائدة في تلك المناطق منذ مئات السنين يتحكم فيها رأسمالهم في الحياة البسيطة من غير تعقيد ما عدا التدخل في مسارات الحياة ... حيث الماء والكلأ لمواشيهم التي تعني الوجود كله . ودون ذلك لا يعرفون طرائف الخبراء من كل صوب يرعون المفاوضات الجارية لتحل قضايا شائكة على الحدود أو أبيي أو اتفاق نفط ... هم يدركون جيداً مساراتهم في رحلتي الشتاء والصيف ... فالغالب على الشريط من الرعاة والمزارعين الذين يتكيفون بمقتضى الحال على ما تمليه الفطرة السليمة ... وحين يتجاوزون الحد الأقصى في سفك الدماء ... يعرفون كيف يعالجون ( الأزمة ) على مستواهم العشائري وإن امتد ( الخصام ) يدركون بحسهم السليم الوقت الأنسب ( لفك الخناق ) وعلى طريقتهم المثلى يمارسون الحب ويتزوجون ويتصاهرون قبل أن تقسمهم السياسة الخبيثة لأفارقة وعرب أو مسلمين ومسيحيين. فعند الزواج ( الحلال ) يتداخلون ويختلطون ليثمر هذا التناسل ( العنيف العفيف ) شكلا آخر ... ولوناً جامعاً بين السمرة الفاقعة وتلك القاتمة أو خاطف لونين . في تلك المناطق كما يعلم الكثير ليست خاضعة لسلطة المفاوضات أو محكمة لاهاي أو الخير الفهيم وادوارد لينو ... تلك المناطق الواسعة الشاسعة الممتدة بإنسانها المنتمي لحياته الفسيحة التي يمارسها على نحو ما في هذا الفضاء اللا متناهي ... قوانينها غير تلك القوانين مهما كانت الصياغة جيدة وتنسق مع القانون الدولي وتراعي حقوق الإنسان كافة . هذه المناطق ( و ساكنوها ) لهم قانونهم الخاص الذي يعدّل المعوج بطرائقهم التي تعارفوا عليها عبر مئات السنين ... ربما التدخل الحكومي من أي الطرفين يفسد قدرتهم الفطرية على معالجة شؤونهم في الحرب والسلم وفي صنوف الحياة المختلفة . المجتمع الدولي والخبراء وبعض الحكومات تعتقد أن لها خبرة كافية في التعامل مع تلك القضايا الشائكة .. ولكن العديد من النخب خاصة في جنوب السودان مثل هذه القضايا لا تحل على طريقة دينق ألور أو خارطة الاتحاد الافريقي أو المحاكم الدولية التي تتعامل مع المستندات في الوقت الذي لا يدرك السكان في تلك المناطق إلا لغة أخرى هي مكان الميلاد والممات والمكابدة مع قطعانهم التي كل الحياة . هذه اللغة لا تدخل ( الغرف المغلقة ) ولا المناورات السياسية ولا مصالح الدول ... وحين تدخل هذه المسائل في ثناياهم بالاستقطاب الحاد تتغير الكيمياء والجينات الوراثية وتبدأ الحرب التي لا تنتهي حتى تدخل القاموس السياسي الإبادة الجماعية أو التطهير العرقي ارفعوا أياديكم أيتها الحكومات شمالاً وجنوباً ولا تفسدوا الحياة كما قضاها الله حتى الصراع بين المكونات السكانية لتلك النواحي له أدب خاص لا يفهم إلا بطريقتهم الخاصة حتى السيادة لها تقديرات خاصة بهم ... ومثال تلك العلاقة في ( أبيي ) خاصة لها إرث طويل بين دينق مجوك وبابو نمر وأية اختلالات حدثت منذ ذاك الزمان وإلى الوقت الحالي ما هو إلا تدخل ( مهنة البوليس ) في الأمر ... لماذا لا يجعل دولتا السودان من ( أبيي ) نموذجاً لحلم التكامل في الشمال و السودان الجديد في الجنوب ؟؟ ..الأخبار التي رشحت بعد المحادثات المضنية بين الرئيسين في أديس أبابا لم تحرز تقدماً في ملف « أبيي « الذي إذا لم يتخل الطرف الجنوبي عن إحاطته « بالمكان « ستولد حالة نزيف متواصل . على القادة في الدولتين أن يرتفعا عن « الأنا « ويحدثا اختراقاً في « أبيي « لتصبح حلم العودة الطوعية للسودان الموحد يوماً ما حتى يتغنى الجميع بأهازيج تلك المناطق الساحرة التي تعكس تنوعاً مدهشاً واختلاطاً راقياً ... وفي هذه النقطة الاختلاط غير محرم وفقاً للمذاهب الأربعة !!!!