من موسكو المتوهطة فوق وسائد الشيوعية تاريخاً الى الخرطوم، كانت ابيى مادة خصبة لابراز مدى الحرص الروسي على تقاسم النفوذ مع الامريكان داخل القارة المكلومة على حساب الملفات السودانية، لتعلن عاصمة البلاشفة سابقاً موافقة الخرطوم على تقسيم منطقة بمساحة لبنان كما يقول أبناؤها ، بعدما ظلت محل الخلاف مع الجنوب. ميخائيل مارغيلوف الممثل الخاص للرئيس الروسي لشؤون التعاون فى أفريقيا كشف لوكالة دولته، أنه بحث ملف أبيي مع الرئيس البشير وما تم الاتفاق عليه مع الجنوب، ونقل مارغيلوف عن الرئيس البشير موافقته على تقسيم أبيي بين قبيلتي دينكا نقوك والمسيرية فى سبيل تعزيز السلام وعلاقات حسن الجوار مع الجنوب.. الخرطوم لم يصدر عنها رسمياً ما يؤكد موافقة الرئيس، لكن مجالس المدينة وتخومها تعاملت مع مقترح التقسيم كواقع يتسق مع سيناريوهات البحث عن حل، بعد استماتة المسيرية فى موقفها بلاءاتها المعروفة لكل الحلول بدءاً (بلا للحرب مروراً بلا للاهاي انعطافاً بلا لترسيم الحدود وصولاً للا الاستفتاء).. جوبا كذلك التزمت الصمت حيال حديث المبعوث الروسي ولم يخرج عنها حتى ما يؤيد استحسانها الفكرة، كأنما تستعصم بآخر تصريحات وفدها المفاوض، بأنه لا تفاوض حول أبيي مع الخرطوم، تمسكاً باحالة الملف لمجلس السلم والأمن الافريقي.. مقترح التقسيم - الموافق عليه بحسب المبعوث الروسي- لم يبد مفاجئاً للكثيرين، ويبدو كمن (دقش اضانهم) من قبل، ويذهب المراقبون الى أنها ليست المرة الاولى التي يبرز فيها على سطح الاحداث ، ويعرفونه باسم المقترح الامريكي فى اشارة لمصدره الاول ابان وجود المبعوث الامريكي اسكوت غرايشون بالخرطوم ، ويرى المقترح أن أزمة ابيي لن تحل فى ظل تمسك كل طرف بموقفه، ما يفرض تقسيم الارض بينهما أي بين الشمال والجنوب ودينكا أنقوك والمسيرية ، وهو الامر الذي لم يصدر ازاؤه اي تعليق من الطرفين منذ انس قدمه غرايشون قبل أعوام. ويبدو أن خطورة المقترح تأتي من كونه يمس بالتقسيم أحد مقدسات المسيرية أي الارض التي تعدها خطاً أحمر ، ما جعل بعض المحللين يتوقعون رفضاً من قبل المسيرية للمقترح أو للموافقة الرئاسية حال تمت بالفعل، كما سيواجه رفضاً من قبل دينكا أنقوك باعتبار أن أصل الحلول لديهم هو الاستفتاء الذي يمنحهم ميزة على بقية المكونات السكانية أو السودانيين الاخرين طبقاً لمفردات بروتوكول أبيي ، بالتالي فان النظر فى المقترح وتداوله يظل رهيناً بقول الطرفين الاهليين له أو يظل كأنه لم يكن. سيناريو المفاجآت فى الخرطوم لم يشأ التوقف عن الانهمار، ففى الوقت الذي راهن فيه الكثيرون على فشل القمة الرئاسية بأديس ابابا عن التوصل لأي اتفاق خرجت من رحمها ثماني اتفاقيات وقع عليها الكبار، لتعلن أمس رموز من قبيلة المسيرية موافقتها على مقترح التقسيم، قبل أن تردفها بشرط أن يكون الحديث عن جنوب أبيي ، وقال علي حمدان كير عضو وفد المسيرية للاهاي وجوباواديس ابابا فى ندوة عن ابيي أمس (مقترح التقسيم ليس حديثاً، وعندما تم التطرق له سابقاً ابدينا موافقتنا اذا كان جنوب بحر العرب). ونقل الرجل تفاصيل تقديم غرايشون للمقترح وقال( بعد اعلاننا رفض قرار التحكيم ووقوفنا ضد لجنة ترسيم الحدود ، تم ترتيب لقاء بالنائب الاول بواسطة مولانا أحمد محمد هارون الذي أقسم بأن موضوع ابيي لم يناقش فى نيفاشا، وانما تم تداوله بقاعة الصداقة وفى مجلس الوزراء، وسمح لنا بالاستماع للتسجيلات حول الامر، وجدد قسمه بأن الحكومة لم تتخذ أي قرار حول ابيي الا بعد الرجوع لأبناء المسيرية واشار الى الحريكة عز الدين وصلوحة )، وأضاف (بناء ً على ذلك تم تكوين وفد للذهاب الى اديس ابابا بمعية الفريق قوش، وشرحنا موقفنا للمجتمع الدولي والإقليمي ، الذى أعاد قراءته للموقف على ضوء الحقائق التى نقلناها، مما أجبر غرايشون على تقديم مقترح يتجاوز نيفاشا ولاهاي وكل الاتفاقات التي لم يشارك فيها المسيرية). فى المقابل قطع ناظر قبيلة المسيرية مختار بابو نمر فى وقت سابق ل(الرأي العام) برفضهم لأي حل حول ابيي لم يشاركوا فيه، وقال ( لا تقسيم الا جنوب بحر العرب ، أما شماله فهي مناطق مقفولة للمسيرية). مخاوف الخرطوم حول مصير ابيي ، لم تهدأ إلا وتنطلق من جديد طيلة الفترة الماضية، آخر مخاوفها تزامن مع قرار احالة الملف الى مجلس الامن والسلم الافريقي ، بعد تمسك الرئيسين البشير وسلفاكير بموقف رعاياهم ومصالحهم فى المنطقة، لتفشل بذلك آخر مقترحات الوساطة حول المنطقة، ونص حينها على إجراء استفتاء للمنطقة في أكتوبر من العام المقبل لتقرر فيه قبائل دينكا نقوك بجانب السودانيين الآخرين المقيمين بالمنطقة إما الانضمام للجنوب أو الشمال، كما نص المقترح على انشاء مفوضية لاستفتاء أبيي يرأسها الاتحاد الأفريقي وتضم ممثلاً للشمال وآخر للجنوب، ومن مهامها تحديد من هم السودانيون الآخرون وفترة إقامتهم التي يحق لهم بموجبها التصويت، بالاضافة لتقديم ضمانات للمسيرية فى مقدمتها حقهم فى العبور والرعي، ومنحهم نسبة 20% من بترول أبيي لمدة 5 أعوام، وإعطاء قبيلة الدينكا 30%، والدولة التي ستؤول لها المنطقة 50%، وأقر المقترح أن يتم الاستفتاء تحت رعاية الأممالمتحدة والاتحاد الأفريقي ، وأشار المقترح الموءود إلى فترة انتقالية لمدة 3 أعوام تكون فيها المنطقة تحت إدارة اللجنة الإشرافية المشتركة بين الجانبين. محمد عمر الانصاري القيادي بالمسيرية رئيس جبهة تحرير ابيي أعتبر فى حديثه ل(الرأي العام) أن المسيرية بعيدين كل البعد عما يتم التداول فيه بالتالي فهم ليسوا مهتمين به وأنهم يرفضون اي حلول ليسوا جزءاً منها، وقال(نحن اهل المصلحة ولم يشاورنا أحد فى مقترح الوساطة أو غير مقترح الوساطة، وتفويضنا للمفاوضين سياسي وليس حول الارض وحدودها)، واضاف(مع احترامنا للحكومة، لكننا نتحفظ على اي حل يطرح ، ونحن غياب فى الوقت الذي تأخذ الحكومة ابناء النيل الازرق وجنوب كردفان للتفاوض، بالتالي أي توقيع لأي اتفاق بدوننا يعني ان ثمة شيئا تحت الجسر). بعيداً عن حسابات السلام والحرب فى أية تسوية يمكن التوصل اليها بين جوباوالخرطوم، الا أن المراقبين ينظرون للمقترح الاخير بالتقسيم، ك(طوق نجاة) من الاستفتاء غير مأمون النتائج الذي ربما يمنح ابيي للجنوب، كما لا يمكنه ضمان استقرار المنطقة لعدم قبول المسيرية به، مختار بابو نمر في حديثه ل(الرأي العام)أن المقترحات التي تقدمت مبنية على الخداع وقال(لن نوافق على اي استفاء سواء فى يناير او أكتوبر ، ولن نفرط فى ابيي فالموت اهون، ونقصد بابيي حدودنا التي يجب أن يدركها الجميع وتمتد حتى بحر العرب). الموافقة الرئاسية على ذمة المبعوث الروسي ، ربما تجد أرضيتها الخصبة باستحسان الحزب الحاكم للفكرة نفسها، ويبدو أنه لا يستبعدها ولعلها شكلت قناعة لدى العديد من قياداته، حيث شهد الاسبوع الاخير من سبتمبر الماضي تأكيدات سامية أحمد محمد نائب رئيس البرلمان، القيادية بالمؤتمر الوطني- بصفة شخصية - أن تقسيم أبيي أفضل الخيارات ويقود إلى استقرار المنطقة، وهو ما يجعل تعاطي الامر على المستوى الرسمي فى الدولة أمراً مقبولاً لدى دوائر المحللين والمراقبين.