تقليل الوجود الدبلوماسي الاجنبي في الخرطوم ، كان النتيجة المباشرة عقب كل حدث جلل ، آخرها تقليص عدد الدبلوماسيين الامريكان الذين حددتهم مصادر بحوالي (15) دبلوماسياً عقب قصف إسرائيل لمصنع اليرموك مُباشرةً. هناك مسلمة جديدة فرضت نفسها على اذهان بعض الدبلوماسيين الاجانب في الخرطوم فيما يبدو ، وتمثلت في أن من لا يستطيع حماية ارضه تماماً قد لا يستطيع حماية من يعيش عليها كذلك .. مسلمة أضحت لا تحتاج لإقرار الخرطوم الرسمي في سياق الابخرة المتصاعدة من قصف مصنع اليرموك ، فانتهاك الاجواء السودانية أصبح وسيلة الترفيه الوحيدة للطيران الاسرائيلي. علي كرتي وزير الخارجية أعتبر تقليص الادارة الامريكية لعدد دبلوماسييها العاملين بالخرطوم في أعقاب قصف مصنع اليرموك ، بأنه أمر يخص واشنطن وحدها ، وتابع : (تقليص الدبلوماسيين الأمريكيين العاملين بالخرطوم عقب قصف مصنع اليرموك يُشير الى إحساس واشنطن بأنها طرف فيما حدث حتى ولو كانت طرفاً غير مباشر ، أكثر مما يشير إلى حرصها على سلامة دبلوماسييها). بينما ذهب دبلوماسي - فضل حجب اسمه ? ل(الرأي العام) أنه كان من الاجدر أن تسحب الادارة الامريكية رعاياها أو دبلوماسييها قبيل الهجوم لا بعده اذا كانت بشكل غير مباشر على علم به.. وزير خارجية السودان علي كرتي أكد حديث الرجل استباقياً بقوله ل(الرأي العام) أن ثمة اتصالات جَرَت بينه وبين وزارة الخارجية الأمريكية إلى جانب أخرى بين أجهزة المخابرات في البلدين ، بغرض الحصول على تطمينات بأن السفارة بالخرطوم لن تتعرّض لمثل ما تعرّضت له إبان الاحتجاجات على الفيلم المسيئ .. ما يشير الى أن واشنطون تتشكك في امكانية توفير الحماية اللازمة لمبعوثيها من ذوي الجوازات الحمراء .. تقارير اعلامية نقلت فحوى اتصالات عقب الاعتداء الإسرائيلي على اليرموك بين مدير المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) جنرال ديفيد باتريوس ونائب المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات السوداني الفريق صلاح الطيب القائم بمهام المدير العام للجهاز ، على خلفية توجيه السودان الاتهام إلى إسرائيل وتحميلها المسؤولية عن الهجوم على مجمع اليرموك الصناعي لشرح الموقف الأمريكي ووجهة نظره عن الاعتداء ، ونفى المسؤول الأمريكي أي علم للأجهزة الأمريكية بالتحضير للهجوم أو أن تكون أمريكا قد ساعدت إسرائيل لوجستياً على الاعتداء ، وأن الطرف الامريكي كان حريصاً على إبلاغ الجانب السوداني رسالة مفادها وجود قلق أمريكي على أمن وسلامة الرعايا الأمريكيين من الدبلوماسيين وغيرهم بالسودان ، وضمان عدم تعريضهم لأية مخاطر محتملة من ردود أفعال شعبية غاضبة عليهم ، بسبب الاعتداء الإسرائيلي وربط ذلك بالحماية الأمريكية لإسرائيل. من جانبه حرص الطرف السوداني على شرح موقفه ، لواشنطون وأن السودان قادر على تحمل مسؤوليته في حماية الرعايا الأجانب بأراضيه بمن فيهم الأمريكان ، وطالب الادارة الامريكية بالضغط على إسرائيل وثنيها عن تصرفاتها الطائشة ، لكون أمريكا الدولة الكبرى ذات النفوذ الدولي التي توفر الغطاء الأمني والدبلوماسي والحماية العسكرية لإسرائيل ، وتمدها بالمعدات العسكرية المتطورة من طائرات وقنابل ، ما يجعلها تتصرف وكأنها تمسك القانون الدولي بيدها وتعرض أمن المنطقة للخطر. تقليص البعثات الدبلوماسية في الخرطوم بعد ضرب مصنع اليرموك ، أعاد للأذهان سيناريو المطالبات الامريكية بالسماح ل(المارينز) بالمجئ للخرطوم لحماية منشآتها ورعاياها منذ الاعتداءات الجماهيرية على مبنيي السفارة الالمانية والأمريكيةبالخرطوم احتجاجاً على الفيلم المسئ للرسول (صلى الله عليه و سلم )، وما اذا كانت للتطورات الاخيرة يد في احتمال تغيير موقف الخرطوم للحفاظ على ما تبقى من وجود دولي شرعي على أراضيه .. كثيرون يذهبون الى أن البعثة الدبلوماسية الامريكية هي أهم البعثات لجهة أنها تنتمي للدولة الأكبر في النظام الدولي وصاحبة الفاعلية شبه المطلقة في السياسة الدولية ، واتخاذها لأي موقف ينسحب تلقائياً على بقية البعثات الدبلوماسية ، ومن شأنه ارسال رسائل سلبية لبقية الدول الموجودة بالخرطوم. ويذهب المصدر الدبلوماسي المتقاعد الى أن الخرطوم بعد استقبالها داخل مياهها الاقليمية للسفن الايرانية ، تكون كما لو أعلنت ضمنياً تخندقها ضمن أعداء الولاياتالمتحدةالامريكية وتوحيد الموقف السوداني الايراني ولو على مستوى العلاقات الايجابية ، ناهيك عما يحتمل أن يكون بمثابة تحالف سياسي او عسكري دفاعي ، ما يخلق توقعات بنقل ميدان المعركة الى قلب الخرطوم بعيداً عن الشواطئ الاسرائيلية او الايرانية ، الامر الذي يكلف الخرطوم كثيراً دون أن يعود عليها بشئ في الواقع. وأعتبر المحلل السياسي د.عبد الناصر سلم في حديثه ل(الرأي العام) أن سحب الامريكان لدبلوماسييها للحد الادنى يشير لتوقعات قد تكون مخيفة ، خصوصاً اذا كان التصرف الاسرائيلي منفرداً دون تنسيق مع واشنطون ، باعتبار أن الادارة الامريكية في هذا التوقيت تستهدف اطفاء البؤر الملتهبة لا العكس أي اشعالها حتى انتهاء الانتخابات الامريكية ، ما يجعل واشنطون غير قادرة على احكام سيطرتها على أفعال تل أبيب ، ويثير مخاوفها حال عجزت عن كبح الانفلات الاسرائيلي .. عموماً لم تكن المرة الاولى التي تقدم فيها واشنطون على تقليص أو سحب دبلوماسييها من الخرطوم فسبق أن قامت ابان قصف مصنع الشفاء في أغسطس 1998 م بدعوى تصنيعه لأسلحة محرمة دولياً ترتبط باستثمارات اسامة بن لادن ، وفي رد فعل طبيعي قامت الحكومة السودانية في سبتمبر من ذات العام بسحب السفارة السودانية من واشنطن احتجاجاً على قصف المصنع ، قبل أن تصعد الخرطوم الموقف قانونياً بتقديم شكوى رسمية ضد الولاياتالمتحدة لمجلس الأمن مطالباً بإرسال بعثة تقصي الحقائق والتعويض المادي عن الضرر الذي لحق به جراء القصف. سبتمبر الماضي ، شهد مرة أخرى تصفية حساب بين العاصمتين على حساب دبلوماسييهم ورعاياهم ، ووجهت واشنطن أفراد عائلات دبلوماسييها وموظفيها غير الأساسيين بمغادرة سفارتي الولاياتالمتحدة في تونسوالخرطوم بسبب مخاوف امنية في اعقاب موجة من الاحتجاجات المعادية لأمريكا ، وعزت الخارجية الامريكية المطلب حينها إلى الوضع الامني في تونسوالخرطوم .. الخرطوم من جانبها لم تعر التقليص الاخير للدبلوماسيين الامريكان اهتماماً يذكر ، واكتفت بأنه شأن يخصهم ، دون أن تعكف على بحث مدلولاته ومضامينه ، وما يرسله من رسائل ملغومة ، ويبدو أن الخرطوم تظن أن احراجها لواشنطون يقف حائلاً دون الفيتو الامريكي على قرارات الادانة التي تسعى لإصدارها في مواجهة اسرائيل. مهما يكن من أمر ، فإن تقليص بعثة واشنطن بالسودان أمر يخص الولاياتالمتحدة حسبما قال وزير الخارجية ، ولكنه يخصنا كذلك من جهة تضمنه لرسائل أمريكية سياسية وأمنية لا تخلو من خبث دبلوماسي.