ظل اسم الوزير ذائع الصيت احمد هارون، قاسماً مشتركاً أعظم في كثير من الأنباء التي تناقلتها المراصد الصحفية الغربية وآليات إعلامها الضخمة منذ إحالة مجلس الأمن للوضع في دارفور الى المحكمة الجنائية الدولية بموجب القرار الأممي «1593».. -- فيما كان هارون الذي يتمتع بنشاط سياسي ملحوظ منكباً على إنجاز مهام سياسية كثيرة بكثرة المهام التي يتقلدها في مجالات تحسين الأوضاع الإنسانية بدارفور وتحقيق المصالحات القبلية، ونزع الألغام التي خلفتها الحرب، والألغام السياسية الموضوعة في طريق الاتفاقيات الموقعة، وفيما كان يفعل كل ذلك في الداخل، كانت وكالات الأنباء في الخارج تتناقل أنباء على شاكلة «أوكامبو يشهر البطاقة الحمراء في وجه هارون»، و«إصدار مذكرة توقيف بشأن هارون وكوشيب» وما إلى ذلك من الأنباء ذات الصلة. وبمرور الأيام، ترتفع الأصوات المطالبة بتسليم الوزير احمد هارون الى المحكمة الجنائية الدولية للمحاكمة عن دور مزعوم له في عملية إبادة في دارفور واغتصاب جماعي وجرائم اخرى ضد الإنسانية بحسب مزاعم مدعي المحكمة الجنائية. وقتذاك كان بعض المراقبين يتوقعون ان تتم إزاحة، أو بالأحرى، الإطاحة بهارون مع أول تعديل وزاري المهم أن موقف الحكومة ظل ولا يزال في قضية محاكمة مواطنين سودانيين خارج البلاد خطاً أحمر وموقفاً مبدئياً غير قابل للتراجع حتى الآن على الأقل، وغير مربوط حتى بالوضع الدستوري لهارون، وإلاَّ لكان سُلم علي كوشيب مثلاً للمحاكمة في الخارج فهو مجرد مواطن وليس دستورياً. وجاء قسم الرئيس بأنه لن يسلم هارون ليحاكم بالخارج وفي عينيه ماء، محدداً لسقف الأشياء، ومنهياً لتكهنات عديدة راجت كثيراً في مجالس المدينة الخاصة بأن يتحول الوزير أحمد هارون الى كبش فداء، بل ان الرئيس رفض حتى أن يحاكم قادة الحركات المتمردة في دارفور في الخارج. وعلى خلفية ذلك ربما بدأت الدوائر الغربية التي اربك حساباتها هذا الموقف المتشدد للرئيس البشير في التفكير بمعاقبته على موقفه هذا، وقفزت المحكمة الجنائية الدولية قفزة سياسية كبرى من المطالبة بتسليم احمد هارون وعلي كوشيب الى المطالبة بإصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس البشير نفسه. وما أن وجه أوكامبو اتهامه لرئيس الجمهورية في شهر يوليو الماضي حتى انتظمت الساحة السياسية موجة من المبادرات التي تسعى لطي ملف المحكمة الجنائية وتجميده لمدة عام، وإن كان بعض هذه المبادرات تهدف في حقيقتها الى تصعيد الأوضاع وصب المزيد من الزيت على نار الأزمة. وفي السياق، جاءت المبادرة الفرنسية التي وضعت أربعة شروط لتعليق طلب أوكامبو هي: فتح الخرطوم لحوار شامل مع حركات دارفور كافة، وتحسينها للعلاقات مع تشاد، بالاضافة الى منع حوادث القتل في الإقليم، وقبل كل ذلك محاكمة أحمد هارون وعلي كوشيب. الحكومة من جانبها قابلت هذه المبادرة بالرفض، ولم يعد يعلم احد على وجه الدقة ما الذي حدث فيما يتصل بهذه الشروط الفرنسية طوال الأيام الفائتة، حتى أزاح نائب رئيس الجمهورية الاستاذ علي عثمان محمد طه الستار عن تغيير في موقف فرنسا، وذلك عندما كشف لقناة «العربية» الاربعاء الماضي عن تلقيه رسالة من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي تحوي تعديلات في الشروط الاربعة لتعليق إجراءات المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس عمر البشير. وبحسب ما نقلته الزميلة «الصحافة» في عددها يوم الخميس الماضي عن « العربية» فإن ساركوزي اقترح تجميد النشاط السياسي لوزير الدولة للشؤون الإنسانية احمد هارون، وليس تسليمه الى المحكمة. ونظر السفير علي يوسف مدير إدارة المراسم بوزارة الخارجية الى اقتراح تجميد النشاط السياسي لهارون في إطار ما أسماه بتذبذب الموقف الفرنسي، وقال ل (الرأي العام) : «إن الفرنسيين متذبذبون فهم كل يوم يقولون حديثاً ثم يأتون فيما بعد وينفونه». وأشار علي يوسف الى أن هذا الموقف الفرنسي الأخير ليس جديداً، فقد سبق وأن تقدم الفرنسيون بمقترحات سابقة، نفوها فيما بعد تضمنت محاكمة كوشيب وتجميد هارون كخطوة أولى، وقال إن موضوع المحكمة الجنائية الدولية يحتاج الى ان يكون هناك اتفاق متضمن لكل النقاط، أما الحديث بهذه الطريقة فإن الحكومة إذا وافقت عليه سيكون بلا قيمة. لكن الناظر الى المقترح الفرنسي الأخير بشيء من الموضوعية يجده يعكس تحولاً وتغييراً نوعياً في هذا الملف، ويعكس بجلاء ان الموضوع برمته خاضع للمساومات السياسية وصلته بالقانون ضعيفة، هذا إن كانت موجودة أصلاً، فالمساومات من طبيعة العمل السياسي، أما العدلي فلا مجال معه للمساومة. ومع أن المقترح الفرنسي يكشف ان موضوع المحكمة الجنائية الدولية فيه كثير من السياسة وقليل من القانون، فإن ثمة أسئلة تطرح هنا حول إمكانية قبول الحكومة السودانية بهذا المقترح بتجميد النشاط السياسي للوزير احمد محمد هارون؟ وفي معرض الإجابة على هذا السؤال قال د. بهاء الدين مكاوي أستاذ العلوم السياسية بجامعة النيلين: إن تجارب السودان مع الغرب تشير دونما التباس الى أن التنازلات ستجر بالضرورة الى المزيد من التنازلات، وعلى خلفية ذلك فإن فرنسا ربما أرادت بهذا المقترح التمهيد لإجراءات تصعيدية اخرى وليس من المستبعد إن وافقت الحكومة السودانية على هذا التجميد أن يطلب منها في مرحلة ما تجميد نشاط الرئيس البشير نفسه. ولم يذهب المحلل السياسي د. حمد عمر حاوي بعيداً عن هذا الاتجاه، وقال إن الحديث عن تجميد نشاط هارون وتوقيف الرئيس وما الى ذلك ما هي إلا وسائل ضغط لتغيير الأوضاع في دارفور، فالقضية أصلاً ليست جنائية. وقال حاوي إن توقيف هارون لن يكون حلاً، بل عده توريطاً أكثر لأن هذا المقترح لم يقدم تنازلات حقيقية من المجتمع الدولي، ولفت النظر الى أن الحديث عن تجميد نشاط هارون ما هو إلا الجزء الظاهر من جبل الجليد. وفي سياق ذي صلة فإن الذي ينظر الى الطريقة التي سربت بها الحكومة هذا الخبر يمكنه القطع برفضها للمقترح الفرنسي، لأنها إن أرادت تجميد نشاط هارون فيمكنها فعل ذلك بمنتهى السهولة كما تفعل مع أي وزير آخر، وإن كان التوقيت ليس من مصلحة هذه القضية لأنه إن تم فإنه يشير وكأن هناك اعترافاً ضمنياً بتورطه. لذلك فقد عمدت الحكومة الى نشر هذا الحديث لتسليط الضوء على ثوب المساومة السياسية الذي يرتديه. ومهما يكن من أمر، فإن تجربة الزعيم الصربي «كراديتش» مع أمريكا كان مفادها أنه تلقى وعداً بعدم ملاحقته قضائياً مقابل أن يجمد نشاطه ويبتعد عن الملعب السياسي وكانت أمريكا تعلم جيداً مكانه، ولكن عندما احتاجوا له تملصوا من اتفاقهم معه، فالتجميد الذي تقصده فرنسا ربما كان هو أن يجمد هارون في «ديب فريزر» ومتى احتاجوا له وضعوه في «البتوجاز» بعد أن يستدرج الى ذلك عبر فخ التجميد.