أخيرا دقت وزارة العمل والتنمية البشرية ناقوس خطر هجرة الكوادر (المؤهلة)، ولا نقول بعد فوات الأوان ولكن نقول بعد ان استشعرت (الوزارة) خطورة ان نفتقد ثمرة وحصاد (مؤهلاتنا) و (محصلات) جهدنا العلمى والأكاديمى و زبدة تراكمات خبراتنا ، كيف فات علينا ان نقدم كل ذلك للآخرين على طبق من ذهب طائعين وبإرادتنا ... ما لفت نظري تلك الأرقام (التى بلغت حد الإدهاش) تأهبت للهجرة والعمل فى بلاد هى الأحوج لمثل هذه الخبرات اذ بلغ عدد المهاجرين المسجلين اكثر من (94230) مهاجراً خلال العام الماضي، مقابل (10032) هاجروا فى العام 2008 بما يعنى ان عدد المهاجرين متزايد بمتوالية هندسية مخيفة، وخطورة الأمر ان مهناً كالطب والتعليم والهندسة تقع فى أعلى سلم القائمة ، وهى من المهن المهمة ذات التأثير الأقوى على بلادنا التي هي فى حاجة ماسة لمثل هذه الكوادر ، صحيح أننا اجتذبنا عدداً مقدراً من الخبرات السودانية التى كانت تعمل فى بلاد المهجر بعد أن وفرنا لها مناخا جاذبا واستفدنا من خبراتها التراكمية، ولكن بعضا منها عاد مرة اخرى للعمل بالخارج حينما تفاقمت الازمة الاقتصادية وتراجعت قيمة ما يتقاضونه من مخصصات مالية مقابل متطلباتهم ، وهذه كان من الممكن ان تتداركها الجهات المعنية برفع ما يتقاضونه حتى نحافظ على هذه الخبرات، ولكنها لم تفعل فذهب هؤلاء من حيث أتوا ! والآن بدأ سيناريو آخر بهجرة ما تبقى من كوادر وخبرات فيما يبدو ستجفف معين ما ندخره من تراكمات الخبرات إن استمر نزيف الهجرة بذات الوتيرة إذ تقول الأرقام إن عدد المهاجرين من الاطباء خلال الفترة الاخيرة بلغ (5028) طبيبا ومن المهن التعليمية نحو (1002) معلم ، ومهنتا الطب والتعليم من أهم المهن التى لها تأثير بالغ على بناء وتنمية البلاد فمهنة الطب نحتاجها أولا فى رفد الكليات الطبية و تفريخ كوادر طبية مؤهلة.. الآن بدأت تتراجع وهذا ربما يرجع الى تراجع العملية التعليمية بأكملها التى هى الاخرى تحتاج الى مراجعة وإعادة ترتيب وبعد نظر .. ومهنة الطب نحتاجها ايضا لان تغذي مستشفياتنا (الخاصة والعامة) بأطباء على قدر عال من التأهيل، ولن يحدث هذا ما لم تكتمل دورة التدريب التى تتم ما بين الخبرات الطبية وصغار الاطباء الذين من المفترض ان يكونوا قد استقوا بعضا من الخبرات من خبراء وكفاءات جيدة قامت بتدريسهم بكليات الطب ..وفى حال فرطنا فى هذه الخبرات الطبية بإتاحة الهجرة لها خارج السودان، سيفتقد هؤلاء الاطباء (الناشئين) من يمنحهم الخبرة والدربة سواء فى كليات الطب او بالمستشفيات. والمحصلة اننا سيكون لدينا كادر طبى (ضعيف) خبرة وتأهيلا, وبالطبع ستزيد معدلات الأخطاء الصحية وسيرتفع ثيرمومتر الوفيات نتيجة الخطأ الطبي!! اما مهنة التعليم فتأثيرها الأخطر فان لم تصلح لن ينصلح المجتمع بأسره.. فكيف تقبل الجهات المعنية ان تهاجر كوادرها التعليمية وهى تحتاجها الآن قبل اي وقت مضى مع تزايد عدد الجامعات والسماح للقطاع الخاص ان يلج هذا المجال حتى اننا لا نجد ركنا قصيا حتى نرى فيه صرحا تعليميا شامخا، فمن أين نوفر الكوادر التعليمية المؤهلة لتغذية هذه المؤسسات التعليمية, ما لم نحافظ على كوادرنا المؤهلة حتى لا يضطر هؤلاء استيعاب فئات غير مؤهلة فيترتب على هذه الخطوة مخرجات تعليمية غير جيدة وقد بدأت بوادر ذلك حينما كشفت دراسة أكدت ان اعدادا كبيرة من المعلمين غير مؤهلين وهم يمارسون مهنة التدريس !! فضعف العملية التعليمية انعكاساتها تؤثر على كل القطاعات المهنية الطبية والهندسية والحرفية، وتؤثر ايضا على كفاءة الخدمة المدنية التى هى ايضا تتغذى من مخرجات الكليات التعليمية والأكاديمية، فان لم تكن تلك الكوادر على قدر عال من الكفاءة والتأهيل التى اكتسبتها من المؤسسات التعليمية لن تستطيع ان تؤدى اداء جيدا فيما يوكل لها من عمل او تكليف بالخدمة المدنية ما يترتب عليه انهيار فى هذه المؤسسات .. اذن فان خبراتنا التعليمية والطبية التى سنفقدها جراء عمليات الهجرة، يجب ان نضعها فى اطارها (الخطير) ولا ننظر لها من منظور انها ستوفر لنا عملات حرة. فهى ربما لا تستثمر عائداتها بالسودان خاصة وان الكثير منها ينظر الى المناخ الاستثماري بعين الريبة والشك وعدم الاطمئنان لما يمكن ان يعود عليه بالنفع نتيجة استثماره أمواله، هذا بجانب ان البعض ينتقد الميزة التى تمنح للمغتربين فى تحويل اموالهم للسودان، لذا فيجب ان لا نعول على هذا الامر كثيرا فما نفتقده من (عائد) تراكم الخبرات اكبر بكثير من عائد ايرادات العاملين بدول المهجر.. اما الزعم بان اتاحة الفرص لهؤلاء العمل بالخارج يتيح فرصا بالداخل لتوظيف اعداد اخرى تنتظر على رصيف التوظيف لسنوات طويلة ، فهذا المنطق ربما تكون انعكاساته سلبية اكثر من ان تكون ايجابية، لان هجرة هذه الكوادر لا تتيح فرصا لاستقاء صغار الموظفين الخبرة من تلك الخبرات المهاجرة ، لذا فالأفضل ان يُفتح الباب واسعا لهجرة صغار الموظفين وللخريجين، فمن ناحية يكتسب هؤلاء خبرة من الخارج ربما تتيح لهم (الظروف) مستقبلا نقلها الى البلاد بعودتهم فى اطار الهجرة العكسية التى قد تفتحها الدولة مرة أخرى كما حدث ذلك فى منتصف التسعينيات حينما تحسنت الاوضاع الاقتصادية باستخراج البترول وكانت الدولة تحتاج الى ابنائها المهاجرين. وإتاحة الفرصة لهجرة صغار الموظفين يجعل الفرص متاحة لاستيعاب اكبر عدد من الخريجين، فنكون هنا قد وضعنا علاجا سريعا لداء تراكم العاطلين عن العمل الذى اصابنا فى السنوات الماضية مما كانت له انعكاساته السالبة على الاسر وعلى الدخل القومى . عموما فان مسألة هجرة الكوادر خارج السودان هذه، تحتاج الى بعد نظر ومعالجة حكيمة تراعي الأوضاع الاقتصادية التى يواجهها الكثير من هؤلاء والتى اضطرتهم التفكير فى الهجرة كخيار إستراتيجى لهم ، فمطلوب من الحكومة الموازنة بين متطلباتهم وترغيبهم فى البقاء بالسودان وبين حاجة الدولة الى توظيف أكبر عدد من الخريجين وتفريخ كوادر مؤهلة تستطيع ان تحمل الراية بعد أن يذهب هؤلاء الى الهجرة الإجبارية .أو ما يمكن أن نقول اللجوء إلى العلاج المر.