استقال ثابومبيكي واختار البرلمان غاليما موتلانثي رئيسًا مؤقتًا للبلاد إلى حين إجراء انتخابات خلال سبعة أشهر. هذا هو الخبر من جنوب إفريقيا الذي يبدو خبراً عادياً، ولكن بعض المراقبين رأوا فيه نذر أزمة ماحقة في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم. كان هناك خلاف منذ فترة بين ثابومبيكي ونائبه جاكوب زوما الأمر الذي أدى إلى إقالة الثاني عام 2005م من منصب نائب رئيس جمهورية. الأسباب تعلقت بشبهة فساد مع أحد رجال الأعمال الهنود المقربين من السيد زوما اسمه شبير شيخ ، وحكمت المحكمة عليه بخمس عشرة سنة سجنا. خلال مؤتمر الحزب عام 2007م سعى أعضاء المؤتمر للتغيير وانتخاب نائب الرئيس السابق جاكوب زوما. وفي إطار هذا الخلاف بين الرجلين قدم زوما للمحاكمة مرة أخرى على ذمة قضية أخرى تتعلق باغتصاب إحدى الفتيات، ولكن المحكمة برأت الرجل بعد مداولات استمرت (15) شهرًا، فأعادت له كرامته التي أهينت بسبب خصومته مع ثابومبيكي. ولعل من المفيد معرفة الخلفية القبلية لكلا الرجلين، فالسيد زوما - زعيم أكبر قبيلة في جنوب إفريقيا والجنوب الإفريقي كله (قبيلة الزولو) ، أما ثابومبيكي فهو من قبيلة (الكوسا) التي تستأثر بالنصيب الأوفر من وظائف الخدمة العامة من الخفير إلى الوزير لأنهم أكثر عددية في التعليم من الزولو الذين تسود الأمية بينهم لحد الآن. ويجدر بالذكر أن ثابومبيكي أحد خريجي جامعات انكلترا في حين أن السيد زوما عمل جندياً برتبة عريف أيام الاستعمار في القوات المسلحة. أسباب استقالة مبيكي الآن هي أن القاضي شطب الدعوى المرفوعة ضد السيد زوما وذكر وجود تأثير مباشر من رئيس الجمهورية عليهم، ولهذا اعتبرت القضية كيدية ، وكان هذا بمثابة ضربة قاضية بعد الفوز الذي ناله السيد زوما نهاية العام الماضي في انتخابات الحزب على منافسه ثابومبيكي بفارق كبير في الأصوات. السيد زوما رئيس الحزب دعا إلى اجتماع اللجنة المركزية لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي التي طلبت من ثابومبيكي تقديم استقالته لتورطه في (دسائس كيدية) كما جاء في حيثيات المحكمة. يذكر أن ثابومبيكي كان عائدا من السودان، ويعتبر من المدافعين عن حكومة السودان خاصة موقفه الشريف في الأممالمتحدة حينما اعترض على ادعاءات أوكامبو معتبرًا إياها مؤامرة ليس لها أساس. وكان لافتاً في خطاب استقالته (الاثنين) أن مبيكي ذكر أنه حزين جدا لترك المنصب سيما وأن هنالك ملفات كان ينبغي أن ينجزها في الفترة المتبقية له من بينها ملف دارفور، ذكرها بالاسم. سيخوض السيد زوما الانتخابات القادمة بصفته رئيس الحزب الحاكم بلا منافس، فحزب المؤتمر الوطني الإفريقي - والمسيطر على البلاد ومعظم الذين حكموا من الحزب نفسه (اوليفر تامبو ثم منديلا وأخيرا ثابومبيكي وربما مستقبلا السيد زوما) لأن بقية الأحزاب الموجودة أحزاب هشة. يلاحظ أن معظم المسيطرين على الحزب - من قبيلة الكوسا القبيلة الند لقبيلة الزولو بمن فيهم السيد غاليما نفسه وبمن فيهم رئيس كتلة الشباب، وربما أن جميعهم أظهر مساندة لزوما فسرت أنها موقف غير مبدئي من أجل الاحتفاظ بمواقع في الحزب، ولكن لن تعرف المواقف الحقيقية إلا عندما تحين ساعة انتخاب الرئيس القادم. وكان من اللافت قول مانديلا عند تهنئته لغاليما إن هذا الانتخاب يحفظ وحدة البلاد. وقوبل الانتخاب بموجة عاطفية من التأييد، وكتبت صحيفة (ستار) أن غاليما قد يكون رئيس البلاد حتى عام 2014م وأن الرئيس الجديد لن يكون رئيسا لسبعة أشهر فقط. ورددت الصحف ما قاله الرئيس الجديد بعد تأديته القسم بأنه خادم لشعب أفريقيا وليس للحزب أو للقبيلة، علما أن السيد غاليما موتلانثي يتمتع بشعبية أشبه بشعبية مانديلا، فهو محبوب لدى قبائل الزولو علما بأنه من قبيلة الكوسا، ولا شبهة في تاريخه ، كما أنه يتمتع بدعم وسند من جانب البيض. ويعني هذا انه قد تكون هنالك عقبة أمام السيد جاكوب زوما لارتباطه بعدة مشاكل، ولهذا سيكون السيد غاليما موتلانثي الحصان الأسود الذي سيغير كفة الميزان، خاصة أن ترشيحه وجد فرحة عند الأصدقاء والأعداء. عموما هذه هي قصة الانتقال من عهد مبيكي إلى عهد جديد، خشي منه المراقبون من صراع على السلطة يكون الخاسر فيها شعب جنوب إفريقيا، خاصة إذا سارت الأمور في اتجاه مواجهة قبلية بين الزولو والكوسا. ولا ندري إن كان السودان قد خسر رجلاً قوياً مسانداً له، على اعتبار أن غريمه منحاز إلى فئة في الحكومة السودانية هي الحركة الشعبية التي يقال إنها تتمتع بمزايا دبلوماسية في جنوب إفريقيا، ولدى الحركة مكتب يرفرف عليه علم الحركة الشعبية وليس علم السودان. وتأتي المنح الدراسية إلى حكومة الجنوب مباشرة ، وفرص تدريب الكوادر العاملة بما في ذلك تدريب بعض أبناء الجنوب على الطيران والملاحة الجوية! ولكن بلداً مثل جنوب إفريقيا استطاع أن يرسي توافقاً عرقياً وثقافياً بين مكونات المجتمع السياسي يستطيع أن يتجاوز مثل هذه العقبة السياسية، كما أنه يستطيع أن يوازن بين علاقاته، ليس على أساس المصالح والمنافع فحسب، بل على أساس القيم التي حاول مانديلا أن يرسيها في جنوب إفريقيا، والتي تلخصها كلمة تاريخية ألقاها الزعيم أثناء محاكمة ريفونا وأعادتها إذاعة جوهانسبيرج عندما قال : "حاربت ضد هيمنة البيض، كما حاربت ضد هيمنة السود، ذلك أنني أعتز بمثال المجتمع الديمقراطي الذي يعيش الجميع فيه في تناغم ويحصلون على فرص متساوية. إنه نموذج آمل أن أعيش من أجله وأن أراه يتحقق. وهو النموذج الذي أستعد للموت دونه إذا اقتضى الأمر". لقد أثبتت مرحلة مانديلا ممارسة لهذه القيم، وبعد انتصار المشروع الوطني الإفريقي مع مطلع التسعينيات توقع البعض أن يحل الصراع الدموي بين الزولو والمؤتمر محل الصراع السابق بين السود عموماً والبيض، لكن مانديلا استطاع أن يخيب تلك التوقعات حين دمج الزولو ضمن المشروع الوطني لجنوب إفريقيا وعمل من أجل ترسيخ قيم المساواة والعيش المشترك. وكادت البلاد أن تنزلق إلى صراع بين شخصين أو بين قبيلتين، ولو حدث ذلك، فهو إيذان بتآكل القيم والمباديء التي أنضجتها مرحلة النضال الطويلة ضد سياسة الفصل العنصري، وما يزال مانديلا يقدمها في حياته. لقد كان انتقال القيادة من مانديلا إلى خلفه انتقالا سلساً عام 1999م، وفي تقاعده من الحكم درس وأي درس للزعامات الإفريقية، وتركه المنصب لرئيس من قبيلة أخرى غير قبيلته درس آخر. وعندما بلغ مانديلا عامه الرابع والثمانين قدم درساً آخر حين تقاعد من (التقاعد) بإعلانه ترك الحياة العامة.